أتناول في كلمتي هذه فكرتين مترابطتين ( أو متشارطتين ) :
الأولى :
أن هذا البحث يتجاوب مع ظاهرة أصبحت تتأكد يومًا بعد يوم ، منذ حوالي 20 عامًا ، هي ظاهرة خروج الباحثين المتخصصين عن مجالات تخصصهم ، لطرق موضوعات تتراءى بعيدة أو غريبة عمّا كانوا قد تخصصوا فيه .
هذه الظاهرة ، وكان قد تمّ تبيّنها في العقدين الماضيين أعني طيلة ما يصطلح عليه بالتصحر الفكري ، تختلف عن التي كانت قد سيطرت في النصف الأول من القرن العشرين ، واستمرت في الربع الثالث منه. فهي - من ناحية أولى - تختلف عما سبق من عميق الظواهر بأن الباحث أو المفكر لم يعد يقبل- مثلما كان- أن يتحدث في أي موضوع , ويدلي برأيه في جميع القضايا ( على نحو ما نشاهد اليوم في القنوات الفضائية لدينا ) . وهي بهذه السمة تعلن عن تحول كبير في الدور الذي أصبح ينهض به " المفكرون" اجتماعيًا . كانوا يعتبرون قادة للفكر ملهمين , واستطابوا هذا الدور , فأقبلوا على تمثيله حتى رفعت عن الزعامات الستر , واتضح قصورها عن الإلمام بالواقع وعجزها عن التأثير في حركته.
وهي - من ناحية ثانية- تختلف عن ظاهرة التخصص المتعلمن الذي عقدت عليه آمال عريضة في الثلث الثالث من القرن الماضي عندما كانت العيون ، عيون علوم الإنسان خاصة ، مشدودة إلى العلوم الصحيحة أو الدقيقة تهتدي بها وتعتبرها مثلاً يحتذى . اختلاف هذه الظاهرة عن الظاهرتين السابقين ( الإقلاع عن البراكسيس والانصراف عن حلم التعلمن على النمط المقعّد في النظرة الحتمية) يتمثل في خروج الباحثين المتخصصين عن مجالات اختصاصهم ، في الاتجاهين ، من العلوم الصحيحة إلى علوم الإنسان ، ومن علوم الإنسان إلى العلوم الصحيحة . وفي هذا الخروج أحد مرابط الفرس كما يقال ، أي أن العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية قد دخلت في علاقات جديدة لم تعد مطبوعة بالمعيارية التي تفضل بعضها على بعض . لم تعد علوم الإنسان مثلاً تُرمى بقلة الدقة وضعف التحرّي و نقص الصرامة وضآلة النتائج . أصبحت - دون تمييز - تكتسب يومًا فيومًا مزيدًا من الأهمية .
هذه العلاقات الجديدة بين العلوم الصحيحة وعلوم الإنسان ( وما بينهما جميعًا ) أحدثت ما بدأ يصطلح عليه بالثورة المعرفية الحالية غير أنها ثورة صامتة ، بلا زعامات قيادية وبلا جيوش ثورية . ذلك أن مراكز القيادات الفكرية التي سيطرت وسادت في العقود الكثيرة الماضية ، والتي ارتاح الناس لتصوراتها ، وأصبحت مطبقة في منظومة العلوم ، هذه المراكز القيادية أصبحت عاجزة وقاصرة إزاء واقع جديد يتسم بالسرعة المفرطة في تحوله . وها هو العجز يطال التشكلات الأكثر تنظيمًا أعني الحكومات والأحزاب السياسية والمنظمات، فمعنى وجودها وضع اليد على التحول وتوجيهه هو المعنى الذي لم تعد، بوسائلها المتقادمة، بل البالية أحيانا، قادرة عليه.
الواقع الجديد الذي انهزمت أمامه الأيديولوجيات ثم انهزم أمامه العلم بديلاً للأيديولوجية كشف عن أن الأيديولوجية والعلم قاصران ، لأنهما - من بين ما ينهضان عليه من ألوان الوهن- لم يهتما من الواقع إلا بجوانب دون أخرى ، وهذه الجوانب كانت تبدو غير جديرة بالاهتمام، فظلت مهمشة لا تستحق فضل عناية.
الفكرة الأولى إذن أن كتاب الوهيبي يدخل في هذا الاتجاه ، اتجاه الخروج من الاختصاص إلى مجالات أخرى لا تدخل في اختصاصها الدقيق . لكن هذه الفكرة لا تتضح إلا في ضوء فكرة ثانية ، فالفكرتان- مثلما ذكرت سابقًا - متشارطتان .
الثانية :
تشترك فاطمة الوهيبي مع باحثين وباحثات (لا حاجة بنا إلى الأسماء ولكن أشير إلى إيزابيل ستايجر فيزيائية وكيميائية وعالمة رياضيات) في أن خروجها من مجال اختصاصها لم يكن للهجوم على موضوعات مدروسة أو مباحث نبيلة أو راسخة في المنازل المعتبرة ... فاللافت في هذا الخروج من مجال الاختصاص أنه يؤم مباحث كانت تعتبر تافهة ، قليلة الشأن ، هامشية ، أعني مما نراه يوميًا ولا نهتم به.
اختارت هي الظل مبحثًا واختار باحثون مختصون آخرون خارج اختصاصاتهم الدقيقة موضوعات من قبيل " التنويم المغنطيسي ... القمامة ... جهاز الهاتف ..." هذه الموضوعات التي كانت تعد تافهة وهامشية بحكم تعاودها في الحياة اليومية وقلة الانتباه لخطورتها في ما يدخل على الواقع من تحولات، اتضح أنها لا تقل قيمة أو أهمية عن الموضوعات النبيلة ( كالدولة ، والثورة، والثقافة ، والشعر، والإيديولوجية، والعقائد ). بل إن في هذه الموضوعات التي كانت تعد غير أهل للاهتمام اتضح أنه يلتقي فيها الفكر والعمل والفهم والفعلي واليومي غير الخاضع للمنطق الوضعي والحتمي . إنها مجالات قابلة للقراءة ( خلافًا لما كان يعتقد) وقادرة على أن يكمل الاهتمام بها الاهتمام بالموضوعات "الشريفة والرفيعة بالغة الأهمية" ويطوره.
الغريب - وهو في الحقيقة ليس كذلك- أن هؤلاء الباحثين المختصين عندما اهتموا بموضوعات كانت تتراءى هامشية ،لم يملكوا النفس عن التصريح باندهاشهم مما عثروا عليه فيها .
تقول الوهيبي ص 295 :" كانت دهشتي ممزوجة بشيء من الذهول ... تكشف لي فجأة .. بقيت الدهشة المشوبة بالغموض معلقة بسؤال .."
فما الذي أدهشها مثلما كان قد أدهش باحثات سواها وباحثين اهتموا بما كان لا يحظى بعناية ؟ أدهشها أنها وجدت "الوعي بالظل لم يكون مشوشًا، ولكن إدراكه، على نحو واضح ومرئي " لم يكن كذلك.
من الجمع بين الفكرتين ، خروج الباحث المتخصص عن حقل اختصاصه واهتمامه بموضوعات كانت تعد هامشية أو تتراءى كذلك ، نتبين أن هذا البحث يندرج في تحول في المعرفة وفي المشهد الثقافي .
فبعد مرحلة الريبة والشك ، تبدو العلوم ( المعارف ) ناحية منحى آخر لا تتعالى فيه الذات ولا تنطمس ولا تغرق في يأس اللانجاعة ، وإنما تطرح أطروحاتها في نطاق "حوارية " منفتحة على المجتمع ، بمعنى أن ما يكوّن الرابط الاجتماعي لا يدرس درسًا موضوعيًا علميًا لأنه يتطلب حوارية يتفاعل فيها الدارس مع المدروس ، وما يكوّن الطبيعة حولها لا يدرس أو يبحث لتتسلط عليه ألوان من الاغتصاب تعنف فيه الظواهر الطبيعية على نحو لم يسبق له مثيل ، وإنما لينصت إليها ، بحيث يكمل عمل العالم عمل الطبيعة ولا يتعارض معه .
وما نعرفه عن الإنسان والطبيعة لا يدرو حول قطب واحد أو أقطاب معينة فنظام معرفتنا نفسه في حاجة إلى مراجعة وإعادة تصنيف . هذا الكتاب يندرج إذن في التماس الآفاق الجديدة التي أصبحت المعرفة تستشرفها بكثير من الإصرار عبر الاهتمام بما كان يعد تافهًا واستنادًا إلى عين لم يطمسها الاختصاص بقوة العادة والمسلمات.