يورد خورخي بورخيس في كتابه (كتاب المخلوقات الوهمية) حشدًا من الحكم والخرافات والأساطير من مختلف الثقافات ، ويقول في مقدمة الطبعة الثانية (1967) إنه لم يصمم كتابه هذا على غرار منتخبات نثرية مشابهة له أو قريبة من حقله , مثل أعمال (روبرت بورتن) أو( جميس فرايرز ) التي تُقرأ على نحو متتابع قراءة متصلة . ويدعو أن يقارب القارئ كتابه " كمن يلعب بالأشكال المتغيرة التي يعكسها المشكال . " على حد عبارته .
والمشكال ( هكذا يترجمها المغاربة ولا أعرف لها ترجمة أخرى ) لعبة بديعة تلهب المخيلة ، وقد اتيح لي مرة أن أقتني واحدة جاءتني هدية من اليابان وقد أعجبتني كثيرًا فصرت أجمع أنواعًا مخلتفة ومطورة منها ، على الرغم من عدم توافرها في أسواقنا العربية . تقوم فكرتها على صنع أشكال فنية من الزجاج الملون المبدد بمجرد حركة بسيطة من يد الناظر إلى أسطونة اللعبة التي تجمع قطع الزجاج في قاعها , وكلما برع الناظر في هذه اللعبة بعمل حركات رشيقة خفيفة أمكنه أن يحصل على ما لا يُحد من التشكيلات البصرية الجميلة .
إن المعنى العميق وراء هذا أن هذا التفاعل من يد الناظر في اللعبة وحركاته ولمساته الرشيقة هي التي تحرك كوامن الجمال القار ليستجيب فيتشكل . فالفن والجمال في الكون والإنسان والأشياء من حوله تحتاج إلى تأمل وإمعان نظر و تأنٍ وحب وتفاعل ليصل الإنسان إلى ما لا نهاية له من ألوان المتعة والجمال سواء أكانت تلك المتعة بصرية كما تصنعها لعبة المشكال أم كانت متع العقل والمخيلة كما يمكن ان تصنعها لعبة الفن والأدب والفلسفة وضروب التأمل والمعرفة .
لقد رصّ ( بورخيس ) في عمله هذا قطعًا متجاورة من القصص والأساطير المتعلقة بمخلوقات وهمية ، قطعًا تشبه قطع الزجاج الملون في لعبة المشكال التي إن حركتها يد اللاعب برشاقة أو رجتها بقوة فسيحصل دائمًا على أشكال جديدة ومتغيرة غير ما كانت عليه وهكذا دواليك .
وما يقصده (بورخيس) من كلامه أعلاه أن في الحياة والفن والأساطير شيئًا شبيهًا بهذه الفوضى التي يختفي التنظيم والتشابه خلفها وخلف ما لا يمكن أن نتخيل أن أية روابط خفية يمكن أن تجمعها , ولكنها تشكل بسببها معان أو دلالات أو تشكيلات غنية من زوايا مختلفة .
ومع أن (بورخيس) كان يريد من القارئ أن ينظر إلى مجموع هذا الحشد المتراص من قصص الكائنات والخرافات والأساطير حولها من زاوية ذلك التغير الفتّان والتشابة الخفي _ إلا أنه بدأ كتابه بالكائن المسمى (آباوآقو) وقصة هذا الكائن تقوم ( لوحدها ) على فكرة التغير القدري المستمر والاضمحلال مرة تلو مرة ثم التشكل من جديد ، وسأتوقف عند الـ (آباوآقو) في المقالة القادمة بإذن الله .