الصفحة الرئيسية
 /  
كتاب القتل بالشعر
 /  
رجوع

كتاب القتل بالشعر


 

مقالة الدكتور المبخوت عن كتاب القتل والشعر

عودة إلى غرض شعريّ مقيت

مهرجان الهجاء وطقس الدم المراق


شكري المبخوت

كثيرا ما ننسى، ونحن نقرأ شعرنا العربيّ القديم، ما يقوم بيننا وبينه من مسافة تاريخيّة وثقافيّة وتأويليّة. فلعلّ استمرار اللّغة العربيّة في بناها الأساسيّة هو الذي يجرّنا إلى هذا النسيان. ولكن حالما يستغلق علينا بيت أو تغمض قصيدة نكتشف أنّ السنن الثقافيّة قد تبدّلت إلى حدّ كبير وأن شفرات النصوص ورموزها تحتاج منّا، علاوة على المعرفة المعمّقة، إلى تلطّف وحذق في إعادة بناء السياقات وتشقيق المعاني لبلوغ المقاصد.

ويتنزّل تحليل الباحثة السعوديّة فاطمة عبد الله الوهيبي لقصيدة قالها جرير، سميت بـ"الدامغة"  (أو "الدمّاغة") وأحيانا "الفاضحة" أو "الدهقانة" ونعت الشاعر قافيتها بـ "المنصورة"، في كتابها "القتل بالشعر، دراسة في سيميوطيقا الثقافة: الدامغة لجرير بوصفها علامة (مؤسّسة الانتشار العربيّ ونادي أبها الأدبيّ، بيروت - عسير أبها، 2016) في هذا الضرب من تملّك النصّ القديم معرفيّا والحفر في طبقاته الدلاليّة ضمن رؤية معاصرة تسعى إلى ردم الفجوة القائمة بين السياقين القديم والحديث في فهم الشعر عامّة وقصيدة من أشهر قصائد الهجاء لواحد من أكبر الهجّائين في الثقافة العربيّة.

ومن طريف ما يحف بقصّة وضع الوهيبي لهذا الكتاب أنّها، مثل كثيرين منّا، لم تكن تميل إلى غرض الهجاء. وهي مسافة أخرى ذوقيّة وإيديولوجيّة تقوم بيننا وبين بعض الشعر القديم. فما الذي مكّن لقصيدة قالها جرير كانت، على ما تذكر المصادر، سببا في قتل المهجوّ الشاعر الراعي النميري الذي كان يفضّل الفرزدق على جرير فعاقبه بالفاضحة؟ وأيّ عنف بالشعر ورائق القول يصل إلى حدّ القتل، مجازا وحقيقة، في عيون أبناء عصرنا؟

النصّ وسُننه الثقافيّة

بقطع النظر عن الغايات المعلنة من هذا البحث فالمفيد فيه هو سعي الباحثة إلى إعادة بناء السياق القديم للقصيدة بالتعويل على النصوص المصاحبة التي استمدّتها من كتب الأخبار والأدب. لذلك جاء التحليل في حقيقة أمره تفكيرا في السنن الثقافيّة التي تحكّمت في الدامغة وتتبّعا للشفرات الفنّيّة للشعر القديم في عمومه وغرض الهجاء تحديدا واستكشافا لمنظومة القيم القبليّة والاجتماعيّة التي كانت حاضنة للقصيدة. وهذا ما جعل حظّ المعالجة النصّيّة لبنى النصّ وأساليبه في التعبير ونظامه الداخليّ، على الطريقة البنيويّة، محدودا. فاستراتيجيّة القراءة ذات البعد الثقافيّ والتاريخيّ فرضت التعويل على المراوحة بين داخل النصّ، من خلال بعض علاماته وتعابيره، وما يقع في المرجع الذي بنته المرويّات التي اعتمدت عليها الباحثة. وكان من البيّن أنّ فاطمة الوهيبي، بعيدا عن نقد تلك الأخبار وتنخيلها، افترضت أنّها، حتّى بما فيها من تخييل وتزيّد ومبالغة، جزء من الجهاز الأدبيّ المفسّر لوظيفة الشعر في نظام الأدب القديم. فما يعني الباحثة ضمن مشروعها الأدبيّ هو الوقوف على ما بين الجمال الفنّيّ في الأدب والثقافة العربيّين ومحمول العنف من صلات في مستوى البنية التصوّريّة.

الحرب بالكلمات

والواقع أنّ جرير الشاعر يستجيب، في نطاق الصورة التي استقرّت عنه في تاريخ الشعر العربيّ، أيما استجابة لمشروع الوهيبي واستراتيجيتها في القراءة. فالاسم العلم نفسه يحمل دلالة العنف قبل النبوغ في الشعر إذ تروي الأخبار أنّ أمّه حلمت أنّها حامل بحبل يخنق الناس. ورمزيّة الحبل كما أشارت الوهيبي متّصلة في المخيال الإنسانيّ بآلهة الموت. ومن عتبة الاسم أمكن للنصوص المصاحبة أن تبني أسطورة الشاعر القاتل بحبل الكلام الذي يلفّه على رقاب عشرات الضحايا من الشعراء. وقد أحسنت الوهيبي صنيعا بتتبّعها الدقيق لمرويّات كثيرة تدور على معنى القتل بدوافعه المختلفة لدى جرير والهيئات التي يتّخذها سواء لشحذ سكّين شعره قصد القضاء على خصومه أو الوقوف في مقام الهجاء والاستعداد له وفق مراسم في الإنشاد معلومة تغيب عنّا صورتها اليوم لبعد الزمان واختلاف الشعائر والطقوس.

ومن طريف ما حلّلته فاطمة الوهيبي جملة من الاستعارات التي تشتغل في الثقافة القديمة لبناء تصوّرات العرب عن الشعر وإبراز التلازم بين الشعر والعنف والتوحّش. وهو ما تسمّيه الأصل الحيوانيّ للقصيد. فثمّة سجلّ قوليّ مداره على النهش والافتراس والصيد والعواء والهراش وما إلى هذا من ألفاظ العنف متفشٍّ في الخطاب الواصف للشعر. فتسمية جنس القول نفسه أي قصيد أو قصيدة تحيل على الناقة السمينة الممتلئة الجسيمة (ص 74). وتوصف القوافي عندهم بالأوابد أي المتوحّشة الشاردة ويسمّى ما لا يقدر على مثله من الشعر وحشيّا. وعبّر جرير نفسه عن قدرته على قول الشعر والتفنّن فيه بعبارة "نحرت الشعر نحرا" تقطر قوافيه دما!.

ولا ريب أنّ لهذه الاستعارات الحيوانيّة صلة بالاستعارة الحربيّة التي تفسّر الكثير من المعارك الشعريّة التي تدور على أراض كثيرة منها شعر النقائض وشعر الفخر وشعر الهجاء كما بيّنت الوهيبي فتبني في الآن نفسه ذاكرة للقبيلة ومفاخرها. فـ"مهرجان الهجاء وطقس الدم المراق هو مهرجان شعريّ يشارك فيه الشعراء والجمهور معا" (ص 113).

في مراسم الهجاء

ولمّا كان أمر الهجاء على هذه الخطورة كانت العرب تتطيّر منه إذ ترى بين الشاعر الهجّاء والساحر علاقة. فالشاعر ينجز بقوله الأفعال التي لا يقدر على إتيانها إلاّ السحرة. وممّا يزيد هذا الاعتقاد ترسّخا أنّ جريرا نفسه اتخذ، عند إلقاء القصيدة التي ذهب ضحيتها الراعي النميري، هيئة غريبة هي من طقوس أداء الهجاء. فقد ارتدى حلّة خاصّة وحلق منه الرأس (وهو من شعائر الحج خروجا "من حرمة عرض المهجوّ إلى استحلال نهشه" (ص 144)) تاركا ذؤابتين ودهن أحد شقّي رأسه وانتعل نعلا واحدة (والشيطان في اعتقادهم لا يلبس إلاّ نعلا واحدة).

وما هذه الدلالة العنيفة التي يحملها غرض الهجاء ببعيدة عن أصل الكلمة المعجميّ. فالهجو هو الهدم. ورغم تنبيه النقّاد إلى أنّ للهجاء قواعد فإنّنا نجد جريرا يعدل عنها. فبدل أن يحفظ الأعراض نجده يفحش القول ويسرف في المس بنساء المهجوّ وبدل الرغبة عن التفضيل بين الأقوام نجده يفاخر خصمه ويتباهى عليه. فالمهمّ عنده أن يردي خصمه بهجائه حتّى تظلّ قصائده دامغة تسم المهجوّ إلى الأبد وتترسّخ في ذاكرة القبائل. وهذا ما حصل لبني نمير من إذلال وإهانة فقد محا جرير ذكرهم وجعلهم يتحامون تسميتهم ببني نمير. وتستشهد الوهيبي بابن رشيق في ذلك حين قال: "وممّن وضعهم ما قيل فيه من شعر حتّى أنكر نسبه وسقط عن رتبته وعيب بفضيلته بنو نمير" ( ص 194).

كيف يكون الشعر عملا؟

إنّ أجزاء كثيرة من كتاب فاطمة الوهيبي ممتعة في لطف تخريجها وبراعة توثيقها لتفاصيل كثيرة تجمع بينها قصد تحليل سياق القصيدة التي تدرسها وخصائص غرض الهجاء. لقد كانت كأنّها تطرّز ثوبا بديعا.

وأكبر ظنّي أنّ هذا الكتاب ييسّر لنا، من جهة ثقافيّة عامّة، إعادة امتلاك جزء من موروثنا الأدبيّ إذ يوضّح بعض ما يعتمل في ذاكرتنا الثقافيّة دون أن نعي به كل الوعي. وهو، من جهة ثانية أعلق بالمظهر الجماليّ للشعر، يردّنا إلى سؤال جوهريّ عن علاقة الأقاويل الشعريّة بالواقع. فقصيدة الدامغة أثّرت ضروبا من التأثير بمادّة تخيييلها ونفذت إلى قلوب الناس بعيدا عن التصديق والتكذيب. ويردّنا هذا الكتاب كذلك إلى علاقة الشعر بالقراءة التي تجدّده وتملأ فراغاته لتبيّن منزلته من منظومات القيم الثقافيّة. فكيف يكون جرير وأضرابه منفصلين عنّا، بحكم تبدّل السياقات الثقافيّة، ومتّصلين بنا بمقتضى ما للّغة العربيّة ببعديها التواصليّ والشعريّ الفنّيّ في آن من ثبات رغم التحوّلات؟

 

*روائيّ وأكاديميّ من تونس