الصفحة الرئيسية
 /  
أضاليل حول الخليل 6
 /  
رجوع

أضاليل حول الخليل 6


      تناولت في المقالة السابقة أضلولة أن الأخفش وضع بحر المتدارك . وبينت أن عددًا من الدارسين ناقشوها وفندها بعضهم . وأمضي في هذه المقالة لأتتبع بداية هذه الأضلولة , فلعل في ذلك شيئًا من الفائدة يتضح في هذا السياق .

     لقد حسبت في البداية أن هذه الأضلولة تناقلها الناس عن ابن خلكان المتوفى سنة 681ه الذي قال :" والخليل هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرًا ، ثمّ زاد فيه الأخفش بحرًا آخر سمّاه الخَبَب."

   وكنت أظن أنه المسؤول عن إشاعة هذه المسألة وأن نصه هذا هو أقدم إشارة جاء منها هذا الخطأ , لولا أني أثناء تتبعي لهذا الخيط وجدت في كتاب ( الإقناع في العروض وتخريج القوافي ) للصاحب بن عباد المتوفى سنة 385ه إشارة مهمة ذكرها محقق الكتاب محمد حسن آل ياسين في حاشية على قول ابن عباد :" والشعر كله أربع وثلاثون عروضًا وثلاثة وستون ضربًا وخمسة عشر بحرًا ." إذ يقول المحقق  بعد أن وضع إحالة عند كلمة (بحرًا ) :" جاء في هامش الأصل بعد هذه الكلمة ما نصه :" على رأي الخليل وواضع هذا العلم , وستة عشر بحرًا على رأي الأخفش النحوي .." ولم يشر الناسخ إلى مصدر هذا التعليق ."  وهذا القول وارد في نسخة رقم ب من مخطوطتي الكتاب , وهي نسخة مكتوبة سنة 569ه , وهذا يعني أن هذا الوهم العلمي كان شائعًا قبل ابن خلكان بأكثر من مئة عام .

   ويدهش القارئ من طرق التعامل العلمي في تناول خبر أو مصطلح والأسوأ من كل ذلك تناقل القول وتحريفه سواء عند القدماء أو المحدثين . وأختم بنص قرأته حول هذه المسألة العلمية لمحمد الدمنهوري في كتابه الإرشاد الشافي وهو حاشية شارحة لمتن كتاب ( الكافي في علمي العروض والقوافي ) لأبي العباس أحمد القنائي المتوفى سنة 858ه , وفي مقدمة الدمنهوري يقول إنه ابتدأ هذا الشرح سنة 1230ه . وهو يفصل المسائل العلمية ويتقصاها فيما يتعلق بالعروض ومصطلحاته ؛ قال حينما تناول ( المتدارك ) :" ( قوله المتدارك ) بفتح الراء سمي بذلك لأنه تدارك به الأخفش النحوي على الخليل حيث تركه ولم يذكره من جملة البحور , وبكسرها لأنه تدارك المتقارب أي التحق به لأنه خرج منه بتقديم السبب على الوتد . وعدم ذكر الخليل له قيل : لأنه لم يبلغه , وقيل : لأنه مخالف لأصوله بدخول التشعيث والقطع في حشوه وهما مختصان بالأعاريض والضرب مع أن استعمال العرب له قليل ... واختلف هل منعه أصلاً أو سكت عنه لكونه مخالفًا لأصوله ؛ فإن القطع مختص عنده بالأعاريض والضروب , وفي هذا البحر جاء القطع في الحشو فقيل : لا أثبته ولا أمنعه . وقيل : بل منعه بالكلية ."

ومن الواضح من القول أعلاه كم الخلاف والأقوال والتعليلات التي أثارتها أضلولة اختراع الأخفش له , ولعل فيما تقدم من تفصيلات في هذه المقالة والمقالتين السابقتين ما فيه الكفاية من رد وتفنيد .