الصفحة الرئيسية
 /  
أقلمة المفاهيم
 /  
رجوع

أقلمة المفاهيم


يقع كتاب (أقلمة المفاهيم : تحولات المفهوم في ارتحاله ) لعمر كوش ( المركز الثقافي العربي ط. الأولى 2002 ) في دائرة الكتب التي تعالج إشكاليات المفاهيم والتأصيل المصطلحي . يتبنى فيه المؤلف رؤية تقول بأن الفلسفة الحديثة ردت الاعتبار للاختلاف والتنوع والتعدد . ويضع أو يصنف كتابه في هذا السياق : " ومن هذا المنطلق يجيء هذا الكتاب في سياق محاولة البحث عن حيز صغير لا ينتفي فيه الآخر ولا يصبح مقصيًا أو خارجيًا إنما مختلفًا مؤتلفًا ... كما يحتفي الكتاب بالمفاهيم وأقلمتها في التربة المعرفية داخل أقاليمنا من منطلق التفاعل الحضاري الخلاق الذي لا يحده حد ، وحق كل حضارة في وضع وتوظيف وأقلمة المفاهيم الإنسانية الفلسفية والعلمية والفنية " (المقدمة ص 9)


يقع كتاب (أقلمة المفاهيم : تحولات المفهوم في ارتحاله ) لعمر كوش ( المركز الثقافي العربي ط. الأولى 2002 ) في دائرة الكتب التي تعالج إشكاليات المفاهيم والتأصيل المصطلحي . يتبنى فيه المؤلف رؤية تقول بأن الفلسفة الحديثة ردت الاعتبار للاختلاف والتنوع والتعدد . ويضع أو يصنف كتابه في هذا السياق : " ومن هذا المنطلق يجيء هذا الكتاب في سياق محاولة البحث عن حيز صغير لا ينتفي فيه الآخر ولا يصبح مقصيًا أو خارجيًا إنما مختلفًا مؤتلفًا ... كما يحتفي الكتاب بالمفاهيم وأقلمتها في التربة المعرفية داخل أقاليمنا من منطلق التفاعل الحضاري الخلاق الذي لا يحده حد ، وحق كل حضارة في وضع وتوظيف وأقلمة المفاهيم الإنسانية الفلسفية والعلمية والفنية " (المقدمة ص 9)

          ومن الواضح أن المؤلف يرتكز معرفيًا وفلسفيًا على مقولة أساسية لجيل دولوز تتعلق بتحديد ( المفهوم ) فلسفيًا ، حيث يعرض جيل دولوز للمفهوم على اعتبار أن كل مفهوم هو " بمثابة نقطة التقاء وتركيز أو تراكم لمركباتها الخاصة ، فلا تتوقف النقطة المفهومية عن عبور مركّبتها وعن الصعود والنزول فيها ، فيغدو كل مركب بهذا المعنى خطأ مكثفًا وإحداثية رأسية مكثفة . " كتاب دولوز (ماهي الفلسفة ص 43 ).

          ويرى دولوز أن المفهوم يقول لنا الحدث وليس الماهية أو الشيء : " إنه حدث خالص وآنية ... وكيان ... فيتحدد المفهوم بعدم قابلتيه الانفصالية فيما بين عدد متناه من المركبات اللامتجانسة المخترقة من قبل نقطة هي في تحليقٍ مطلقٍ وذوات سرعة لا متناهية . إن المفاهيم مساحات وأحجام مطلقة وأشكال لا موضوع لها إلا لا انفصالية التغيرات المتمايزة . إن التحليق هو حالة المفهوم أو لا تناهيه الخاص .. فيكون المفهوم بهذا المعنى بالضبط فعلاً للفكر . " جيل دولوز ( ماهي الفلسفة ص 44 ).

          من هذا المنطلق التأسيسي الدولوزي للمفهوم ، المنطلق غير المعلن بوضوح منذ البداية ، يتحرك عمر كوش ويرى إلى المفهوم ككائن حي طليق كالطائر " يحلق فوق الأقاليم المعرفية والجغرافية ، إنه حدث حي طائر لا يكف عن التحليق فوق الأقاليم وليس شيئًا مفكرًا فيه أو ماهية أو جوهرًا ... ويتأرضن [نسبة إلى الأرض] وفق شروط معرفية وتاريخية وجغرافية وبيئية معينة . "عمر كوش (أقلمة المفاهيم ) ص 32 .

          ومن هذا المنطلق التأسيسي يعالج المؤلف في فصول مختلفة مشكلة المفهوم في حال ترحاله ، وخاصة عبر وسائط النقل والترجمة . ويتعرض في فصل بعنوان ( انتقال المفاهيم ) لمشكلة الانتقال عبر الترجمة ، حيث يرى أن انتقال المفاهيم أدى إلى إثراء الحياة الفكرية والثقافية في بعض الأقاليم " عند توفر شروط الانتقال اللازمة لقبولها في المجال المعرفي والفكري الجديد ، بينما لم تؤد إلى إثرائها في أقاليم أخرى . " ( ص 40 ) ويحيل ذلك إلى كيفية الانتقال وشروطه وعوائقه ومختلف عمليات التمثل والتاسيس . ويعكس رؤية تقول إن كل مفهوم يرتبط بنسيج مركباته وببنياته وبوظائفه . ويرى أنه حين ينتقل المفهوم عبر الترجمة فإنه يعاد نسج تلك المركبات والبنيات والوظائف وفق معايير جديدة تناسب المقتضيات الفكرية والثقافية والمعرفية للأقاليم الذي ينتقل إليه .

          ذلك هو التفاؤل النظري الواضح الذي يؤمن به المؤلف ، ويظهر أنه يرى أن الترجمة تمر بمراحل من : التمثل والتأسيس ثم التوظيف . ففي مرحلة التمثل والتأسيس يتطلب من الترجمة " إمعان النظر في أوجه المفهوم المختلفة ، وخاصة النظر في معانيه اللغوية ولاصطلاحية والدلالية والتأمل في مختلف النتائج أو الأبعاد التي قد يفضي إليها في البيئة ( الوسط ) الثقافية التي ينتقل إليها . " (ص 44 )  ولكي يتحقق ذلك يرى عمر كوش أن التواصل الخلاق والتفاعل الحي بين المفهوم والوسط واللسان الذي ينتقل إليه يجعله يكتسب طابعًا مختلفًا يغنيه ويجدده ، منتقلاً – حسبه – من طور التأسيس إلى طور التوظيف في الشروط المعرفية واللغوية الجديدة ، التي تتولد عنها بنى ومكونات جديدة للمفهوم . وذلك بالطبع هو ما يسميه دولوز : إعادة الأقلمة .

          لكن هذا الكلام النظري الجميل يحتاج إلى أمثلته التي تشرح وتؤكد صلاحيته للتطبيق ومصداقيته الواقعية . لذلك يتجه عمر كوش لإعطاء مثال عن ترجمة (الكوجيتو الديكارتي ) ممثلاً بثلاث ترجمات : الأولى ترجمة محمود محمد الخضيري في صيغة ( أنا أفكر ، إذن أنا موجود ) ، والثانية ترجمة نجيب بلدي في صيغة  (أفكر ، إذن فأنا موجود ) ، والثالثة هي ترجمة طه عبد الرحمن في صيغة ( انظر تجد ) .

          ويرى في مقارنته أن الأوليين كانتا أكثر وفاءًا للمشكلات التي بنى عليها ديكارت مفهومه . ويرى أن ذلك كان بعيدًا عن شروط الانتقال إلى تتطلب شروط التمثيل والتأسيس . ثم يتوقف عند محاولة طه عبد الرحمن ، الذي كان ينطلق من هم التأصيل مما جعله يتوصل إلى صيغة ( انظر تجد ) التي تعكس هم التأصيل الديني . ويرى كوش أن طه عبد الرحمن أخرج بذلك الكوجيتو من حقل مشكلاته المعرفية ، ونزع عنه مركباته ، وجعله يتماهى مع الأصول الأولى لتربة معرفية بعيدة عنه ، وبعيدة عن المشكلات المعاصرة ، وبذلك فقد المفهوم أي إمكان للجدل والتواصل والتبادل ، ولم يجد أمامه سوى الذوبان في فقه الأصول . هكذا يقرر كوش رأيه حول هذه الصيغ ( ينظر ص 46 ) .

          هكذا – إذًا – ينهار المثال الذي اختاره عمر كوش كنموذج للترجمة وانتقال المفاهيم ليبقى الجانب الأهم في الانتقال والترجمة ، وهو الإدماج والتوظيف ، قائمًا كمشكلة أو كتصور نظري لم يطرح له مثالاً . وهو الوضع الذي خلص إليه أيضًا بعد استعراضه لترجمتين أخريين هما ( مسطح المحايثة ) لمطاع صفدي و ( مقام المواجدة ) و ( بساط الملازمة ) لطه عبد الرحمن ، على اعتبار أنها ترجمة لمصطلح دولوز (Plan d'immanence)  ليخلص إلى القول في خاتمة الفصل إلى أنه " بفضل هذه الترجمات واختلافها تتعدد معاني المفهوم اللغوية والاصطلاحية ودلالاته ، وتبقى مهمة استثمارها منوطة بعمليات الإدماج والتمثل في التربة المعرفية العربية ، إذ ما ينقص هذه التربة ليس المفاهيم .. إنما أرضنة المفاهيم . " ( أقلمة المفاهيم ص 50) .

          ومع أنه بعد مثالين فاشلين في الوصول إلى الخطوة الأبعد ، وهي التوظيف ، يتجه إلى مفهوم التأصيل ويبدؤه بالإشارة إلى محاولة طه عبد الرحمن التأصيل مستشهدًا بما أورده طه عبد الرحمن في كتابه ( فقه الفلسفة – الفلسفة والترجمة ) من أن منطلق دعوى التأصيل على الصعيد الفلسفي هو جعل المنقول الفلسفي من خلال الترجمة يتوافق مع مقتضيات مجال التداول الإسلامي والعربي مما يجعله متلائمًا مع الخصائص العقدية والأخلاقية واللغوية لتلك الأصول . لكن عمر كوش يتجه مباشرة بعد ذلك للتقليل من شأن هذه المحاولة ، لأنه يرى أن الميتافيزيقا التاصيلية تجزم بوجود أصل قبلي بوصفه جوهرًا أو مطلقًا ثابتًا ، وبما أن هذا مخالف لدولوز الذي يرى أن المفاهيم الفلسفية هي كائنات معرفية وهي أحداث تحلق ، وكل تأصيل – حسب كوش وليس حسب دولوز – للحدث على حدث سابق له هو بمثابة توطين غريب عنه ؛ مما يجعله يكف عن التحليق وتنتفي أرضنة الفلسفة أو إعادة أقلمتها – بما أن ذلك مخالف لدولوز فلا غرو أن تنسف المحاولة المذكورة !!

          ولا غرو ، وعمر كوش يتبنى مفهومًا محددًا عن ( التأصيل ) ، ويتبنى مقولة دولوز وكأنها القول المطلق الجوهري والثابت ( وهذا ما يناقض مفهوم المفهوم ) لا غرو أن ينتهي إلى إدانة التأصيل بهذا المعنى . وبذلك يبدو أن مفهوم الأرض أو الإقليم عند كوش مفهوم مفرغ من الهوية واللغة والمكونات الثقافية . كما أن تبني المؤلف لمفهوم معين عن التأصيل يربطه فقط بالماضي أدّاه إلى هذه الإدانة الصارخة . فهل مفهوم التأصيل مرتبط فقط بالعودة إلى الماضي السحيق ؟ التأصيل مفهوم مرتبط بالهوية التي هي نتاج مركب من العرق واللغة والمكون الثقافي ، ومكون أيضًا من هذا المحدد الزمني الذي هو مزيج معقد من الماضي والحاضر معًا والطامح في الوقت نفسه إلى مستقبل ومكان ما في الطابور الحضاري للإنسانية . إنه هنا ، وهو يعالج التأصيل استنادًا إلى مفهوم ما عنه ، يخالف أيضًا قاعدة دولوزية تتعلق بمحددات المفهوم ومركباته ، فهل يصح مثلاً فصل التأصيل عن العلاقة بمفاهيم ذات علاقة قوية ومباشرة به كالهوية والذات ، كما لا يصح فصلهما عن الموضوع الرئيس لموضوع الكتاب ، وهو الأرضنة والأقلمة ، بحيث يمسي مفهوم الأقلمة مفهومًا مُفرغًا خاصة إذا ما تقاطع مع مفهوم التأصيل الذي يحشره المؤلف في مغادرة الماضي وعُقد استعادته ، فعن أية أقلمة إذًا نتحدث ؟ ذلك ما يجعل مشروع كتاب كوش موضع تساؤل ونقاش .

المراجع المذكورة :

1- ( ماهي الفلسفة ) جيل دولوز فليكس غتاري ترجمة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي ( المركز الثقافي العربي ط. الأولى 1997 م ) .

2- ( أقلمة المفاهيم تحولات المفهوم في ارتحاله ) عمر كوش ( المركز الثقافي العربي ط . الأولى 2002 ) .

ملاحظة : استخدم كلمة (مفاهيم ) جمعًا لمفهوم ، ومع أن اللغويين أو بعضهم لا يجيزونها إلا أن مجمع اللغة أجاز استخدامها إلى جوار مفهومات ، واستخدم الأولى لشيوعها وخفتها .