الصفحة الرئيسية
 /  
الجمال والعنف : البنى التصورية والطقس القرباني(*)
 /  
رجوع

الجمال والعنف : البنى التصورية والطقس القرباني(*)


 

تظهر للمتأمل في عدد من النصوص والمرويات المتعلقة بالبلاغة والحسن والجمال مسألة مهمة، يمكن أن تكون مدخلا مختلفًا لقراءة جوانب من المدونة التراثية وهي مسألة تكشف عن رؤية للحسن والجمال والكلام البليغ قائمة على نزعة عنف وقتل وتدمير. وهذه الرؤية التي تحفر هذه الدراسة عنها تكشف عن نمط من طبيعة العلاقة مع اللغة والعالم وفق بنية تصورية متكررة تعكسها اللغة نفسها، فهذه المرويات لا تعدو كونها هي الأخرى لغة، وتتمحور معظمها حول عدد من المجازات والصور تسعى هذه الدراسة لإبراز نسقها وبعض سماتها ، وتحاول تفسيرها.


الجمال والعنف : البنى التصورية والطقس القرباني

د. فاطمة عبدالله الوهيبي – جامعة الملك سعود - الرياض

دراسة بعنوان  (الجمال والعنف) مترجمة إلى الفرنسية نشرت في مجلة Synergies  (سينرجي ) عدد 8 سنة 2011م وهي مجلة فرنسية محكمة .

يرى وول ديورانت أن الأدب في أول مراحله كان "مجرد ترانيم سحرية وطلاسم سحرية([1]) يتغنى بها الكهنة عادة وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة، فكلمة شعر عند الرومان وهي Carmina تدل على الشعر والسحر معًا وكلمة نشيد ode عند اليونان معناها في الأصل طلسم سحري."([2])

والشعر أيضًا عند العرب ارتبط كذلك بالسحر والكهانة، وارتبط إبداعه بالرئي والشياطين([3]). ولما جاء الإسلام ارتبط بالغواية، وهو موضوع تناوله كثير من الدارسين، ولكن مهما تباينت آراء الدارسين حول موقف الإسلام من الشعر، فإن المحصلة التي تهمني في هذا السياق هو أن تحديد موقف الإسلام من الشعر لا يغير من حقيقة ارتباط الشعر بالسحر والغواية قبله ، ولا يغير من كونه ظل،بعده، كائنًا منفيًا مطرودًا بسبب ما ارتبط به من فتنة التخييل والكذب، فهذه الفتنة فيه كانت سببًا في أن يُجابه بالعنف والنفي والمطاردة والتقييد.

ومع أن في الموقف الإسلامي من الجمال عامة بعدًا آخر يدعو للتساؤل، ويثير إشكالية التناقض وهو ما يشير إليه الحديث النبوي: "إن الله جميل يحب الجمال"([4]) وقوله حينما "سئل : فيم الجمال؟ قال: في اللسان"([5]). وهو موقف ينبني في الأساس على نظرة حب وتقدير للجمال، وعلى منح المكانة العليا لجمال اللغة وأثرها وخاصة في ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن من البيان لسحرا".([6]) إلا أن ذلك الموقف المتباين إزاء قضية في الأساس واحدة لا أراه ذا بعد إشكالي، فالتناقض كان موجودًا قبل الإسلام وظل كذلك بعده. فالجمال في الطبيعة والبشر والجمال في النصوص واللغة ظل، وفي معظم المرويات، مصحوبًا بموقف عدائي وبنزعة عنف واضحة. فسيل المرويات ظل يؤكد أن للجمال والشعر أثرًا يشبه أثر الرقى والسحر، ومن يقع عليه تأثيره يكون مسلوب الإرادة خاضعًا لقوة غير عادية أو غامضة، ويتجلى أثر الجمال على متلقيه بأن يعتلّ أو يختلّ أو يرتهن أو يقتل !!

هذا السيل من  المرويات يجعل أهمية النصوص التي تحمل دلالات نقيضة تتضاءل على الرغم من أهميتها التي تكمن – فيما أرى  - في مجرد كونها تؤكد وجود الفكرة النقيض، فقد وجدت أقوال تصف القول بأنه كالبرود الجميلة وكالنسيج والوشي المشُبع لمتعة العين بصريًا([7])، أو تصفه بأنه من قبيل الصياغة والصنعة. وهي أمور مرتبطة بالحسن القائم على إمتاع البصر بالدرجة الأولى، وليس فيها مظهر عنيف مباشر([8])، لكن هذه النصوص قليلة نادرة.  

كما وجدت مرويات وأقوال تصف أثر الجمال والقول الشعري وصفا يقرنه بخاصية الإحياء والخصب والنماء، كقول الشاعر: (السريع)

القَاِئل القَوْلَ الّذََي مِثْلهُ
 

***

ينبتُ منْهُ البَلَدُ الماَحِلُ([9])
 

وكقول الآخر:(البسيط)

كَأَنمَا عَسَلٌ رُجْعَانَ مَنْطِقِهَا
 

***

إِنْ كان رَجْعُ كَلامٍ يُشْبُه العَسَلا([10])

لكن هذه الأقوال ذات الطابع الإحيائي على قلتها تُحوّل إلى عنف واضح فتظهر مفردات الصيد والقتل لتغطي على مفردات الإحياء، يقول القطامي:(البسيط)

وفي الخُدُورِ غِمَاَمَات بَرَقْنَ لنا
 

***

حتى تَصَيّدنَنَا من كُلِ مُصْطَادِ
 

يَقْتلَنَنا بَحديثٍ ليس يَعْلمُهُ
 

***

مَنْ يَتّقينَ ولا مَكْنُونُه بَادِي
 

فهن يَنْبُذْنَ مِنّ قَولٍ يُصِبْنَ به
 

***

مَوَاقَع الماءِ من ذِي الغُلةِ الصّادي  ([11])

ومنذ امرئ القيس الذي قال: (الطويل)

ومَاَ ذَرَفَتْ عيْنَاكِ إلاَ لتَضْربي
 

***

بسَهْمَيكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّل([12])
 

ومعظم شعر الحب والغزل يؤسس في أدبياته للغة تصف أثر الجمال الأنثوي بأنه أثر عنيف ومدمر وقاتل. وهذا أثر للجمال يقوم على زعزعة الحال وسلب الصحة والعقل والأمان وامتلاك الذات،حيث تدور آثار هذا الجمال في دائرة القتل والسبي والأسر، كما أن الأثر الحاصل أثر يشبه أثر الحمى أو الخمر أو السحر.

ومنذ القديم والمرويات التي تصف الحسن والبلاغة والقول البليغ تكشف عن رؤية لها قائمة على نزعة عنف وقتل وتدمير. فماذا يعني هذا السيل من المرويات الذي يحمل رؤية إلى العالم والآخر واللغة فيها كل هذا القدر من العنف؟ ولماذا ظل الجمال والشعر حتى يومنا هذا مصحوبًا بسلسلة من المجازات والتصورات تربطه بالقتل أو ترمي به إلى مصائر الجنون والموت والترحل والنفي والمطاردة والتأثيم، حتى إنه في أدبنا المعاصر يمكننا أن نلحظ أن لعنة النفي والمطاردة والتأثيم ما زالت تلاحق الشعر ، وهو ما نجد له أمثلة كثيرة في معظم البلاد العربية، لما لحق شعراءها وروائييها من مطاردة، وما عانوه من ألوان العنف بسبب هـذا الجمال وهذه اللغة المهددة لمختلف أنواع السلطة الدينية والاجتماعية والسياسية.

إن هذا الموقف القديم المتجدد إزاء الجمال يستدعي التفكير في جذوره وفي البنى التصورية التي أدت إليه. ولذا أحاول في هذه الدراسة أن أكشف عن سلسلة من المرويات في المدونة التراثية تربط الجمال بالعنف أو تسوق إليه، ثم أسعى للكشف عن البنى التصورية التي توجهها، وأحاول في ختامها أن أقدم تفسيرًا لهذه الظاهرة وفق ما أسميه الطقس القرباني والعودة إلى الأصول.

في الجانب العنيف والتدميري للجمال والشعرية:

يحسن قبل أن أورد سلسلة من المرويات والأقوال الكاشفة عن نمط من الرؤية للجمال واللغة والعلاقة مع العالم قائمة على نزعة عنف موجهة ببنى تصورية تتحرك في حقل الدم والقتل والجزارة وحقل الصيد والإصابة والرماية –أن أذكر أن بعضها يصف الإبداع ذاته، أو أداته أو فاعله، أو الأثر الذي يقع على مفعوله. فثمة نصوص تعرف البلاغة وتحدد ماهيتها، وثمة أقوال تصف اللسان وأثره، وثمة أقوال تصف الجمال ذاته، خاصة الجمال البشري، وأثره الصاعق المدمر ممثلا بجمال المرأة، وتصف في الوقت ذاته الأثر العنيف لهذا الجمال على متلقيه.

ولكن قبل أن استعرض تلك الأقوال والنصوص أشير إلى أن العنف كامن أيضًا في أثناء الرؤية للغة أصلا وللحظة الخلق والإبداع. ففي النقد قديمًا يعرف الشعر بنسبته إلى الكلام الذي هو في جذره اللغوي مشتق أصلا من الجرح([13]). كما أن هناك من يرى أن الشعر في أصل نشأته كان قصيدة رثاء([14])، ولكن تلك القصيدة الرثائية كانت بسبب دم القتل وعنفه، وهي القصيدة التي رثى بها آدم عليه السلام هابيل. فهل يجعل هذا الشعر مخضبًا بالدم في أصل نشأته؟

ويمكن تأمل الروايات الكثيرة التي عبر من خلالها الشعراء عن عنف يعانونه لحظة خلقهم القصيدة. وتكشف تلك الأقوال عن خضوعهم لعنف الخلق أو الإلهام إذ على الشاعر أن يدفع ثمن الجمال الذي يصنعه أو يتلقاه عذابا ومعاناة. وهو عنف عزاه بعضهم لقوة الجن والشياطين ومسها([15]). وقديما قال المعري إن الشعر قرآن إبليس([16]).  

غير أن بعض الشعراء ممن لم يربط معاناته لخلق القصيدة بأثر عنيف علوي أو شيطاني لابد أن يعبر عن عنف من نوع آخر هو عنف يصاحب صعوبة الخلق والإبداع الأدبي وعنف المعاناة والمجاهدة للوصول بالقول إلى ذراه العالية، فالفرزدق يقول: "أنا عند الناس أشعر العرب، ولربما كان نزع ضرس أيسر عليّ من أن أقول بيت شعر"([17])، والكميت ابن زيد يقول: إن للخطبة صعداء [ من تصعده الأمر أي شق عليه] وهي على ذي اللب أرمى"([18]). وقال عمر بن الخطابt : "ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح"([19])، ويقول ابن رشيق: "عمل الشعر على الحاذق به أشد من نقل الصخر. ويقال إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل أهول ما يكون على العالم وأتعب أصحابه قلبًا من عرفه حق معرفته"([20]).

وفي كل ذلك إشارة إلى الجهد العنيف الذي يتعرض له المبدع لحظة الخلق، و ربما كان ذلك درءًا لتهمة الرداءة التي يتصورها بعض الناس مصاحبة لاستسهال القول. وهو معنى عبر عنه الجاحظ بقوله: " قال بعض الشعراء لرجل: أنا أقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك؟ قال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانك"([21]) وهو قول يشبهه قول كروتشي: "إن السهولة عند بعض الشعراء علامة سيئة، ولم يخطئ من شبه الخلق الفني بآلام المخاض"([22]) ،وكأنما الحكم بالقيمة والجودة مرتبط طردًا بالعنف والجهد المصاحب المبذول([23]).

 

 

القول / اللحم والجزارة:

ثمة مرويات تنتظمها النظرة إلى النص بوصفه لحما أو جزورا، وفيها تبرز نزعة التجسد من جهة ونزعة العنف من جهة ثانية.

في المجلس الشهير الذي تحاكم فيه الزبرقان  بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي يسألونه أيهم أشعر؟ يقول للزبرقان: "أما أنت فشعرك كلحم أسخن لاهو أنضج فأكل ولا ترك نيئًا فينتفع به"([24]).

وفي رواية أخرى للمجلس نفسه يُصاغ قول ربيعة بن حذار على هذا النحو: "أما عمرو فشعره برود يمانية تطوى وتنشر، وأما الزبرقان فكأنه أتى جزورًا قد نحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، وأما المخبل فشعره شهب من الله يلقيها الله على من يشاء من عباده، وأما عبدة فشعره كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء"([25]).

هكذا يبدو القول بوصفه لحماً، ويبدو النص جزوراً منحورة. ولهذا التصور تنويعات تظهر في جعل العرض بمثابة لحم يؤكل حال الاغتياب أو التعرض بالشتيمة أو الهجاء، ومنه جاءت الآية القرآنية التي تشبه الغيبة ، التي هي قول يتشهى عرض الناس، بأنه نوع من أكل لحم البشر([26]). وقد تخيل الشعراء دائمًا عرض الآخر المهجو فريسةً أو ضحية، ومن هنا كان النظر إلى اللسان أداة القول – كما سيأتي بعد قليل – بوصفه سكينًا أو مقراضًا أو سيفًا يبتر لحم الأعراض.

ولعل كلمة الملحمة التي تدل على الحرب ذات القتل الشديد هي التي جعلت ابن منظور يقول: "الملحمة هي الحرب ذات القتل الشديد" ويضيف بعدها مباشرة: "والملحمة الوقعة العظمية في الفتنة"([27]) مشيرًا إلى جانب آخر من معنى الملحمة يتضمن الافتتان من فتنة القول وخطره وشره !!

وما زالت العربية تتواتر التأكيد على ربط القول باللحم وبالعرض ، حتى إنه في عاميتنا النجدية مثلا يربط لحم الوجه بالمرأة خاصة؛ فلحم وجه الرجل إشارة إلى المرأة بوصفها عرضه الذي يهتم به ويحافظ عليه.

وقد وصف العرب البليغ بأنه من "طبق المفصل وأغناك عن المفسر"([28]) . وسأل     عامر بن الظرب العدواني حمامة بن رافع الدوسي عن أبلغ الناس فقال: "من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز. ([29])"

وجاء في اللسان "والمطبق من السيوف الذي يصيب المفصل فيبينه. يقال: طبق السيف إذا أصاب المفصل فأبان العضو... ومنه قولهم للرجل إذا أصاب الحجة: إنه يطبق المفصل... يقال للبليغ من الرجال : قد طبق المفصل ورد قالب  الكلام ووضع الهناء مواضع النُقب... وطبق فلان إذا أصاب فصّ الحديث... والمطبق من الرجال الذي يصيب الأمور برأيه"([30]).

وأورد الجاحظ أثناء حديثه عن عدد من البلغاء والخطباء مجموعة مرويات وأخبار فيها وصف للمصيب في القول ومدح للبليغ والقول الفصل. يقول الجاحظ: "ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز : "فلان يفُلُّ المحزّ، ويصيب المفصل" وأخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثلا للمصيب الموجز"([31]).

ثم يورد أبياتًا في مديح الرجال، بعضها يجعلهم أشباه الملوك، فهم لا يحسنون إصابة المفصل عند أكل اللحم([32])، وبعضها الآخر يمدح بالحذق والمعرفة. ولكن حينما ينتقل المعنى إلى المعرفة بالرأي وإدارة الأمور والقول البليغ فإنهم يوصفون بالمعرفة بتطبيق المفصل قبل التحزيز. يقول الجاحظ:

" وقد فسر ذلك لبيد بن ربيعة، وبينّه وضرب به المثل، حيث قال في الحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة: (رجز)

يا هَرِمَ بنَ الأكرمِينَ مَنْصِبَا       ****       إنّك قَدْ أُوِتيتَ حُكْمًا مُعُجِبَا

فطبِّق المَفْصل واغْنَمْ طيِّبا

يقول: احكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل وبأمر قاطع، فتفصل بها بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمتين"([33]).

وهكذا حينما يتعلق الأمر بالمعرفة الحسية باللحم والجزارة فإن المديح يتجه إلى نفي هذه المعرفة، لأن ذلك فيه من علو الطبقة والنبل والسمو. أما حينما يتعلق الأمر بالمدح بالحذق والمهارة والإصابة في الرأي والقول فإن الجزار الحاذق حاضر يضرب به المثل، ويتحول مدح القدرة على القول البليغ إلى ضرب من الجزارة، بما فيها من سلخ وحزّ وقطع، حتى إنه ليلتبس على الخيال منظر الدم بتخيل القول الجميل مضرجًا بالدماء، فهما مرتبطان متلازمان.

 هكذا ترتبط صورة البليغ والبراعة في القول الأدبي شعره ونثره بصورة الجزار، وقد وردت في شعر ابن هرمة وهو يمدح قدرته الخطابية، يقول: (الكامل)

وعَمِيمَةٍ قَدْ سُقْتُ فِيْها عَائِرًا
 

***

غُفْلا ومنْهِا عَائِرٌ مَوْسُومُ
 

طَبّقتُ مَفْصِلهَا بِغيَرِ حَديدةٍ
 

***

فَرَأى العدُوُ غَنَاي حَيْثُ أقَومُ([34])
 

وفي البيتين موضع آخر يكشف عن نزعة العنف تشبه الإجادة في القول بالسهام القاتلة، فالعائر هو السهم الذي لا يُدرى من رماه. وربط الإجادة بالقول بالرمية والسهم والصيد هو البنية التصورية الثانية التالية.

2- القول والجمال /الصيد والإصابة:

تأتي مرويات وأقوال كثيرة عن البلاغة ووصف الإجادة في القول بمجازات تربط القول والجمال بالرمية والصيد والطرد. ويبدو البليغ والشاعر مثل صياد يصوب السهم نحو مقاتل الكلام:

"قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر لقد طار اسمك واشتهر . فقال: لأني أقللت الحزّ وطبقت المفصل، وأصبت مقاتل الكلام"([35]). وجاء في اللسان: "أصاب فلان في قوله وفعله وأصاب السهم القرطاس إذا لم يخطئ."([36])

"وقال زرارة بن جزء حين أتى عمر بن  الخطاب رحمه الله فتكلم عنده ورفع حاجته إليه :(الطويل)  

أتَيتُ أبا حَفْصٍ ولا يَسْتَطْيِعُهُ
 

***

مِنْ النّاسِ إلا كالسِّنانِ طَريِرُ
 

فَوَفَّقَنيِ الرّحمنُ لمَا لَقْيُتهُ
 

***

وللِبَابِ منْ دُونِ الخُصُومِ صَريرُ
 

قُرُومٌ غَيارى عِنْد بِابٍ مُمنَعٍ
 

***

تُنازِعُ مَلكًا يَهْتَدِي ويَجُورُ
 

فَقَلتُ لَهُ قَوْلا أَصَابَ فُؤَادَه
 

***

وبعضُ كَلامِ النَاطِقينَ غُرورُ
 

......وفي إصابة فص الشيء وعينه يقول ذو الرمة في مدح بلال بن أبي بردة الأشعري:(الوافر)

..................................................

فَصَلْتَ بِحِكْمَةٍ فأَصَبْتَ مِنهْا
 

***

فُصُوصَ الحَقِ فانْفَصَلَ انفِصَالا"([37])
 

وفي أدبيات الحب والغزل يغرق المتأمل في بحور من الصور والمجازات المتكررة التي صارت تمثل معجمًا ونموذجًا قارًا يندر من يشذ  عنه. هذا المعجم يتحرك في إطار مفردات تصف الجمال الأنثوي بأنه فتاك وقاتل؛ يسبي ويسلب العقل ويشل الإرادة، ويبدو أثر الجمال منعكسًا على العاشق بأثر هو إما الموت أو الخبل أو الغواية ، أو التقييد وسلب الإرادة.....الخ. ولعل بيت امرئ القيس الشهير الذي شبه وقع نظرة المرأة الجميلة وعينها الفاتنة بوقع  السهام([38]) من أوائل الأبيات التي فتحت هذا الباب على مصراعيه لصور يقع معظمها في حقل الصيد والإصابة والقتل والسبي، وما يترتب على ذلك من عنف مدمر ولكن مستحب مستلذ!! وفي المعنى نفسه يقول الشاعر:(الطويل)

لَهَا مُقْلةٌ لو أنْها نَظَرتْ بهَا
 

***

إلى رَاهِبٍ قَدْ صَامَ للهِ وابْتَهلْ
 

لأصْبَحَ مَفْتونًا مُعَنَّى بِحُبِهَا
 

***

كَأَنْ لَمْ يَصُمْ لله يَومًا وَلْم يُصَلْ([39])
 

وفي أثر جمال العين وفتنتها الضاربة ضرب السهام يقول عنترة:(البسيط)

رَمَتْ عُبَيلةُ قَلْبي مِنْ لَوَاحِظهِا
 

***

بِكُلّ سَهْمِ غَريق النّزعِ في الحَوَرِ
 

فَأعْجبُ لَهُنّ سَهِامًا غَير طَائِشةٍ
 

***

مِنْ الجُفُونِ بِلا قَوْسٍ ولا وَترِ([40])
 

ويقول معن بن أوس: (الطويل)

سَبَتْنِي بِعَيني جُؤْذَرٍ بخَميلةٍ
 

***

وَجَيْدٍ كَجِيدِ الرّئمِ زَيّنُه النّظمُ([41])
 

 

ويقول المنخل في أثر الجمال الذي يؤدي إلى القتل والخبل: (الوافر)

دِيَارٌ للّتي قَتَلَتْكَ غَصْبًا
 

***

بلا سَيْفٍ يُعدُّ ولاَ نِبِالِ
 

بِطَرْفٍ مَيّتٍ في عَيْنِ حَيّ
ِس

***

لَهُ خَبَلٌ يَزِيْدُ عَلَى الخُبَالِ([42])
 

ويمكن متابعة عدد كبير من الأبيات تقع في دائرة السبي عند المسيب بن علس([43])،والمرقش الأكبر([44])، وبشر بن أبي خازم([45])، والحادرة([46])  ، وعمر بن ربيعة([47])، والحطيئة([48])، وغيرهم كثير.

ويمكن ملاحظة استمرار صور التبل والقتل والفتنة والانقياد عند حسان بن ثابت([49])، وعمر بن أبي ربيعة([50])، وابن زيدون([51])، وغيرهم كثير.

وفي أثر الجمال العنيف الذي يشبه أثر الحمى أو الخمرة أو السحر ويسوق إلى فقدان العقل والخبل. يقول سويد بن أبي كاهل عن هذا السحر: (الرمل)

خَبّلتْني ثُمَّ لمّا تَشْفنِي
 

***

فَفُؤَادِي كُلَّ أَوْبٍ ما اجتمَعْ
 منتزع
 

ودَعَتنْي بِرُقَاهَا إِنّها
 

***

تُنْزِلُ الأَعْصَمَ مِنْ رَأسِ اليَفَعْ([52])
 

ويقول بشر بن أبي خازم: (الكامل)

فَظَلِلْتَ من فَرْطِ  الصَّبَابةِ والَهوَى
 

***

طَرِفًا فُؤَاُدكَ مثلَ فِعْل الأَيْهَمِ([53])
 

ويقول: (الوافر)

فَبِتُّ مُسَهَّدًا أَرِقَاً كَأنِّي
 

***

تَمَشَّتْ في مَفَاصِلِيَ العُقَارُ([54])
 

في مثل ما تقدم من أقوال يرتبط الجمال البشري والشعري وترتبط الإصابة في القول بالرمية فيغدو مثلها قادرًا على الاجتياز والاختراق والنفاذ إلى الغاية مباشرة، إذ يصل القول إلى منتهاه وأقصاه، ولذلك فهو بليغ مثل  الجرح البليغ. وكلمة بليغ جاءت في الأساس من حقل دلالي يصل العنف والتدمير فيه أقصاه، فيقال: خطب بليغ إذا كان الأمر وقعه كالداهية وهو من الوصول إلى منتهى الشيءسوءًا، حتى لا مزيد فوقه([55]).

وفي كتب التراث فيض من الأبيات والمرويات الواردة في وصف البلاغة واللسان البليغ بأنه قاطع أو باتر كالسيف، أو نافذ كالسهم، أو أن الشاعر والأديب صياد بارع للكلام الجميل.

يقول عبد قيس بن خفاف: (المتقارب)

فأصْبَحْتُ أَعْدَدْتُ لِلنّائبا
 

 

تِ عِرْضًا بَرِيئاً وعَضْبًا صَقِيْلا
 

ووَقْعَ لِسانٍ كَحَدِّ السِّنانِ
 

 

ورُمْحًا طَويلَ القَناةِ عَسُولا([56])
 

وقال امرؤ القيس:(المتقارب)

ولَوْ عَنْ نَثَا غَيرِهِ جَاءَنِي
 

***

وجُرْحُ اللّسانِ كَجُرحِ اليدِ([57])
 

وقال سويد بن أبي كاهل: (الرمل)

ولسَِانًا صَيْرفيًا صَارِمًا
 

***

كَذبُابِ السَيفِ مَامَسَّ قَطَعْ([58])
 

وفي الأثر عن الرسولr أنه قال لحسان: "والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام"([59]).

وقيل في اللسان إنه سبع عقور([60]) ، وإنه يفلق الصخر ويصدعه([61])، وإنه كالمقراض.([62])

وتتماهى صورة الشاعر بالصياد الذي يقنص القول الجميل. يقول المتنبي :(الوافر)

أُرَاكِضُ مُعْوِصَاتِ الشِّعْرِ قَسْرًا
 

***

فَأقْتُلُهَا وغَيْريِ في  الطِّرَادِ([63])
 

وتتنامى هذه الصور عن الجمال الشعري مربوطة بالصيد والقتل حتى عصرنا الحالي. ومما يؤكد حضورها في الذاكرة الثقافية استمرار هذا التلازم في الصور بين الشاعر والقناص، وما زالت صورة السهم النافذ والصيد والطرد وما يرتبط بهما من عنف ودموية صورًا ملازمة لوصف الشعراء لأنفسهم وللحظات اصطياد القول. ومن يتأمل في شعرنا قديمه وحديثه سيغرق في بحر هذه المجازات والصور؛ فالشاعر كالنسر أو الصقر يتربص بالمعاني وينقض على الفكرة أو الصورة أو على اللغة التي تحققها، وينشب فيها مخالبه ويتمكن منها بعنف([64]). بل إن الناقد أغوته هذه الصورة وارتبطت قدرته على النفاذ إلى النص بهذا العنف حيث الاختيار الجيد والتمييز يقتضيان، بالدرجة الأولى، أن يكون كالأسد الذي يختار فريسته. وهي مجازات متداولة عند عدد غير قليل من النقاد.

 

الحـــدود والمصــائر:

أ- الخروج والعزلة والنفي:

يتضح مما سبق أن رؤية قائمة على المطابقة كانت وراء تلك المجازات والتصورات التي وصفت القول البليغ، رؤية ترى أن الوقوع على فص ا لمعنى أو مفصل القول دون مزيد تحزيز هو القول البليغ.

وهذه النظرة التي تبحث عن الوحدة وردم الفجوة هي الوجه الآخر الذي ينادي (بإصابة القول) و (الوقوع على المفصل) و(إصابة عين القول)، فذلك يعني التطابق والاتحاد الكامل.

ويبدو أن الغلو – من و جهة نظر من عابه – كان السهم الذي شارف الغاية وكاد يصيب المقتل، ولكنه توقف دون ذلك وفشل. أما في حال إصابة المفصل فالسهم يتوقف تمامًا عند بغيته، وتنكشف للسامع حينئذ، قدرة الشاعر على مطابقة المعنى الذي يريده واستنفاده إياه وبلوغه الغاية، أما الغلو والمبالغة فيقعان في منطقة يقصر فيها الشاعر عن بلوغ الغاية.

هذا القبول يحيل إلى نموذج قار يقيس عليه السامع، نموذج معتاد لا يخالف الواقع ولا يزحزحه. ومن هنا جاء عدم قبول الغلو والمبالغة لأنهما يقعان دون النموذج أو يجاوزانه إلى ما بعد، إلى شيء مجهول، وهما أمران مربكان على مستوى المألوف المعتاد. المحاولة مرفوضة لأنها لا تحقق التطابق ولا تصيب (فص) أو (عين) أو (قلب) النموذج، إنها لا تقع على (المفصل)، والشاعر هنا جزار أو صياد لم يحسن اختصار السبيل إلى المفصل أو الطريدة فسال فائض كبير من دم الترقب والانتظار للحظة الشعرية، وهبط معها فائض الإحساس وخاب،  وتبعه بالتالي حكم عنيف بسقوط القول وفشله.

ثمة عنف مرتبط بأحكام القيمة التي دارت حول الغلو والمبالغة، المرتبطين في أحيان كثيرة، بما سموه المحال – يمكن التفكير فيه بمعية ما سموه المعاني العقم- ولاحظ معنى العنف الملازم للإعقام والافناء والإبادة – فالمحال نوع من اللاوجود، مثل العقم الذي هو لا إمكان. فثمة استناد إلى مفهوم الاستنفاد في كلا التصورين عن ظاهرة الغلو المبالغة وما دار في فلكها من حديث عن الاستحالة والمحال وعن مصطلح المعاني العقم. فالشاعر الذي حاز معنى عقيمًا قد مارس أقصى حالات الاختراق والتجاوز للمعتاد والاستنفاد لمعنى بعينه في ما هو سائد ومتاح، وقفز إلى ما كان خفيًا غير مكشوف، وتحامى هذا الجزء من المعنى والصورة لنفسه، وأعلن بابتكاره له ملكيته إبداعيًا. هذا يعني حسب المفهوم الذي طرحه النقد القديم للمعاني العقم، وهو مفهوم منطو على حكم قيمي عال ، أن الحجيج والضجيج كفّ عن هذه المنطقة التي تحاماها الشاعر، مما يعني أن حالة من الصمت المطبق وحالة اللالغة واللاإمكان واللاوجود تتكرس مع مصطلح المعاني العقم والمعاني المستنفدة!!إنها إبادة تامة وانغلاق للدائرة بالوصول إلى نهاية الحد.

يقول حازم القرطاجني: " وأما القسم  الثالث وهو كل ما ندر من المعاني فلم يوجد له نظير وهذه هي المرتبة العليا في الشعر من جهة استنباط المعاني من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك، لأن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقد فكره حيث استنبط معنى غريبًا واستخرج من مكامن الشعر سرًا لطيفًا... وما كان بهذه الصفة فهو متحامى من الشعراء لقلة الطمع في نيله... والمعاني التي بهذه الصفة تسمى العقم، لأنها لا تلقح ولا تحصل عنها نتيجة ولا يقتدح منها ما يجري مجراها من المعاني، فلذلك تحاماها الشعراء وسلموها لأصحابها علمًا منهم أن من تعرض لها مفتضح"([65]).

ويضرب مثلا للشعرية المتجاوزة في المعاني العقم واستنفاد المعنى بيتي عنترة المشهورين: (الكامل)

وَخَلا الذّبابُ بهَا يُغني وَحْدَه
 

***

هَزجًِا كَفِعْلِ الشَّارِبِ المُترَنّمِ
 

غردًا يَسُنُّ ذِرَاعَهُ بِذرَاعِه
 

***

قَدْحَ المُكِبِّ علَى الزّنَادِ الأَجْذَمِ([66])
 

إن نقطة الانطلاق في الحكم بالمعاني العقم لا تختلف في عنف الحكم القيمي المرتبط بها عن نقطة الجنون أو الانفلات التي تهدد (المحال) لأنها نقطة اللابعد اللاامتداد على مستوى القدرة الشعرية من جهة، ونقطة العزلة والترحل أو النفي المطلق على مستوى علاقة القول بالناقد والناس.

والغلو والمحال يقعان على تخوم قريبة من الجنون، وفي جهة معارضة لما يتطلبه العقل من شروط في رؤيته للحقيقة والمرجعيات الواقعية،ولذلك نظر إليهما على أنهما نوع من الجمال الصادم الذي يتخطى الإمكان والحدود، وجوبها بأحكام عنيفة تتعلق بالنفي على اعتبار أنهما نوع من الهذيان غير المقبول عقليًا والمرفوض قياسًا على المرجعيات المألوفة والمريحة.   فالجمال المتجاوز منذور للعزلة والصمت، والمعاني العقم ستعاني عزلتها لأنها في فرادتها لا تجاور شيئًا ولا يجاورها شيء؛ إنها جنون المعنى إذ يعيش عزلته.

إن العنف الظاهر في صريح العبارات التي سبق عرضها عن القول والجزارة والقول والصيد والطرد والإصابة بالسهم النافذ والسيف الباتر ولحم الفريسة المنتظر يقابله عنف آخر منطو على قمع وكبح يتمثل في النظرة السائدة الرافضة لمبدأ التجاوز والاختراق. فالغلو والمبالغة والمحال بوصفها طاقات ممكنة للاختراق وكسر المألوف والقفز نحو جنون المعنى وعمائه واستحالته تكبحها النظرة الرافضة، وهذا الرفض ليس سوى محاولة لطمس الطريق إلى الضفة الأخرى التي يطل منها العقل والإبداع والمعنى إلى عالم جديد، هذه النظرة الرافضة تمارس عنفًا كابحًا للتعرف والكشف وزحزحة المألوف والنموذج القار.

هذا الموقف إزاء الجمال الصادم وإزاء الغلو والمبالغة والمحال هو صنو الموقف من البدعة والخروج على الجماعة. إنها تقع ضمن النسيج الثقافي والاجتماعي نفسه الذي يفضل الانخراط في تيار العام والجماعي، وما خرج عن هذا الخط فهو في منفى الشاذ ومنفى الخروج والعزلة. فكل متجاوز مفارق ومحكوم عليه بالشرود. على الخارق والمتجاوز جماليًا وبشريًا أن يلابس قدر الجنون والترحل، عليه أن لا يبقى في الحدود !!

 

ب – الجنون والترحل:

ارتبط الجمال والحسن المتجاوز للمألوف بالأثر الصاعق الذي يجعل صاحبه أو من يتأثر به ملابسًا لقدر الجنون أو الترحل. ولعل تصور علاقة الشعر بالجن والقرين الملهم ذات ارتباط وثيق بهذا الجذر الذي أحفر عنه حول العنف المرتبط بالجمال، فكل جمال مفرط فهو في طريقه إلى قدر الجنون أو النفي، هكذا تتواتر  الأحكام والأقدار. يقول الشنفري: (الطويل)

فَدقّتْ وجَلّتْ واسْبَكّرتْ وأُكْمِلتْ
 

***

فَلو جُنَّ إنسانُ من الحُسْنِ جُنّتِ([67])
 

وتذكر المعاجم أنه إذا علا النبت وتجاوز وفخر قيل جُنّ([68]). وفي حديث للحَسَن يقول: "لو أصاب ابن آدم في كل شيء جن"([69]) . ويقال: " إن الحسان تتبعهم الشياطين"([70]). فكل مفرط في حد الحسن متجاوز ومفارق([71])، سواء أكان ذلك في جمال بشري أو في مجال قولي أو إجادة في الرأي. وهو لذلك موشك على الدخول في حد الجنون، في حد العماء والغيب المطلق والعزلة. حتى إنك لو نظرت في المعجم بحثًا عن كلمة (الحسن) ذاتها ستجد ابن منظور مثلا يربطها مباشرة بالحس وهو القتل. يقول: "وحسّان اسم رجل إن جعلته فعالا من الحُسْن أجريته وإن جعلته فعلان من الحَسّ وهو القتل أو الحس بالشيء لم تجره. قال ابن سيده: وقد ذكرنا أنه من الحِسّ أو من الحَسّ، وقد ذكر بعض النحويين أنه فَعاّل من الحُسن، قال وليس بشيء"([72]).

إن الأثر التدميري للجمال واضح في كل ما تقدم. وخير مثال أختم به عن الجمال في مصائره المدمرة، ذلك الجمال الذي لحقته لعنة الترحل قصة نصر بن حجاج التي تناقلتها المدونة التراثية، وثّبت قصتها الميداني في المثل المشهور "أصب من المتمنية" حيث يقول إن المتمنية امرأة من المدينة عشقت نصر بن حجاج الذي كان أحسن أهل زمانه صورة ولهجت بذكره، وصادف أن مر عمر بن الخطاب t بباب دارها وسمعها تنشد: (البسيط)

أَلاْ سَبِيل إلى خَمْرٍ فَأَشْرَبُها
 

***

أَمْ لاَ سَبِيل إلى نَصْرِ بن حَجّاجِ
 

فلما أصبح أحضر الرجل "فلما رآه بهره جماله فقال له: أأنت الذي تتمناك الغانيات في خدورهن؟ لا أم لك! أما والله لأزيلن عنك رداء الجمال. ثم دعا بحجام فحلق جمته، ثم تأمله فقال له: أنت محلوقًا أحسن. فقال: وأي ذنب لي في ذلك؟ فقال: صدقت، الذنب لي أن تركتك في دار الهجرة . ثم أركبه جملا، وسيرّه إلى البصرة"([73]).

ويسرد الميداني قصة الجمال في ترحله وما لاقاه من أقدار في البصرة، حيث أصابه جمال شميلة([74]) إصابة قاتلة، ووقع صريع حبها، فضرب به المثل فصار هو "أدنف من المتمنى"، وساقه هذا الجمال المدمر إلى الموت عشقًا.

إن العنف الذي جوبه به نصر لجماله، وإن كان له ما يبرره من وجهة نظر عمر بن الخطابt ، سنجد أن  المرويات والأخبار ستدفعه إلى عنف آخر تمثل في جمال شميلة الذي يدمره مثلما دمرها هو من قبل بجماله. وبغض النظر عن مصداقية القصة تاريخيًا ووثوقيتها، فهي تخفي، حسب روايتها والخيال الذي رافقها وربما طورّها وتزيّد عليها، عنفًا مركبًا ودرامية مكثفة تحكي مصير الجمال والحب أو الجمال والفن إزاء قدره حينما يكون خارقًا أو متجاوزًا، وكأنما عادية الواقع الحسي والفني لا تطيق صعقة الجمال، ولا تستطيع احتمالها فتنفيه وتغربه !!

 

البنى التصورية :

للاستعارات موقع جوهري في رؤيتنا للعالم. والاستعارة كما يطرح كل من جورج لايكوف ومارك جونسون في كتابهما (الاستعارات التي نحيا بها) هي عملية ذهنية وليست لغوية، وهي تحكم جانبًا كبيرًا من تفكيرنا وتصوراتنا الواعية وغير الواعية خاصة فيما يتعلق بالأمور غير المادية([75]). وقد حفر مارك جونسون حول مفهوم التجسد والمادة في كتابه (الجسد في العقل: الأسس الجسدية للدلالة والتخيل والتفكير العقلي) وفيه تناول مسائل أساسية عن دور الجسد والمادة في تشكيل الاستعارات. وقد طرح لأجل إبراز فكرته مصطلح (مخططات الصورة)، وكشف عن دور هذه المخططات في الاستعارات التصورية. ويعرف مخطط الصورة على هذا النحو:

"مخطط الصورة هو نمط ديناميكي متكرر في تفاعلاتنا الإدراكية وبرامج حركتنا يخلق لتجربتنا تماسكًا وبنية. فمخطط العمودية مثلا ينشأ من سعينا إلى أعمال اتجاهية فوق – تحت في انتقاء البنى الدالة في تجربتنا. ونلاحظ بنية العمودية هذه على نحو متكرر في الآلاف من مدركاتنا وأنشطتنا التي نعايشها كل يوم، كإدراك شجرة، أو إدراكنا الشعوري بأننا واقفون، أو من خلال الصعود على سلم، أو من خلال تشكيل صورة ذهنية لسارية العلم أو قياس طول طفل أو من خلال تجربة ارتفاع مستوى الماء في حوض الاستحمام. إن مخطط العمودية هو البنية التجريدية لهذه التجارب والصور والمدركات العمودية. إن إحدى الأفكار المركزية في هذا الكتاب هو أن البنى المتخيلة القائمة على التجربة من هذا النوع من مخططات الصورة هو جزء لا يتجزأ من الدلالة والعقلانية"([76]).

إن مخططات  الصورة هي-  حسب جونسون – بنى متكررة لظواهر حياتية شتى سابقة على التفكير العقلي ومن أمثلتها مخطط الحركة ومخطط القوة، ومخطط الاحتواء، ومخطط العلو([77]).

 

(77)

(76)

ووفق هذا المفهوم لمخطط الصورة يمكن تأمل الأقوال والمرويات الواردة في الدراسة. إذ يظهر  للمتأمل فيها أن هناك نظرة إلى اللغة تتصورها بوصفها كائنًا منفلتًا حرًا تقع عليه محاولات إحكام السيطرة والإحاطة والإصابة بسهم أو سكين. وهي تصورات تجيء من حقل الحركة والمعركة، الصيد والطرد. ويبدو فيها المبدع كجزار أو صياد. ولكن الحركة التي كانت تتجه من المبدع إلى اصطياد النص واللغة تستدير بحركة انعكاسية عنيفة هي الأخرى، لينطلق القول بدوره فيصبح أداة قتل وإصابة تتجه نحو السامع أو المتلقي. وفي حال الجمال البشري تشير النصوص إلى صفة التأثير وقدر الدمار المستحب الحاصل، وتستخدم كذلك مجازات وصور ذات علاقة بالرماية والقتل. والمصير بالطبع عنف وترحل ونفي وعزلة. وهي النتيجة نفسها التي يملكها العقل تصورًا؛ فنتيجة الحركة والمعركة قيد أو تقييد أو إصابة وإبادة وقتل.

يبدو مخطط الحركة والمعركة واضحًا في هذه المجازات، وفيها تظهر العلاقة مع اللغة والجمال علاقة قائمة على مبدأ السيطرة. ويمكن ملاحظة عدد من السمات تنضوي تحت هذا المعنى. فإحكام السيطرة يتطلب قدرًا من الدراية والخبرة التي تكفل ليد الجزار أن تقع على المفصل دون تحزيز. وهو مبدأ ينهض على توفير الجهد والطاقة. ولكن من جهة أخرى يعتمد على مبدأ الاستنفاد. فالوصول إلى الصورة المبدعة والبلوغ إلى نقطة عليا في البلاغة يعني الاستحواذ واستنفاد طاقة الصورة أو اللغة الممكنة إلى أقصاها. ومصطلح (المعاني العقم) خير مثال للمبدأ الاستنفادي الإبادي. حيث مبدأ الاستحواذ والاستنفاد يمكن أن يكون خير نموذج للوسيلة الحربية التي تحد من حركة هذا الكائن الحر المنفلت: اللغة الفنية أو الجمال.

السمة الثانية في هذه البنية التصورية، وهي مرتبطة إلى حد كبير بالأولى، الاختراق والإحاطة بالمراد. فالسكين أو السهم الذي يتجه مباشرة إلى مقصده يخترق ما يخترق ويقع على المراد. وهو بذلك يتجاوز، فيتحقق للمبدع البلوغ والبلاغة، ويجتاز إلى مرتبة التميز التي تجعله خارج الحد وفوق التصنيف المألوف المعتاد. هنا يواجه المخترق المتجاوز مصير العزلة، فكل جميل متميز منذور للاغتراب والترحل وربما الجنون. ويمكن تأمل هذه السمة مع المعاني العقم وشوارد الأبيات والأمثال، ومع الجمال البشري الذي جابه مصير الجنون والموت.

هكذا تكشف النصوص وفق هذه البنية التصورية للعالم وللغة وللآخر وللجمال عن نظرة فيها هذا التجاذب الدرامي بين أطراف العملية الجمالية: المبدع واللغة والعالم والمتلقي، نظرة فيها من قلق التملك وإحكام السيطرة الشيء الكثير.

إن أحكام القيمة الكامنة وراء هذه الرؤية تتضمن موقفًا إزاء علاقة الأديب باللغة، وهي علاقة تفترض أن موقف اللغة موقف معاند ومقاوم ويقتضي من الأديب التصدي والمقاومة المضادة والترويض والصيد والطرد، والقتل والتحكم والسيطرة. وهي نظرة قائمة على مبدأ إرساء السلطة وإظهار القوة والغلبة ، ومشحونة بالعنف والصرامة والقسوة.

كما تبدو تلك الأحكام مرتبطة بالدور الذي يقوم به المبدع وتقوم به اللغة، فالوظيفة الجمالية في علاقتها بالواقع وبنفسها قائمة على مبدأ التدمير، والاختراق والاستنفاد والتجاوز. إن الاختراق والخروج مهمتان لكل من المبدع في علاقته باللغة من جهة، و بالنص المتشكل في علاقته بالمتلقي الذي يصحبه أثر عنيف في ارتداده ومن خلاله تتحقق الهزة الجمالية.

وتبدو التصورات المرتبطة بالدم واللحم والقنص والصيد والرماية ذات إحالات قوية وواضحة إلى مجتمع وحقبة مناهضة لحقبة الزراعة. وهي تطغى وبقوة على التصورات الأخرى المرتبطة بالأرض والارتواء والإحياء المحيلة إلى المجتمع الزراعي، الذي يصنفه بعض الدارسين تحقيبيًا بأنه مرحلة أمومية([78])، كما تطغى على تلك التصورات الأخرى التي ترتبط بالصياغة والنسيج والوشي. أي بتلك الجمالية ذات البعد البصري المرتبطة بالبعد الحسي الخالص الذي يرى عدد من الدارسين أنه ذو بعد أنثوي، ويحيل بالتالي إلى المرحلة الأمومية([79]). فإذا كان عصر"النظام الأميّ([80]) يتصف بأهمية علاقات الرحم وبالصلات المرتبطة بالأرض، وبالتقبل الطوعي لكل ظاهرات الطبيعة أما المجتمع الأبيّ فيتصف، على العكس، باحترام الشريعة التي يسنها الرجل وبغلبة الفكر العقلاني وبالجهد الذي يبذله الرجل لتحويل الظاهرات الطبيعية"([81]) – فإننا نلحظ أن تغليب الجانب القنصي العنيف بما فيه من ترويض وتطويع للطبيعة مرتبط بالنظام الأبوي. مما يعني أن هذه النصوص التي تكرس مبدأ التطويع، والعنف الملازم له بالضرورة، تكشف عن منطقة ترسب يؤكدها تسريب هذه التصورات من بئر الذاكرة الثقافية واستمرار حضورها على نحو لافت. وترسب هذا المظهر المتوحش لمجتمع ما قبل الزراعة، ولمجتمع النظام الأبوي من بعده بما فيه من مظاهر الترويض للطبيعة، يمكن إذاً أن يوصف بأنه موقف الثقافة مقابل الطبيعة. فهل كان لابد من عنف الترويض للجمال والشعرية لتأخذ طريقها الدموي إلى تاريخ الحضارة والثقافة، في مقابل دحض مبادئ النظام الأمومي القائم على "مبادئ الحب والاتحاد والسلام"([82])؟  .

 

الفريسة تنحاز إلى قاتلها:

إن البنى التصورية المشار إليها أعلاه تعكس موقفًا وجوديًا تجاه اللغة والحياة والطبيعة والجمال. و هو موقف أبوي، على الرغم من الجدلية الواضحة التي يتبادل فيها الجمال والعنف أدوارهما، خاصة في حقل مرويات الحب والغزل، حيث يمارس الجمال الأنثوي عنفه الخاص([83])، المروي من جانب الرجل في الغالب والمتقمص روحًا ذكورية قنصية يقع فريستها الرجل، الذي يستلذ هذا العنف الواقع عليه ! !

هذا الاستلذاذ بأثر الجمال المدمر ينطوي على تعال فوق المألوف الذي إن لم يمت الحس أضعفه، ومن ثم يأتي الجمال استثناءً ذا أثر آسر. وهو عنف تستلذه الفريسة، تستلذ بأن تعيش تجربة فوق المعتاد. إنه الاختلاف المرغوب فيه، ومع أن العاشق يشكو من استبداد المعشوق وهيمنته و تسلطه وعنف تأثيره الجمالي إلا أنه يمكن النظر إلى ذلك بوصفه بعثًا. إن هذه المفارقة بين الموت والحياة التي يتبادل أطرافها الجميل المتجاوز، والواقع المعتاد والعاشق المشتبك بعلاقته مع الطرفين الأولين- هذه المفارقة تجعل الحياة لعبة نرد أو صدفة قدر تفضي إلى تركيز الحياة وتكثيفها بوصفها مجرد عيش في خطر هذه اللحظة ونعمتها.

هنا الضحية تنحاز إلى قاتلها لأنها في النهاية، تنحاز إلى فرصة الحياة أو صدفتها المميزة، وهو ما يمكن تفسيره بأنه ظمأ للعودة إلى حالة خلق بدئي، حالة الاكتمال والنقاء الأول، وهي فكرة سأعود إليها بعد قليل.

هذا الموقف من الجمال يستند بالدرجة الأولى إلى أن العلاقة تمتد في حالة فردية بين طرفين، والأثر يمس حياة فردية خاصة. أما الموقف الآخر من الجمال وهو الموقف العدائي غير المستلذ، الذي يمارس عنفًا ضد الجمال فموقف مستبد يمارس سلطة مجتمعية أو دينية ضد ذلك الجمال؛ فهو يرى أن خطر الجمال يتهدد النسق الاجتماعي والثقافي، فحينما يتعارض الجمال مع المألوف والآمن من معطيات الخطاب الاجتماعي أو الديني أو الثقافي فلابد أن يسلك في  مصاف الغوايات والبدع التي لابد أن تجتث قبل أن يتفاقم خطرها !!

لكن لماذا تبدو هذه البنية التصورية على هذا النحو؟ ولماذا يكشف هذا التصور في مخطط الحركة والمعركة والصيد والطرد عن كل هذا الكم من الدم والعنف، وعن هذا النوع من الخبرة والإدراك، وعن هذا النوع من العلاقة مع العالم والآخر؟

 

العودة إلى الأصول والطقس القرباني:

قد اتضح من خلال الدراسة ارتباط الشعرية والجمال بالعنف، وتخضبت الرؤية إليهما بالدم والقتل. إن العنف الذي رأيناه يصاحب تعريف البلاغة أو ماهية الشعر أو أصل نشأته، أو العنف الواقع على الشاعر أو المتلقي إثر الجمال الساحر الآسر للجمال وللشعرية، كل ذلك يستثير قضية البدايات، بدايات الخلق. فالأساطير الكسموغونية([84]) التي تروي أساطير بدايات خلق العالم وانبثاق الوجود تدور في فلك عنيف؛ فإما عالم ينفجر أو أرض تنشق، أو بيضة كونية تتصدع أو خلية تنقسم..الخ. ومع أن معظم أساطير نشوء الكون تلح على خروج الكون من حالة العماء الأصلية إلى انبثاق وجودي جديد إلا أن ذلك يصحب بفعل عنيف: هيجان أو انفجار أو اختراق أو انقسام ...الخ، كما أن ذلك أيضًا مصحوب في عدد من أساطير الخلق الأولى بالكلمة الخالقة والتراتيل الشعرية([85]). ولهذا دلالة ذات أهمية قصوى في هذا السياق؛ فهل هذا العنف الذي تكشف عنه البنى التصورية في المرويات المدروسة آنفًا عائد إلى هذا الأصل العنيف المرتبط بحالات الخلق الأولى؟ وهل ثمة طقس قرباني يستعاد في هذه البنى التصورية للشعرية والجمال؟

إنه إذا كان الشعر والجمال من قبيل السحر والغواية فهما مرتبطان بالأثر الشيطاني ولكنهما ، من ناحية أخرى، وبما أنهما خلق وإبداع وشيء مؤثر وجميل، فهما أيضًا مطلوبان ومرغوبان؛ ويتنافس في طريقهما الشعراء ليتفوقوا، كما يسعى الناس/ العشاق سعي حاجة للالتذاذ بهذا الشر المحبوب، بهذا الجمال الشيطاني نصًا إنسانيًا أو نصًا لغويًا؛ فما هو خارج عن المألوف وموغل في الخروج والغواية ومنسوب إلى الخارق والشيطاني مطلوب ومحبوب فما السر في ذلك؟

لعل السر يكمن في أن الشعر كلمة، وكلمة سحرية تخلق وتعيد تكوين العالم من جديد. الشعر كلمة تعود إلى مبدأ الخلق، إلى أصل ابتكار العالم، تحاول تقليد الخالق، وتحاول أن تعيد التكوين. ولعل هذا ما يمنحها جذرها الأسطوري القديم المغمور في اللاوعي الثقافي. وفي هذه الخبرة الحياتية الاستثنائية تبدو المحاولة وكأنها محاولة إعادة الالتحام مع الأصل، فالحنين إلى الأصول هو حنين مغمور في اللاوعي، وهو عميق وفيه يريد الإنسان "استعادة الحضور الفعال للآلهة، كذلك يريد أن يحيا في العالم غضًا نقيًا قويًا مثلما خرج من يد الخالق . إنه الحنين إلى كمال البدايات"([86]) . 

إن إعادة الالتحام بالأصل عبر الجمال وعبر العنف واللغة العنيفة المعبرة عن الدم والقتل تبدو أشبه بطقس قرباني ، فالجمال المتجاوز نصًا إبداعيًا أو بشريًا تعال فوق المعتاد، واستثناء وتجاوز مشارف للآلهي ، ومن هنا فإن تجربة الانغماس في خلق نص ابداعي أو التعرض لتجربة عشق تبدو حدثًا استثنائيًا، يحرص الشاعر في لغته أن يكشف عن بعدها الدرامي العنيف فيبدو كمن يقدم نفسه قربانًا في مذبح ، يقدمها استلذاذًا بعبودية مشتهاة .

 إن الشعراء ، وهم يعبرون عن عنف الإلهام ولحظة خلق القصيدة وما يعانونه من جهد وعذاب للوصول إلى ذرى عالية، يبدون في مشهد قرباني تضحوي ، فيه يتحمل الشاعر ما يتحمل من أجل أن يخلق شيئًا جميلا أو يكون معبرًا لحضوره المتجاوز عبر لغته التي يتلقاها إلهامًا من قوى علوية .

إن كل مؤشرات الموقف إزاء الجميل ، أو إزاء تلقى النص الشعري أو لحظة خلقه تلك المؤشرات التي تسلب الإرادة (القتل والصيد والسبي والتقييد وفقدان العقل أو فقدان الوعي والذاكرة) وتفقد السيطرة على الذات كلها تأكيد للشرط البشري، وتكريس لمزيد ارتهان في البشرية إزاء قوى أخرى مهيمنة وشبه علوية (بما هي استثنائية وفوق المألوف) وهي تشارف إلى حد ما صورة تتماهى مع الألوهية والمطلق. فثمة سعي لإعادة الالتحام بالأصل والسعي للارتهان إليه. والاستلذاذ بالعنف القرباني المبذول تجاهه نوع من تحرير الذات، نوع من الخلاص تسعى به النفس لمشارفة لحظتها الوجودية المميزة، لحظة استعادة الخلق الأولى من العماء، أو استعادة ذكراه بالتعرض لتجربة أو لخبرة الجمال والحب بوصفه نوعاً من الخلق الجديد واستعادة الوجود بكامل امتلائه وفائق حيويته.

لكن لا يفهم أن هذا نوع من رفض العالم الواقع أو هروب منه" ذلك أن التطلع إلى استرجاع زمن الأصل هو تطلع أيضًا إلى استرجاع حضور الآلهة بمقدار ما هو استرجاع للعالم قويًا جديدًا نقيًا مثلما كان في ذلك الزمان. إن هذا في نفس الوقت ظمأ إلى القدسي وحنين إلى الوجود. على الصعيد الوجودي تترجم هذه الخبرة على أنها ثقة بالقدرة على ابتداء الحياة دوريًا من جديد وبأقصى الفرص المتاحة. فهي ليست رؤية متفائلة إلى الوجود وحسب وإنما هي انحياز كلي إليه"([87]).

أما لماذا الدم والطقس القرباني فالدراسات تقول لنا إن تقديم القرابين كان، على الدوام، تكفيرًا عن عدم التذكر أو نسيان أن الوجود نتيجة فعل إلاهي([88])  . فهل نحن مع هذه المشاهد المتوالية المتواترة المتضمنة للعنف وما دار في فلكه من مشاهد دموية أمام طقس قرباني مستمر يعبر عن ولع بالخلق، مثلما يكفر عن عادية الواقع التي تراكم القشور فيصدأ الحس، وتصدأ الذاكرة، فيطفو الإنسان مع التجربة الخالقة والخبرة الجمالية والشعرية فوق المعتاد، ويتحول وجوديًا إلى كائن ثقافي معاند للطبيعة، ممثلة في اللغة المعتادة، ومروضٍ لها، ليعود يلتحم باللغة الأقدم، باللغة الأصل، بالشعر في حقيقته الأولى؟ قد يكون هذا، فعلى الرغم من الوحشية البادية في هذا التصارع وفي اللغة التي عكست هذه الجدلية وهذا الديالكتيك المتكرر بين الواقع والحلم، بين اللغة وبين ما يريده الشاعر، بين النموذج المألوف والجمال المتجاوز، بين الآسر والمأسور، بين الحدث الجمالي واللغة التي تعبر عنه، إذ ثمة عنف تتصارع متناقضاته، ونلمح في قرارها العميق صراعًا بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي([89]).وثمة عود، في النهاية، إلى الشعر بوصفه الكلمة الخالقة وبوصفه الامتلاء والكمال الأول، وإن كان الوصول إليه يمر عبر المذبح والطقس القرباني.

 ومع أن الغلاف الخارجي للنص الحامل لهذا الصراع وهذه التناقضات غلاف لغوي مخضب بالدم والعنف إلا أنه يبدو - كما سبق أن عرضت في موضع سابق من هذه  الدراسة-([90]) وكأنه ترويض للطبيعة ومظهر من مظاهر المبدأ الأبوي، ويمكن أن يوصف بأنه موقف الثقافة مقابل الطبيعة، إلا ان المحصلة النهائية هي عود مرة أخرى إلى أحضان الطبيعة ممثلة في الشعرية بوصفها أصل الوجود وأصل الكلام([91]).ومن هنا ليس بغريب أن يفنى الكائن ويبقى مظهره الثقافي، يفنى الشاعر ويبقى الشعر، وتبقى كينونته الثقافية شاهدًا على تناقضاته وصراعاته الوجودية.

 

ثبت المصادر والمراجع

 

- أبو الفرج الأصفهاني.

الأغاني (بيروت، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر. د.ت ) ج18 الأغاني.

- الألباني.

صحيح الجامع الصغير (بيروت، المكتب الإسلامي، ط. الثانية 1406هـ).

- إلياد، مرسيا.

1- مظاهر الأسطورة. ترجمة نهاد خياطة (دمشق، دار كنعان للدراسات والنشر. ط. الأولى 1991م).

2- المقدس والدنيوي، رمزية الطقس والأسطورة ترجمة نهاد خياطة (دمشق، العربي للطباعة والنشر. ط. الأولى 1987م).

- امرؤ القيس.

الديوان اعتنى بتصحيحه ابن أبي شنب (الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1394هـ/ 1974م) تحقيق أنور أبو سويلم وعلى الهروط (الأردن، دار عمار ط. الأولى 1412هـ /1991م).

- ابن أوس ، معن.

الديوان تحقيق عمر محمد القطان (جدة، دار العلم للطباعة والنشر ط. الأولى 1304هـ/1983م).

- أمين ، أحمد.

النقد الأدبي (بيروت، دار الكتاب العربي، ط . الرابعة 1387هـ/ 1967م).

- بدوي، عبدالرحمن.

الموسوعة الفلسفية (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط. الأولى 1984م).

- بكار، يوسف.

بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث (بيروت، دار الأندلس ط. الثانية 1403هـ/ 1983م).

- ابن ثابت، حسان.

الديوان. تحقيق وليد عرفات (بيروت، دار صادر 1974م).

- الجاحظ.

1- البيان والتبيين. تحقيق عبدالسلام هراون (القاهرة مكتبة الخانجي ط. الرابعة 1975م).

2- الحيوان. تحقيق عبدالسلام هارون (القاهرة، البابي الحلبي، ط.الأولى سنة 1356هـ/1938م).

- الحطيئة.

الديوان. تحقيق نعمان أمين طه (القاهرة ، البابي الحلبي ط. الأولى 1378هـ/1958م).

- حميدة ، عبد الرزاق.

شياطين الشعراء (القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية [1375هـ/ 1956]).

- الحيدري ، إبراهيم.

النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب . ( بيروت، دار الساقي ط. الأولى 2003م).

 - ديورانت، وول

قصة الحضارة . ترجمة زكي نجيب محمود (القاهرة، مطابع الرجوى ط. الرابعة سنة1973م).

- ابن رشيق.

1- العمدة في صناعة الشعر ونقده. تحقيق مفيد قميحة (بيروت، دار الكتب العلمية.ط. الأولى 1403هـ/1983م).

2- العمدة في صناعة الشعر ونقده. تحقيق محي الدين عبدالحميد (القاهرة، مطبعة السعادة. ط. الثالثة 1963م).

- الرويلي، ميجان والبازعي، سعد.

دليل الناقد الأدبي (بيروت المركز الثقافي العربي، ط. الثالثة 2002م).

 

- ابن زيدون.

الديوان . تحقيق كرم البستاني ( بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر 1399هـ/1979م)

- السواح ، فراس.

لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة (سورية، دار المنارة ط. الرابعة. 1990م).

- ابن الشجري.

مختارات ابن الشجري. ضبطها وشرحها محمود حسن زناتي (بيروت، دار الكتب العلمية. ط. الثانية 1980م).

- ابن شداد، عنترة.

الديوان . تحقيق عبدالمنعم شلبي (القاهرة، شركة فن الطباعة. د. ت).

-  الضبي، المفضل.

المفضليات. تحقيق أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون (القاهرة، دار المعارف، ط. السادسة)

- عبدالرحيم، محمد.

أدب الجن أشعارهم وأخبارهم ( دمشق، دار الكتاب العربي. ط. الأولى، 1417هـ/1997م).

- عتيق، عبدالعزيز .

تاريخ النقد الأدبي عند العرب( بيروت، دار النهضة العربية ط. الثالثة 1393هـ/1974م)

- عمر بن أبي ربيعة.

الديوان . شرح يوسف شكري فرحات (بيروت، دار الجيل. ط. الأولى 1412هـ/1992م).

 

- غريب، روز.

النقد الجمالي وأثره في النقد العربي(بيروت، دار العلم للملايين.ط. الأولى1952م).

- فروم ، اريك.

اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير. ترجمة حسن قبيسي (بيروت، المركز الثقافي العربي ط. الأولى 1992م).

- ابن قتيبة.

عيون الأخبار (بيروت. دار الكتاب العربي، طبعة مصورة عن دار الكتب المصرية، سنة 1343هـ/1925م).

- القرطاجني ، حازم.

منهاج البلغاء وسراج الأدباء. تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة(بيروت، دار الغرب الإسلامي ط. الثانيةة. 1981م).

- كيليطو، عبد الفتاح.

لسان آدم . ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ( الدار البيضاء، دار توبقال. ط. الأولى سنة 1995م).

- لايكوف ، جورج، ومارك جونسون.

الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبدالمجيد جحفة (الدار البيضاء، دار توبقال ط. الأولى سنة 1996م).

- لووي، روبرت.

تاريخ الاتنولوجيا من البدايات حتى الحرب العالمية الثانية. ترجمة نظير جاهل (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط. الأولى 1412هـ /1992م).

- ليتش، إدموند.

كلود ليفي شتراوس البنيوية ومشروعها الانثروبولوجي، ترجمة ثائر ديب(د.ن، د.ت).

- المتنبي.

الديوان . ضبطه وصححه مصطفى السقا وآخران ( د.ت. د.ن).

- المرزباني.

الموشح تحقيق علي محمد البجاوي (القاهرة، دار نهضة مصر سنة 1965م).

- المعري، أبو العلاء.

رسالة الغفران . تقديم وشرح مفيد قميحة (بيروت، دار الهلال. ط. الثانية 1406هـ/ 1986م).

- ابن منظور .

لسان العرب. إعداد وتصنيف يوسف خياط (بيروت، دار لسان العرب. د. ت).

- الميداني.

مجمع الأمثال. تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد (القاهرة، مكتبة السنة المحمدية سنة 1374هـ/ 1955م).

- ابن هرمة.

الديوان. تحقيق محمد نفاع وحسين عطوان (دمشق ، مطبوعات مجمع اللغة العربية [1389هـ/ 1969م]).

- هووك، صموئيل هنري.

منعطف المخيلة البشرية بحث في الأساطير. ترجمة صبحي حديدي (سورية، دار الحوار، ط. الثانية 1995م).

- الواد، حسين.

جمالية الأنا في شعر الأعشى الكبير (بيروت، المركز الثقافي العربي ط. الأولى 2001م).

- يونس، عبدالحميد.

الأسس الفنية للنقد الأدبي (القاهرة، دار المعرفة، ط. الثانية 1966م).

بالإنجليزية:

- Johnson, M.

The Body in the Mind: The Bodily Basis of meaning, Imagination, and Reason, Chicago university press: Chicago and London, 1987.

 

 

  الدوريات:

- بولص، سركون.

قصيدة ( هنود الأباتشي) جريدة الحياة 14709.

- الحراصي، عبدالله.

مقالة( الاستعارة : التجربة : العقل المتجسد) مجلة نزوى عدد 20 سنة 1999م.

- لغزيوي، علي

مفهوم الشعر وعلاقته بالمصطلح النقدي عند ابن الخطيب بين النظرية والتطبيق، ضمن كتاب صادر عن مجلة كلية الآداب، فاس، عدد 4 سنة 1988م) بعنوان ندوة المصطلح النقدي  وعلاقتها بمختلف العلوم.

- الوهيبي، فاطمة.

سلسلة مقالات (القتيل الذي لا يموت) جريدة الجزيرة في الفترة من 13/1/1416هـ، 11/6/1995م، إلى 11/2/1416هـ ، 9 /7/1995م.

 

 


([1] ) كلمة سحرية هكذا وردت في النص، ولعلها زائدة.

([2] )  وول ديورانت، قصة الحضارة. ترجمة زكي نجيب محمود (القاهرة، مطابع الرجوى ط.الرابعة 1973م) ح1/132.

([3] )  ينظر مثلا ابن رشيق، العمدة . تحقيق مفيد قميحة (بيروت دار الكتب العلمية. ط. الأولى، 1403هـ/1983م) 20-23. وينظر ابن منظور، لسان العرب . إعداد وتصنيف يوسف خياط . (بيروت، دار لسان العرب د.ت) مادة عبقر، وينظر د.حسين الواد، جمالية الأنا في شعر الأعشى الكبير (بيروت، المركز الثقافي العربي. ط الأولى، 2001م)ص23. وينظر عبدالحميد يونس، الأسس الفنية للنقد الأدبي  (القاهرة، دار المعرفة، ط. الثانية 196م)، ص 76، وينظر دراسة على لغزيوي، مفهوم الشعر وعلاقته بالمصطلح النقدي عند ابن الخطيب بين النظرية والتطبيق ضمن كتاب عن ندوة المصطلح النقدي وعلاقته بمختلف العلوم (مجلة كلية الآداب فاس عدد 4 سنة 1988م) ص 216 وفيه يستعرض الباحث علاقة الشعر بالسحر وفيه يذكر عددًا من الكتب والرسائل القديمة المؤلفة فيهما معا، وينظر كذلك دراسة عبدالرزاق حميدة، شياطين الشعراء (القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية [1375هـ / 1956م] )، وينظر محمد عبدالرحيم، أدب الجن أشعارهم وأخبارهم (دمشق، دار الكتاب الغربي ط. الأولى 1417هـ، 1997م).

([4] )  الألباني، صحيح الجامع الصغير (بيروت المكتب الإسلامي ط. الثانية 1406هـ) رقم الحديث التسلسلي 1741 ص359 ونص الحديث هذا برواية مسلم والترمذي والطبراني ووردت صيغ أخرى للحديث حيث ينضاف براوية الطبراني قوله: ".... ويحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها" وبرواية البيهقي ينضاف ".. ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس".

([5] )  الجاحظ : البيان والتبيين، تحقيق عبدالسلام هارون (القاهرة، مكتبة الخانجي. ط. الرابعة 1975م) ح1/ 170.

([6] )  م.ن، ج1/ 255.

([7] )  ينظر مثلا الفصل الذي خصصه الجاحظ للأقوال التي شبهت الشعر والكلام بالبرود والحلل والديباج في البيان والتبيين ج1/222 – 226، وينظر مثلا قول ربيعة بن حذار لعمرو بن الأهتم: "شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر" أورد النص المرزباني في الموشح تحقيق علي محمد البجاوي (القاهرة، دار نهضة مصر سنة 1965م) 107. وينظر كذلك قول الجاحظ "إنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير". في الحيوان تحقيق عبدالسلام هارون (القاهرة، البابي الحلبي، ط. الأولى سنة 1356هـ/1938م)3/ 131-132. وينظر قول ابن هرمة:

إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله          ****            كفاي لكن لساني صائغ الكلم

في البيان والتبيين ج 1/ 160 وقول الآخر:

سل الخطباء هل سبحوا كسبحي           ****           بحور القول أو غاصوا مغاصي

لســـاني بالنثـــير وبالقـــوافـــي          ****            وبالأسجاع أمـهر في الغواص

في البيان والتبيين ج 1/79.

([8] )  الصباغة والنسج تتضمنان معاني الإحكام والسيطرة، والعنف فيهما مخفف ومنطو ومغطى بجمال الظاهر الذي يبهر العين ويشبع  النظر دون أن يُملك على الإنسان إحساسه، ويُشعر بالاستلاب العنيف.

([9] )  ابن الشجري، مختارات ابن الشجري ضبطها وشرحها محمود حسن زناتي (بيروت، دار الكتب العلمية، ط. الثانية 1980م) ص 43. ومثله قول الآخر" كلامه الوبل على المحل، والعذب البارد على الظمأ"ينظر ابن قتيبة، عيون الأخبار (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة مصورة عن دار الكتب المصرية سنة 1343هـ/1925م) مجلد 1/170.

([10] )   البيان والتبيين ج1/ 279 ومثله قول المرقش الأكبر:

                   إينما كنت أو حللت بأرض    ***           أو بلاد أحييت تلك البلادا

     ينظر البيت في المفضليات، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون (القاهرة، دار المعارف، ط. السادسة) مفضلية رقم 129 ص 431 أو كقول الحطيئة:

                   متبلة يشفي السقيم كلامها         *** لها جيد أدماء العشي خذول

ينظر ديوان الحطيئة. تحقيق نعمان أمين طه (القاهرة، البابي الحلبي، ط. الأولى 1378/1958م) ص 5.

([11] )   البيان والتبيين ج1/ 279.

([12] )  ديوان امرئ القيس، تحقيق أنور أبو سويلم وعلي الهروط (الأردن، دار عمار ط. الأولى، 1412هـ،1991م) ص 50، وثمة روايات للبيت تضع كلمة لتقدحي بدلا من لتضربي. 

([13] )  ينظر لسان العرب مادة كلم. وقد سبق أن توقفت عند هذا العنف المرتبط بمفردات ذات علاقة بالشعر والكتابة في زاويتي(ذات) في جريدة الجزيرة السعودية في سلسلة مقالات بعنوان (القتيل الذي لا يموت) نشرت في الفترة  من 13/1/1416هـ =11/6/1995م، إلى 11/2/1416هـ = 9/7/1995م.

([14] )   عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (الدار البيضاء، دار توبقال ط. الأولى، سنة 1995م) ينظر الكتاب كله فهو يعالج هذه المسألة خاصة في ص 28 و ما بعدها.

([15] )   ينظر عبد الرزاق حميدة، شياطين الشعراء ص 149 – 174، وينظر يوسف بكار. بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث (بيروت، دار الأندلس. ط. الثانية 1403هـ/ 1983م) ص 71 وما بعدها. وينظر روز غريب، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي (بيروت، دار العلم للملايين . ط. الأولى 1952م) ص 56 – 77.

([16] )  يحاول الشاعر في رسالة الغفران أن يمتدح رضوان خازن الجنة بالأشعار فيقول له إنه لم يسمع قط بهذه الكلمة وخاب مسعاه، ثم انصرف إلى خازن آخر يقال له زُفر فيقول له "لا أشعر بالذي هممت أي قصدت، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة،إنما هو للجان وعلموه ولد آدم" ثم يسأله من أي الأمم هو فيقول له إنه من أمة محمد عليه السلام فيقول: "ذلك نبي العرب ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن إبليس اللعين نفشه في إقليم العرب.." ينظر المعري رسالة الغفران تقديم  وشرح مفيد قميحة (بيروت، دار الهلال ط. ا لثانية 1406هـ/1986م) ص 144 – 145.

([17] ) البيان والتبيين ج1/ 130.

([18] )  م. ن ج1/ 134.

([19] )   م. ن ج 1/134.

([20] )   ابن رشيق، العمدة في صناعة الشعر ونقده، تحقيق محي الدين عبدالحميد (القاهرة مطبعة السعادة ط. الثالثة 1963م) ج1/117.

([21] )   البيان والتبيين ج1/ 206 – 207.

([22] )   روز غريب، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، ص 56.

([23] )   وفي النقد الأوربي إشارات قوية وواضحة إلى أن عمل القصيدة رحلة مخيفة وجهد مؤلم لتركيز الخيال كما يرى سبندر، فهو يرى أن الشعر ليس سهلا وإنما هو صراع ومعاناة وجهد. يوسف بكار، بناء القصيدة في النقد العربي القديم،    ص71-72.

([24] ) المرزباني، الموشح ، ص 107.  

([25] )  ينظر عبدالعزيز عتيق، تاريخ النقد الأدبي عند العرب (بيروت ، دار النهضة العربية، ط. الثالثة سنة 1393هـ/ 1974م،) ص 26 وه وينقل النص عن أحمد أمين في النقد الأدبي (بيروت، دار الكتاب العربي ط. الرابعة 1387هـ/  1967م) ص 447 الذي يورد النص دون إحالة. وألفت نظر القارئ إلى العنف المتضمن تصويرًا لأثر الشعر وكأنه شهاب صاعق ينزل على الناس، أو المتضمن الرؤية إليه مصحوبًا بنزعة الإحكام والسيطرة المنطوية على عنف في دلالة إحكام الخرز. وفي رواية أخرى للمجلس يورد المرزباني قولا ينسبه إلى عبدة بن الطبيب يقول فيه للزبرقان: "وأما أنت يا زبرقان فإنك مررت بجزور منحورة فأخذت من أطايبها وأخابثها " ينظر  الموشح ص108.

([26] )  الآية الكريمة : ) أيحب أحدكم أن يأكل لحكم أخيه ميتًا فكرهتموه( الآية 12 [السورة الحجرات] . 

([27] ) ابن منظور، لسان العرب، مادة لحم. 

([28] ) ابن رشيق، العمدة تحقيق مفيد قميحة، ص 172.

([29] ) م.ن  ص 170.

([30] )    ابن منظور، لسان العرب، مادة طبق.

([31] )   الجاحظ، البيان والتبيين، ج1/ 107.

([32] )   م. ن  ج1/ 108 وأورد لأبي قطن الغنوي أبياتًا منها:

            جفاة المحز لا يصيبون مفصلا       ***        ولا يأكلون اللحم إلا تخذما

      وعلق عليه الجاحظ : " يقول هم ملوك وأشباه ملوك، ولهم كفاة فهم لا يحسنون إصابة المفصل".

([33] )   م. ن ج1/109.

([34] )  م. ن  ج1/ 111، وينظر ديوان ابن هرمة، تحقيق محمد نفاع وحسين عطوان (دمشق، مطبوعات مجمع اللغة العربية [ 1389هـ/1969م] ) ص 195.

([35] )  ابن رشيق ، العمدة، تحقيق مفيد قميحة ، ص 152. والتشديد من عند الباحثة.

([36] )  ابن منظور، لسان العرب، مادة صوب.

([37] )  البيان والتبيين ج1/ 147 – 148.

([38] ) تقدم الاستشهاد بالبيت في ص 3 من هذه الدراسة.

([39] ) ينظر ديوان امرئ القيس، اعتنى بتصحيحه ابن أبي شنب (الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع1394هـ/ 1974م) ص477.

([40] )  ينظر ديوان عنترة تحقيق عبد المنعم شلبي (القاهرة، شركة فن الطباعة د.ت) ص 85.

([41] ) ينظر ديوان معن بن أوس ، تحقيق عمر محمد القطان (جدة،دار العلم للطباعة والنشر. ط.الأولى 1403هـ/1983م)ص103.

([42] )  أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني( بيروت، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر د.ت) 18/154.

([43] )  ينظر المفضليات مفضلية رقم 11/ ص 61.

([44] )   م.ن مفضلية رقم 50 ص 231.

([45] )  م.ن مفضلية رقم 97 ص 234.

([46] )  م.ن مفضلية رقم 8 ص 44.

([47] )  ينظر ديوان عمر بن أبي ربيعة قوله : فاتقي الله ذا الجلال يا أم عمرو    ***  واحكمي في أسيركم بالصواب

     ديوان عمر بن أبي ربيعة. شرح يوسف شكري فرحات،(بيروت، دار الجيل. ط. الأولى 1412هـ/1992م)ص72.

([48] )  يقول الحطيئة : إذ تستبيـك بمصقول عوارضـه     ***          حمش اللثات ترى في غربه شنبا

   قد أخلقت عهدها من بعد جدته    ***     وكذبتْ حب ملهوف ومــا كذبا

ديوان الحطيئة، ص 121.

([49] )  يقول حسان بن ثابت:   تبلت فؤادك في المنام خريدة         ***        تسقي الضجيج ببارد بسام

ويقول:                يالقومي هل يقتل المرء مثلي        ***        واهن البطش والعظام سؤوم

     ديوان حسان بن ثابت، تحقيق وليد عرفات (بيروت، دار صادر، 1974م) ص 29 وص 40.

([50] )  ويقول عمر بن أبي ربيعة     نحن أهل الخيف من أهل منى     ***   ما لمقتول قتلناه قود

     ينظر ديوان عمر بن أبي ربيعة، ص 166.

([51] )  ينظر ديوان ابن زيدون تحقيق كرم البستاني (بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر 1399/1979م) ينظر مثلا  ص 50- 51

([52] )  المفضليات مفضلية رقم 40 ص 192. 

([53] )  م. ن مفضلية رقم 99 ص 346.

([54] ) م. ن مفضلية رقم 98 ص 340.

([55] )  جاء في اللسان: "بلغ الشيء بلوغًا وبلاغًا وصل وانتهى... البليغ من الرجال... حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه... وبلغ به البلغين... إذ استقصى في شتمه وأذاه.. والبلغين الداهية...." مادة بلغ.

([56] ) المفضليات مفضلية رقم 117 ص 386.

([57] ) البيان والتبيين ج 1/ 156  ديوان امرئ القيس ص 345.

([58] ) م.ن ج 1/ 167.

([59] ) م.ن ج 1/273.

([60] ) م.ن ج1/ 194.

([61] ) م.ن ج1/ 157

([62] )  م.ن ج1/159.

([63] ) ديوان المتنبي. ضبطه وصححه مصطفى السقا وآخران (د.ت . د. ن) مجلد 2، ص18.

([64] )  القصائد التي تصب في هذا الاتجاه كثيرة. ويمكن مثلا الإشارة إلى قصيدة سركون بولص المسماة (هنود الأباتشي) حيث يتحدث فيها عن هنود الأباتشي الذين يصفهم بقدرتهم على الحرب والقنص والإبادة، ويشبه الشاعر بهذه القبيلة حيث يقول:

"وهكذا الشاعر

هو المطوق بصيحات القبيلة

حين يجول بين العظام ويمشي

بين خرائب مدينته يحلم

أحيانا

أن يحلق كأي نسر

فوق رؤوس القتلى والقتلة

أملا أن يجندل بكلماته

مخلوقًا رائعًا ممعنًا في الهرب

وأن ينشب صنارة خياله

في لحم الفريسة" قصيدة جديدة منشورة في جريدة الحياة عدد 14709.

([65] )  حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة( بيروت، دار الغرب الإسلامي. ط. الثانية 1981م) ص 194.

([66] )  م. ن  ص 194 – 195.

([67] )  المفضليات،  مفضلية رقم 20 ص 109.

([68] )  ينظر لسان العرب، مادة فخر.

([69] )  البيان والتبيين ج3/ 224 وينظر اللسان مادة جن.

([70] )  القول منسوب لثعلب ينظر البيان والتبيين ج3/ 224 ويلاحظ قوله:  تتبعهم ولم يقل تتبعهن !!

([71] )  حتى لو وقفنا عند المعنى المحتمل لجن في النصوص الدال على التيه والعجب والدال على التميز بما هو غريب ووحشي فكل ذلك يبقيه في دائرة التجاوز والمفارقة الآيلة إلى صيرورة العزلة أو الجنون كما سنرى.

([72] )  اللسان مادة حسن.

([73] )  الميداني، مجمع الأمثال، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد (القاهرة، مكتبة السنة المحمدية سنة 1374هـ/1955م) مج1/414-416.

([74] )  شميلة امرأة مجاشع السلمي أحد أعيان مدينة البصرة، وكانت أجمل امرأة في البصرة كما يذكر الميداني.

([75] )  جورج لايكوف ومارك جونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبدالمجيد جحفة (الدار البيضاء، دار توبقال، ط. الأولى سنة 1996م).

([76] )             Johnson, M. The Body in the Mind: The Bodily Basis of meaning, imagination, and Reason, Chicago University press: Chicago and London, 1987 (preface, P.xiv)

     وينظر تقديم لكتاب مارك جونسون (الجسد في العقل) في مقالة عبدالله الحراصي بعنوان (الاستعارة: التجربة العقل المتجسد) مجلة نزوى عدد 20 سنة 1999م. والنص المترجم أعلاه منقول عنه ص 27.

([77] )     ينظر الحراصي، مقالة (الاستعارة: التجربة العقل المتجسد) مجلة نزوى عدد 20 سنة 1999م، ص28.

([78] )  يرى باشوفن Bachofen أن هيمنة الأمومة لا تؤخذ بمعزل عن الظواهر الأخرى" فالحسب الأمومي يقترن بخلاف الحسب الأبوي مع تفضيل جهة الشمال على اليمين والليل على النهار والقمر على الشمس.. حتى إن المفاهيم العامة مثل الحرية والمساواة تتفرع تلقائيًا عن الأمومة "وأنه حينما انتصرت الأبوة لم تحدث فقط تبدلا اجتماعيًا بل "رؤية ثورية عن العالم: لقد ظفرت الفكرة السماوية الأبولونية على الفكرة الأرضية وطغت الميمنة على الميسرة، وغلب النهار على الليل، وأخضعت الروح المادة" ينظر روبرت لووي، تاريخ الاتنولوجيا من البدايات حتى الحرب العالمية الثانية، ترجمة نظير جاهل (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط. الأولى 1412هـ/1992م)، ص 36 – 37 وينظر التحليل المفصل لرأي باشوفن الوارد في كتابه حق الأم والانتقادات الموجهة إليه الذي قدمه إبراهيم الحيدري في كتابه النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب (بيروت، دار الساقي. ط. الاولى 2003) خاصة ربط باشوفن لمبدأ الخصوبة في الأرض مع مبدأ الخصوبة عند  المرأة في ص 29 وما بعدها.

([79] )  في إحالات علماء النفس ثمة اتكاء واعتداد كبير بربط فرويد البعد الحسي الخالص بالمرأة في مقابل الفكر والتجريد والعقلانية للرجل.

([80] )  هكذا وردت في النص المترجم، والنسبة إلى الأم أمومي وإلى الأب أبوي.

([81] ) اريك فروم، اللغة المنسية مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير. ترجمة حسن قبيسي (بيروت، المركز الثقافي العربي. ط. الأولى 1992م،) ص 186.

([82] )  ينظر في مبادئ النظام الأمومي المصدر السابق ص 187، وينظر كذلك فراس السواح، لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة (سورية، دار المنارة، ط. الرابعة 1990م) ص 31- 41.

([83] )  في الأدب الحديث ثمة تواز واع أو غير واعٍ بين الحب والعنف يربط الحب بالحس والأكل والالتهام والحرب خذ مثلا عنوان غادة السمان لأحد كتبها "أعلنت عليك الحب" حيث يتضمن العنوان استحضارًا واعيًا لعبارة أعلنت الحرب، وبذا تمسي كلمة الحب موازية للحرب وهذا التعويض يفضح الرؤية إلى علاقة الحب بوصفها علاقة ذات بعد عنيف أو حربي!!

([84] )  الكسموغونيا الأساطير المتعلقة بنشأة الكون.

([85] )  ينظر صموئيل هنري هووك، منعطف المخيلة البشرية، بحث في الأساطير، ترجمة صبحي حديدي (سورية، دار الحوار، ط. الثانية 1995م) ص 19، 34، 58، 88 وينظر مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة (دمشق، دار كنعان للدراسات والنشر. ط. الأولى 1991م) ص 24 و 32 ، وينظر فراس السواح، لغز عشتار.

([86] )  مرسيا إلياد، المقدس والدنيوي رمزية الطقس والأسطورة. ترجمة نهاد خياطة (دمشق، العربي للطباعة والنشر. ط. الأولى 1987م) ص 88.

([87] )  م.ن  ص90.

([88] )  مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة ص 103 يقول: "فالقرابين البشرية والحيوانية ماهي إلا تذكار رسمي للقتل البدئي... تبعًا لذلك إن الاحتفالات الدينية ماهي إلا أعياد للذكرى. أن تعرف معناه أنك تعرف الأسطورة المركزية (قتل الألوهية وما ينجم عنه) والعمل على عدم نسيانها، والدنس الحقيقي إنما هو نسيان الفعل الإلهي. والخطأ والإثم والدنس إنما هو عدم تذكر أن الشكل الحالي من الوجود البشري هو نتيجة فعل إلهي".

([89] ) يرى كلود ليفي شتراوس في دراسته (المداران الحزينان) أنه لا يمكن فهم طبيعة الإنسان إلا بدراسة هذا الثنائي الثقافة والطبيعة، ويحدد وجود الإنسان كإنسان يختلف عن الحيوان باللغة، وهو بهذا ينحو نحو" روسو وربما فيكو أيضا أو هوبز أو أرسطو وكثيرين غيرهم. فظهور اللغة الذي يرافق التحول من الحيوانية إلى الإنسانية، من الطبيعة إلى الثقافة هو أيضا تحول العاطفة إلى العقلنة ذلك أن الكلام الأول كان شعرًا كله، ولم يحسب حساب العقلنة إلا لاحقا (روسو مقالة في أصل اللغات) "ينظر إدموند ليتش ،كلود ليفي شتراوس البنيوية ومشروعها الأنثروبولوجي. ترجمة ثائر ديب (د.ت. د.ن) ص 54 وينظر كذلك ميجان الرويلي وسعد البازعي.دليل الناقد الأدبي (بيروت، المركز الثقافي العربي. ط. الثالثة 2002) ص 123 – 126.

([90] ) ص 22 من هذه الدراسة.

([91] ) يرى ها يدجر "أن اللغة هي بيت الوجود الذي يسكنه الإنسان.. واللغة هي التي تؤسس كل ما هو كائن.... واللغة الصحيحة هي خصوصا تلك التي ينطق بها الشاعر..." ينظر عبدالرحمن بدوي الموسوعة الفلسفية (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط. الأولى 1984م) ج2/604.