أشرع خطأٌ مطبعي في كتاب كنت أقرؤه أصاب كلمة (استعارية) فصارت (استعمارية) أشرع الخطأ دلالاتٍ استعمارية هي الأخرى حول علاقة الاستعارة بالاستعمار!! ألا يقوم مفهوم الاستعارة على قانون إزاحةٍ في المكان بين الحقيقي والواقعي وبين المجاز ، هذه الحركة _ هذه النقلة بين الواقع وبين ما تؤول إليه عن طريق شبكة العلاقات ، وصيرورة الانتقالات والإزاحات إلى عوالم المجاز والخيال _ هي حركة استعمار مبطن مغلف في الخارج بجمالية تبرّره وتحرضه أكثر !!
إن الوسائط التي تعمل من خلالها تقنية الاستعارة لتدمير العلاقات الواقعية المألوفة القديمة لتنهض على أنقاضها علاقات جديدة مبتكرة ومصنّعة ؛ لتدهش وتملك مشاعر المتلقي وأفكاره فلا يعود يفكر بسالف الحال ، حال الحقيقة قبل الاستعارة ، وتكمّم فمه عن المطالبة بحدود الواقع وشكله قبل الواقعة ، الواقعة الخيالية والجمالية التي تدشّن حربًا ناعمة وسرية على المألوف والاعتياد . إنها تستعمر أرض الحقيقة لتستنبت فيها الخيال ، تجنح عن الصدق الصارخ الفج في الوقائع لتخلق من صنعة الخيال وإبداعه حقيقة مجازية وضارية الجمال كلما كانت أشد لفتًا للأنظار في إيجاد روابط لم تكن من قبل محسوسًا بها ، فتبدو حقيقة الإبداع أصدق وأكمل وأجمل ، إذ لا حقيقة سواها وقد جلّت عن ضيم خفي ، وعن علائق طالما دفنت ثم حرّرها المبدع ليبدو جمال الكون وكماله كما هو دون تزييف الاعتياد ودون صدأ الألفة !!
إن الآلية الذكية التي يعمل من خلالها الخيال تشبه _ أحيانًا _ الاستراتيجية الحربية الذكية التي تندفع فجأة في المكان فتحاصر وتقتنص ثم بحركة سريعة مباغتة تلتف على ما تريد ، وكذلك يلتف المجاز الجميل ، يداهمك في أكثر الأشياء ألفة ، ويطوقها بالدهشة في انتباهةٍ ذكية من الخيال لثغرةٍ ما لم تكن تلحظها عين الاعتياد ، فتبدو وكأنها مملكة آسرة مأسورة بتفرد الفارس والفراسة !!
وهو أسر يستحق التتويج ؛ فقلة من الناس من تملك الفراسة ، وقلة من الناس من تملك ذائقة التمييز ، حتى إن بعض الناس لا يملك أن يفرق بين الشعر والشعير !!
وقولي إنه أسر يستحق التتويج قد لايبدو منطقيًا في سياق الجو الحربي الذي أقحمت المجاز فيه ، أو على الأصح أقحمني الخطأ المطبعي فيه ، ولكن المجاز الموفق هو ذلك الذي يربط ويعيد لحم الوجود ؛ ففي الوقت الذي نعتقد فيه _أحيانًا _ أن الأشياء والموجودات ذات تناقضات أو ذات علاقات متباعدة أو منقطعة ومنبتة الصلة إلا أنها في الغالب _ أي الأشياء _ تواري العلائق والخيوط التي تربطها ، تلك الخيوط الخفية التي يراها الشاعر والمبدع فيرى التشابهات والتآلفات والعلاقات المنسجمة فيعيد لنا الربط ، ويقوم بالوشاية الجميلة عن تآلفها الخفي ، ويعري علائقها المستترة ، فيقص لنا قصة حب جميلة . وقديمًا عبّر عبد القاهر الجرجاني عن إعجابه بالشاعر المبدع الذي يعمد إلى التوفيق والتأليف بين المتباعدات ، وعدّ ذلك مكمن الحذق والبراعة حيث يقول في أسرار البلاغة : "إن الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع تستغني بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيه عن تعمّل وتأمّل في إيجاد ذلك لها وتثبيته ، وإنما الصنعة والحذق والنظر الذي يلطف ويدق في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة .." .
أوليست مقولة الجرجاني قريبة من جهة ما من مقولة ورؤية سارتر إذ يقول إننا نعقد الصلة بين الأشياء ، وإن العلاقات ماثلة ، ولكن بفضلنا نحن تتكشّف وحدة المنظر الطبيعي في الكون ، وهي رؤية تعتمد عند سارتر Sarter كما هي أيضًا عند ماياكوفسكي MaiaKovski وباسترناك Pasternak على أن المجاز عنصر موجود في العالم وليس نتيجة تفكيرٍ في العالم ، وعلى المبدع أن يشفّ ويرهف أدواته لالتقاطه واكتشاف علائق الأشياء الغائرة في الكون .