عنهم قالوا في الصغر: إنهم إذا تراكم الظلام تدفقوا في الشوارع، وإنهم طوال ضخام بأعين من لهب وسيوف من غضب، و انهم يكرهون تطفل البشر!!! قالوا: انهم يقتلون بمجرد النظر، بمجرد أن يسقط لهب أعينهم على احد، فإذا اكتهل الليل، ودب الخطر فإياك أن تنظري أو تفتحي الشباك!!
سمعت منذ الصغر، سمعت..سمعت، وكانت لنا في بيتنا القديم علّيّة خضراء بنوافذ كلها قضبان، سمعت..سمعت وكان لقلبي الطفلي شجاعة الفضول ولعينيّ الجسورتين شهية النظر، ومن وراء ضلوع الشباك المرتجف كنت اتلصص بجسارة صغيرة تنتفض – على هولة كانوا يلهبون بها أخيلتنا ونحن صغار، وربما ساعدتنا عيون " الظلام على رؤيتها"!!
ومع أنني كبرت فمازلت انظر من علّيّة اخرى مختلفة خضراء، ومازال بؤبؤ القلب يفتح الشباك.. ويراهم يجيئون، فما زالوا يجيئون، و يتعملقون بطول خريطة شموخ وعيونهم لما تزل حمراء تشتعل، ما مر يوم إلا ويأتي كل قمر مصنّع نمام يصب فضته المرعبة من شباك السمع والرؤى والبصر فأروح افك عقد اصابعي على القضبان وأعقد- إلا كوة صغيرة- ضلوع ذا الشباك الواقف الواجف المرتقب!!
مازال الليل ليلاً لا يحول، ومازال سيلهم يدفق سمه طوال الليل والنهار لكنهم، بمنتهى التسامح الجميل، سمحوا ان نرى وجوههم، لأنها رؤية مجهرة ومائعة، فقد صاروا كأن لم يروا، فقد استطاعوا ان يجعلونا –بل استطعنا نحن والفخر لنا – ان نستأنس الهولة، فقد صاروا يضحكون وعيونهم لما تعد حمراء.. وقامتهم وحدها مازالت تطول، تطــول، ومازالت محامــل السيوف تحاذي قمم البيوت و ابراج الحمام الوديع في حيّنا الكبير، لكن شباك علّيّتي الصغير القديم، البؤبؤ الطفلي مازال يفتح القضبان على الصورة العتيقة وعلى مجامر العيون ودبيب الحتوف من وراء قضبان زمان أجرد عنيف، مازال بؤبؤ الذاكرة ينبض بهولة لا تستطيع أن تطمس تاريخها!!
.