عرضت في المقالة السابقة لكتاب (مديح الظل) للياباني تانيزاكي، ووضعته في سياق واحد مع كتاب بول فيريليو (ماكينة الإبصار) من حيث إن كلا الكتابين، وإن بطريقتين مختلفتين، يتأملان في عمق قضية الضوء والظل، ويقف الأخير خاصة عند مسألة الصورة والضوء والإبهار ليكشف عن التشوهات والتحولات التي حدثت في الثقافة الغربية المعاصرة مع تسارع تقنية الصورة.
و(بول فيريليو) اسم بارز في الفلسفة الفرنسية المعاصرة مولود سنة 1932، تفتح وعيه وهو طفل على أشباح الحرب القادمة من ألمانيا، ونتائج تلك الحرب أدته فيما بعد لطرح مقولته في (جمالية التلاشي)، حيث يعترف أن فكرته تلك تولدت أثناء قصف الطائرات الألمانيه لمدينة نانت الفرنسية وما تركته من خراب ودمار. بدأ حياته زجاجـًا، ثم درس العمارة وأصبح أستاذًا في المدرسة العليا للعمارة. ولكن فيريليو لم يدخل" المعترك الفكري والجمالي من أبواب الموضوعات والقضايا الفلسفية الكبرى التي اعتاد المفكرون التناظر والجدل فيها، وإنما فتح مسالك مبتكرة لم يسبقه إليها أحد، كالعلاقة بين السرعة والسياسة أو كجمالية التلاشي."(1)
و(فيريليو) واحد من أبرز المفكرين والفلاسفة الفرنسيين الذين كانوا من أعنف من نقد حرب الخليج الثانية. إذ كان يرى أنها حرب بالصور وذلك يتواءم مع فكرته عن علاقة الصورة بالزمن والسرعة والسياسة وتأثيراتها على الجماهير. فبول فيريليو يرى أن أخطر ميدان ظهرت فيه آثار السرعة المتزايدة هو الميدان الحربي؛ فالحرب لم تعد نزالاً بين أفراد عيانيين ومرئيين "وإنما اصبحت حربـًا ذخيرتها الأهم والأبرز والأكثر فاعلية معطيات رقمية وأصوات يتحكم فيها أناس هم غالبًا غير مرئيين."(2)
وقد رأى أن الإعلام في حرب الخليج كان عنصرًا من عناصر ترسانة عسكرية جعلت الحقيقة مجتزأة ومطابقة لمتطلبات الجيش و السياسة. فبول فيريليو يبين في دراساته أن تطور تقنيات الصورة والإعلام المرتبطة بالسياسة وبالسرعة وتسارع هذا التطور - يقود الإنسان طواعية نحو التخلي عن وسائل إدراكه ونحو عدم الثقة في حواسه الطبيعية " فهو ما عاد يقنع بما تريه عيناه من الواقع، لأن ما تعرضه أمامه تقنيات المعلوماتيات يتجاوز ما باستطاعة عينيه التقاطه. وقس على ذلك كل الحواس الأخرى. التقنية تخدر الإدراك."(3) وقد بسط آراءه تلك عن أثر هذا التسارع في كتاب يحمل عنوان (إمداد الإدراك).
و (فيريليو) في كتابه ماكينة الإبصار يعنى بدراسة أثر تغييب دور العين في عملية الإبصار من خلال متابعة تطور تقنيات الإبصار، والمراصد الفلكية، والسعي الحديث لإحلال الآلة محل العين في أداء دورها، وتحويل الإبصار إلى ماكينة .
إن الكتاب على تعقيده وغناه مليء بما يثير التساؤلات والفضول. ولكن ما يلفت النظر حقـًا هو محاولة (فيريليو) الكشف عن التطور الذي رافق مسألة الضوء والتصوير والتمثيل في الفن (الرسم والنحت) ومن ثم في التطور التقني الذي لابس مسألة التقاط العين لما تريد تثبيته باختراع آلة التصوير وما رافق هذا التطور من تحولات وتشويهات لحقت الذاكرة والمخيلة من جهة، ولحقت بالتالي وظيفة العين وحدود الإدراك ، وتلحق بالتالي حدود الحقيقة والجمال اللتين يتماس معهما الإنسان.
و(فيريليو) يرى أن الأجهزة البصرية والمجاهر والعدسات والمناظير الفلكية والعدسات بدلت ظروف الإدراك والاسترجاع للصور الذهنية مكانيـًا، ويرى أن هذا التحول للمخيلة إلى صور هو الذي ساعد_ كما يرى ديكارت أيضـًا على الوصول إلى أنه في اللحظة التي "ادعينا فيها تملكنا لوسائل تسمح لنا بأن نرى بشكل أوسع وأحسن ما لايرى من الكون بدأنا نفتقد قدرتنا الضعيفة على تصور هذا الكون."(4)
وهو، بعد أن يعود بقضية الضوء الذي لا يحتوي على صور ولكنه يساعد على صنعها، يحاول إبراز كيف أن تكييف الجماهير بمساعدة المؤثرات الضوئية أمر قديم. ولذلك يكشف تاريخيـًا عن المحاولات في نهاية القرن السابع عشر لإضاءة باريس التي اضيئت سنة 1697م بـ 65 ألف مصباح حتى أطلق عليها مدينة النور، حتى صار الولع بكل ما يبرق مميزًا لنخبها ومؤسساتها، مما أدى إلى ما يسميه خلق الواقع الوهمي بسبب فائض الإنارة. (5)
ويقول (فيريليو) إن الثورة الفرنسية جعلت من إيضاح التفاصيل أداة للحكم، وإن الرغبة في رؤية كل شيء أمر لا يمكن أن يتم إلا في الضوء، ولذلك يتوقف عند ما يسميه الإرهاب الثوري والإيديولوجي الذي حول بلد الأنوار إلى ظاهره من الرعب الشديد، وذلك حينما جعلت الشرطة من العين شعارًا لها. وهو يكشف عما يسميه إضاءة الحيز الخاص وهو انتهاك السرية والخصوصية الإنسانية، في مقابل ما يسميه إضاءة الحيز العام، وهو ما سبق أن أشار إليه من إغراق باريس بالإضاءة ليلاً ونهارًا مسارح وطرقات وشوارع.
ويرى أن الاهتمام المتوازي والمضاعف بمبدأ فعالية الإرهاب المرتبط بالإنارة الباهرة لم ينقرض، ويضرب أمثلة لحضوره في أعمال (فوشيه) و(تاليران) ويرى حضوره كمعرفة مرعبة عند (لاكان) في مقولته "ليس أنا من يدفعكم لقول هذا."(6) ، وعند (ميشيل فوكو) في كتابيه (ميلاد العيادة) و(المراقبه والعقاب) وعند رولان بارت في (الغرفة المضاءة).
و يكشف (فيريليو) عن الهوس بالإضاءة ووضع الإنسان تحت المجهر كما تجلى في الأدب. ويذكرنا بمقوله فولبير " من الأفضل لنا أن نكون عينـًا."(7) مستعيدًا شعار الشرطة الثورية،ويبرز كيف حدث هذا التداخل بين رجل الأدب والفنان ورجل الصحافة ونزعة الوشاية والاستقصاء ودفق كل ما يمكن من إضاءة مبهرة لهتك الحقيقة والخصوصية .
إن هذه العين والعدسة وماكينة الإبصار وطوفان الضوء والأنوار التي يلاحق (فيريليو) تجلياتها في مظاهر الحياة في المجتمع والسياسة والأدب والفلسفة وأثرها في الحياة الخاصة والعامة متتبعـًا تأثيراتها وتشويهاتها - من أطرف ما يمكن للمرء أن يتأمله، خاصة وقد تحولت ملابستنا للضوء والصورة والإعلام إلى مسلمات دون توقف ومساءلات لما تُشْحَن به وما يكتنفها من معطيات سياسية وإيديولوجيه وإبستمولوجية مختلفة.
الهوامش
(1) مديح الظل ص 7
(2) ماكينة الإبصار ص10
(3) ماكينة الإبصار ص 11
(4) ماكينة الإبصار ص29
(5) ماكينة الإبصار ص38
(6) ماكينة الإبصار ص 91
(7) ماكينة الإبصار ص93