تساءلت في آخر المقالة السابقة : أمن شأن الشعر والشاعر أن يلقي ببيان أو خطبة في افتتاحيات ديوانه ؟ وكأنما هو مثقل بمهمة خطيرة يعلنها لمن حوله كهوية أو بطاقة مرور . وقلت : قد يبرر ذلك أن الشاعر شاب يقدم أول أعماله وهو يحمل توترًا وقلقًا , ومن الواضح أنه يحمل هاجس الإعلان عن اعتقاده بأن دور الشعر يتعدى الجانب الجمالي إلى الدور الوجودي في الكون .
ومن الواضح أن هذا القول يعكس الاعتقاد بأن الشعر يحمل رسالة أو التزامًا , و ينبئ عن إحساس عارم بضرورة أن يكون للشعر دور في المرحلة المقبلة أكبر مما كان له في المراحل السابقة ، تلك المراحل التي يرى الشاعر أن الشعر احترق فيها وترمد كما تشير عباراته . وهو يرى أن على الأجيال الشعرية الشابة أن تعيد صنع الأنقاض ، وترمم الدمار الوجودي والجمالي . وعليها ألا تهادن , وأن تخرج من التقليد والتشابه حتى ( تكتنه النقيض ) في هويتها الجمالية كما يقول .
وهذا البيان الشعري الذي تحدثت عنه في المقالة السابقة فادح وصعب ، ويشير إلى وعي بالإرث الثقيل وبأهمية الدور الذي ينوء به , مع انعكاس واضح لقلقِ تأثرٍ كبير يقوم منذ البداية على نية الاختلاف ، ومناوءة سوءات ذلك الإرث بسوداويته وهزائمه .
ولذا أحسب أن هذين البعدين (بعد السواد والدمار الذي يغلف العالم والبعد النقيض الذي سيوقد الجمر ويعيد ما احترق ) سيكونان بالضرورة الجناحان اللذان سيحلق بهما أحمد العلي , وسيكونان الهم الشاغل الذي سينضم عقد هذه النصوص .
يقول في القصيدة الثالثة (عيون الضباب ) :
" قامَةُ البحرِ مكسورةٌ..
و الأرضُ قَتَلوا غناءها
........
.........
و إنّي مُتنَبِئٌ:
الآتي غرابٌ أبيض
يلوّنه الأطفالُ باسمين ..
و إني مُدارٍ شمعة الأرض بجناحي
علّها
تُنيرُ في خطوي
حروفَ دواتي .." (1)
فها هو البحر بقامته المكسورة و ها هي الأرض التي قُتل غناؤها كلاهما يرفضان السواد في روح الشاعر , ولذلك فغراب المستقبل في القصيدة سيكون مختلفًا بلونه الأبيض ، وسيداري الشاعر شمعة الأرض بجناح الشعر .
هذه روح متفائلة مصرة على حماية الأرض وتحويل خرابها إلى حياة ، وإحالة ظلامها إلى نور يستلهم منها أحمد العلي في القصيدة الرابعة (فقه الليل ) جذوته , حيث غضاضة الروح تحاول تعليمنا درسًا من الظلام , فليست العتمة مرادفة للموت ، فخلف الظلمة إشراق ؛ وهذا هو الفقه الحقيقي .لذا يدعونا الشاعر للتأمل ويقول :
" يا قوّة الله!
أُسامِرُ صدرَ نوحٍ لأعرف
من أينَ لأخشابه هذا الجَلَد ..
وجه ظُفار
و مهيار
وجوهَ الأرض الغائبة
و أسألُ :
متى إذن نوقد النار؟ " (2)
هذه الروح الجافلة من الاستكانة تشيع كذلك في القصيدة الخامسة (شاهق النفس ) بادئًا إياها بصيغة المخاطب الذي يُستحث , وليس الذي يُستحث سوى أنا الشاعر , يقول :
" غُص يا شاهِق النّفَسِ
مُكتنـزاً كُلّ الرياح العاتية ..
ليس لأناملك
أن تربُتَ – الآنَ – على كتف المشيب "(3)