يبدو الشاعر أحمد العلي كما أشرت في المقالة السابقة مؤمنًا بأنه على الشاعر ألا يتوقف وألا يتلبث ؛ فالرقصة الوجودية والرقصة الشعرية الجمالية القديمة عليها أن تنتبه لعشبة الحياة التي تضيء للفراش , وعلى الفراش أن يضطلع بمهمته !!
" عُشبَةُ الحياةِ تُنير فراشها
لرقصتك القديمةِ "
تلك الرقصة الشعرية القديمة المؤرقة للشاعر لابد أن تُستعاد لغتها بروح جديدة , تلك الرقصة وتلك اللغة التي خبأها جد سحيق في جوف الأرض ، حتى وإن كان صرير ماءها لغة لم يشهد هو قراطيسها (ينظر قصيدة يا هجر ) ولعل في ذلك ما يفسر أنه يظهر في قصيدة (ظفار) بعد قصيدة (يا هجر ) الجد الشعري مختبئًا خلف روح النص ، وفي موجها . وهنا يظهر الشاعر الكبير محمد العلي في وعي أو لا وعي نص أحمد العلي , وفي هذا المقطع من( ظفار ) حيث تلوح رموز قصيدة محمد العلي (لا ماء في الماء ) واضحة في هذا المقطع ؛ حيث يقول :
" أسرجي الخيلَ التي سرّحها آباؤنا في الموجِ
خبيئةً
ثُمَ اخطُري لي
ها أنا ذا
كُلّما تغضّنَ وجهُ الصُبح فوق أجنحتي
سرقتُ له الندى من كفوف الحجر
و ها أنا ذا
كُلّما احدودبَ ظهري
زرعتُ فيه نخلةً
و شيّدتُ منارة "(4)
وإذا كان قد لاح قلق التأثر والرغبة في تجاوز _ حتى لا أقول قتل _ الأب الشعري في قصيدة الافتتاح وفي القصيدة الثانية المعنونة بـ ( الشاعر )حيث يقول :
" و قُل للورق: أنتَ طينٌ في يَدي../ أكتنهُ النقيضَ بوجهكَ / و أُعيدُ ما احترق ."
فما ذاك إلا لأن أحمد العلي _ وإن أهدى ديوانه للشاعر الكبير محمد العلي معتبرًا إياه النهر الجوفي _ يرى أن طين الشعر وإن كان إرثًا مشترك المعنى إلا أنه أيضًا إبداع فردي , وفي هذا الضوء يمكننا أن نفهم ما كتبه على الغلاف الأخير للديوان حيث راح يشرح معنى كلمة نهام في نوع من الإضاءة على الدلالات المختلفة لمادة نهم والتي يختتمها بقوله : " يا ابن منظور : ليس الشاعر من يجد لسفينته محيطًا بل الذي يحفر محيطه بيديه حقًا ، المعنى خلق واللغة موروثة."