الصفحة الرئيسية
 /  
كتابة إبداعية خاصة بالدكتورة فاطمة الوهيبي عن الظل
 /  
رجوع

كتابة إبداعية خاصة بالدكتورة فاطمة الوهيبي عن الظل


أما زال يتقلب فيك إحساسٌ غامر بالحيرة والدهشة وشيءٌ آخرُ لا تدرين كنَهه تماما كلما قًّلبت الصور القديمة؟


هذا وجهك القديم إذًا؟!

أحقـًا أنت ومازلت أنت؟!

ومرآة الزجاج الآن ماذا تقول لك إذ تتحاور مع مرآة الصورة ومع مرآة لغتك الداخلية؟

ثلاث لغات يتحاورن إذًا وأنت تستمعين!!

هذا الوجه لطفلة السادسة أو السابعة يمكُنك أن تتعرفي عليه. أضيفي الآن بعض التعديلات الضرورية والخطوط الصغيرة. وخفّفي قليلاً من استدارته الطفلية الكاملة. أما النظرة التي ترينها.. النظرة الجريئة التي تتحدى العالم باتساع دهشتها فاكسريها قليلاً، وامزجيها بغمامة في العينين تطوف مثل طير يرفّ.. يرفّ من البياض للسواد بطيف حزن، ومن السواد للبياض بخفقة فرح منتظر.. غمامةٌ واحدة وطيران يخفقان: جناح حزن وجناح فرح وأمل!!

أما الشفتان فها أنت ترين السؤال المزموم المالَّ المنتظر يكاد يتفطّر صبرُه الطفوليّ من وقفة التصوير، ومن قيد التأطير. هاتان الشفتان مازالتا تنفطران بالأسئلة وبالقلق الوجوديّ الكبير بكل أشكاله.. مازالتا تواقتين للابتسام خارج قلق اللقطة وهاجس الوقفة!! مازالتا تتحديان المصّور نافرتين من سلطة التأطير!! نعم ! الابتسام كثير، ولكنه في غالبه في غفوة الحلم ينتظر بسحر الابتسامة غزالةً تسقي الماء للصغار، وساحرة تؤلم الصغير إذ تقول: ماتت أُمك_والأمُّ حضن وأمان_ فيبكي ليعود يضحك بعدها مباشرة وهو نائم إذ تُسرُّ إليه ثانيةً في قلبه: أن عادت إلى الحياة!! أظنني من هذه الناحية لم أكبر قط .. لم أتجاوز خبث ضحكة المهد، تلك التي تعُقبها مباشرة إجهاشة تعصر القلب.. يتقاطر حزُنها ورقتُها.. فتلٌّفها حرارةُ العقل الآن مثلما كان يلفّها في المهد دفءُ الحنان. ولكِ أن تدركي الفرق بين قسوة العقل الآن في مواجهة الحلم والإجهاش وبين ذلك الدفء.. بين أيادي الحرير تلك وبين أصابع وكفوف شجر العاقول هذا!!

أما هذه الوقفة الشامخة العنيدة فما تزال وقفتي. أما الثوب الجوبير والحرير والدانتيل ذو اللون الأحمر الصارخ فلم يكن اختياري. ومازال اللون الأحمر لونًا يثير قلقي ومتناقضاتي وتقاطعاتي مثل تداخلات وتقاطعات خيوط الحرير والدانتيل والجوبير المشغول منه فستاني!!

أما الظلال، انظري إلى الظلال!! كان ظلي لا يتجاوزني.. كانت الظلال تحت قدميّ، وكنتُ شمس ذاتي وكينونتي.. الآن كَبُرت.. وتبددت .. واتسعت ظلالي!!

لكن أأقولُ شيئـًا محزنـًا: الآن أحيانـًا يخيفني ظلي حينما يباغتني فجأة.. وحينما أنتبه إليه فجأة إلى جواري!!

أرأيت إلى تلك التي كانت تدوس ظّلها فلا يتجاوز موطئ قدميها وظلال فستانها الأحمر المخرم باتت تخاف الظل!! وظلَّ من ؟ ظَّلها!!!

                                                   

حوار الصورة:  ( 15 / 6 / 1415 هـ )

في كل المرات التي كنتُ أمتلئ فيها بالحبور والعنفوان كنتُ أنظر إلى صورتي الموضوعة بجوار السرير. أنظر إلى عيني الطفلة التي كنتُها، وأحسب أني كنت وفيّة لعينيها المليئتين بالحيوية والعنفوان.

كان الحوار ينشأ جميلا بيننا ( بين الطفلة في الصورة وبيني) في المسافة  الضيقة ، فيه إحساس بالصدق والعهد، وبأني لم أخن تلك القابعة في أعماقي، الممعنة في الصحو واليقظة وحب الحياة، قلما لفت انتباهي في السنوات الماضية شيء غير العنفوان والذات المتدفقة بالجمال والقوة الناطقة على الرغم من الإطار، وعلى الرغم من حصار الزجاج!!

لكنني دون أن أنتبه بدأ شيء ما يتسرب إلى حوارنا الصامت الداخلي.. بدأت عيناي تنكسر في حضرة عينيها هي.. تنكسر.. تنزل من العينين.. تكف عن النظر فيهما.. وصارت عيناي تلتفت بما يحيط بالصورة داخل الإطار.. تهرب من العينيين إلى قاع الصورة.. إلى الظلال!!

صرت ألاحظ أن عينيَّ تهربان من عينيها، وأن انكساراتي ربما كانت تبحث عن صنو.. عن مثيل.. عن لغة توافقُ تبددها وانهياراتها, لم يعد مناسبـًا لعينيّ الطافحتين بالماء أن تنظر إلى عينيها الفاتنتين اللتين لا تكفان عن البريق والتحدي والعنفوان. صرت ألاحظ كم تثبت وكم أتغير.. وصرت ألاحظ أنه _ في الفترة الأخيرة _ صارت ظلال الصورة تلفت نظري بقوة لا هربـًا منها هي بل مني.. صرت أنتبه للظلال أكثر كلما امتلأت نفسي بالأسى وسواد الندوب والألم.

منذ مدة أيضـًا لم أعد ألاحظ ظلال الصورة فحسب.. بل صرت مشغولة بفيضها الذي تعدّى ذيل الصورة وصار يملأ الأماكن حولي حيثما تحركتُُ.. وفي الوقت الذي كنت أبدو فيه في الظاهر لنفسي مشغولةّ بالظلال إذا بي أكتشف أنني كنت في الحقيقة أبحث عنها وسط هذا السواد؛ تلك التي ضاعت منيّ.. تلك الواقفة، والتي مازالت واقفة على مسافة أعوام بعيدة لكنني لم أخن عنفوان عينيها إلا منذ سنواتٍ ليست بعيدة.. أعذريني لم أعرف أني فعلت!!

                                                                                                                                                                                                                                     29\12\1417 هـ


 

                                                                                            سحابة الإنسان

 الذات والظل:

أتكلم هنا عن الظل والجسد بوصفهما محورين للحديث عن الظل والإنسان في قلب قضية فلسفية في الأساس ، فالظل يتحرك في جسد الميتافيزيقا .

الظل سحابة الإنسان الظل سواد يخرج من بياض ضوئي، الظل فحمي حول موقدي ولهبي، الظل حداد يمشي أمام كفني ، جنازة تتراقص تحف جثتي السائرة المحمولة على قدمين تسعيان نحو قبرهما معـًا : قبر الضوء وقبر الظل ، وحينما يقبر جسدي تطير سحابة الجسد يمامة الروح نحو ضوء ما منفلت لا أدريه.

لماذا تخافين الظل؟ ظلك؟

لست أدري إن كنت أخاف!! لكنه شعور مبهم ملتبس فيه هياج للخيال. ربما لأن الظل يبدو كشيء غامض كأنما هو آخر يستلّه الضوء منك، لكنكما ثلاثة: الضوء وأنت وهو (الظل). هذا الثالوث يشعرك أنك محاصرة ، وأنك بحضرة آخرين غامضين: الضوء من فوق ، أو من حول، والظل من يمين ، أو شمال ، أو أمام ، أو خلف ، أو في أي جهة !!

أنت هنا تبدين وكأنك مفصل الانكسار، فهل أنت الضوء أو الظل أم أنت كلاهما؟!

 هذا الثالوث الغامض ضروري لهذا الحضور المقلق لتناوب الليل والنهار وتدافع الصحو والنعاس والنوم ، هذا التناوب والحضور المقلق يشغلني ، يحيلني إليه ويحيله إليّ. يكفيني أن أكون بحضرة هذين الغامضين لأقلق ، وربما أخاف ، وأحس بالتوجس من شيء لا أدري كنهه تمامـًا !!

ربما أيضـًا أخاف لأن الظل يمثل لي مشهدًا للازدواج و الانشطار ، يمثل مشهدًا للتبدد و التشظي ، وذاك شيء يفاقم الإحساس بالتهديد والاغتراب والابتعاد عن التماهي والتوحد/ الحلم. تلك الطوباوية الرائعة التي تخشى روحي اضمحلالها. ولكني أيضًا أراه ، من جهة ثانية، يبدو وكأنه شهية التمازج الظل يبدو نشازًا وسط الضوء مثلما يبدو الضوء الفادح متألقـًا وسط الظلام. حضوره وسط عالم الضوء وحضور الضوء في عالم الظلام يبدو وكأنه حنين مدفوع ورغبة طافحة للتمرد والحضور والإصرار على التداخل وزحزحة هدوء اللون الواحد. إنه يبدو وكأنه كسر للاغتراب وكسر لوهم الخط الفاصل والحدود والتخوم المحروسة!!

ولكنه أيضا يحمل انكساره وانحداره ويلقي بوهم مخاوفه وهو يغادر عالم الضوء، إنه اضمحلال مؤكد. من يقين حزنه يتأسس الاغتراب ويتأنسن الموت يصبح مألوفـًا ومقبولاً كأمر فادح لا يرد!!

 

                                                                                                                                              * * * * *

الظل الستارة المتدلية حول نافذتي المضيئة ، إنه اندياحي , إنه ضفافي الأنانية التي تبرزُ حوافُها حدودي الصارمة القاطعة. أليس شكل الجسد والملامح هي من الصرامة والوضوح بحيث لا يمكن التفكير بأنها قد تتداخل وتضمحل ، وتميع و تميع لتصبح مجرد ظل حائم ، مجرد بقعة داكنة لا تملك وجهًا ولا ملامح ولا حدود جسد.

 هي (كاسبر) ، هي شبحي المتحرك ، ظلي المخترق المتجاوز . أليست مفارقة أن ظلي يخترق، وينسحب، ويحلق فوق الأشياء التي أمرُّ بجوارها في حين أن جسدي بماديته الباهظة المزهوة جدًا لا يمكنه أن يفعل ذلك ؟ هو لا يستطيع أن يفعل إلا حينما أتحرك أنا وأحركه معي ، لا يفعل إلا حينما يأتمر بحركة جسدي ، لكننا، هو و أنا، لا نزدوج هكذا، لا ننقسم على هذا النحو إلا بوجود مصدر ضوء في موقع محدد ومسافة معينة فوق أو إلى جوار جسدي. ترى أي ضوء يمكن أن ينبثق في دواخلنا فيجبرنا على حمل ظلالنا وعلى ازدواجنا الداخلي؟!

الظل آخر هو أنا ، هو إياي بعد أن يشطرني الضوء المسلط داخل نفسي أو المسكوب فوق جسدي.

الظل أثر لعنف الضوء أو صرامته أو لطفه. الظل أثر لهذه السطوة الضوئية التي تجعله يفر مني لكنه لا يبتعد كثيرًا عن حدودي.

الظل تمرد إذًا أم هروب ؟ كأنه متمرد إذ يخرج رافضـًا تلك السلطة، وهو هروب إلى منفى مجاور. الظل إذًا بهربه يشكل منفاه ، أو فلأقل: منفاي ! الظل بهروبه يندس بسواده وبزئبقيته من حرس الجسد والضوء ، الحرس الذي يدور ويلف حول نفسه ليلم البدد و التبعثر من أسوار الجسد وحدود الضوء. الظل بددي وتبعثري وعسسي الذي ينام في أمن حراسته.

 الظل سرابي يترقرق حولي.الظل حوض لمائي وكثافتي الجسدية ، ومثلما الحوض لا يحفظ إلى الحدود ، فهو حوض لتيهي ، لتيه معالمي وحدودي ، إنه ضبابي إنه سحابي المعتم. أين المعتم فيكِ؟ ليس شيء أكثر اعتامـًا من حدقة عيني ، إنها السواد المغروز في زجاجي ، إنها الظل في الزجاج الوحيد في الجسد البشري ، هي الظل المنكمش وسط بحيرة الضوء وبياض ضفاف العينين.

ترى منذ متى بقيت قطعتا الزجاج مغروسة فينا ، و فيهما حدقتا الظل خدشان للزئبق الخلفي في ستار المرآتين الساطعتين الجميلتين .


                                                                                            ستارة الزئبق 1

 

ما أصل المرايا ؟ زجاج شفيف ، زجاج طفل ، زجاج كبّروه.. دجّنوه، صبوا عليه سائل المعدن ، أسدلوا عليه ستارة الزئبق فصار مرايا![1]

ما المرايا صوت نسي لثغته الأولى فصار يحكينا كما يرانا الناس ، ويحكي الناس كما يرون أنفسهم ، ويحكي أنفسهم كما تقول الستائر ، تلك الستائر التي تقول ولا تقول ما وراء الستر ؟ المرايا طوية مراوغة وسر كاذب!! سراب مترقرق على وهم الحقيقة.

ما السراب؟ مرآة لصدق العطش ، (لاء) الرفض الممدودة لألاءً يتوقد بالكبرياء مثل كبرياء الموت . السراب مرايا الأرض . وما الأرض إلا صفحة من طين ، مرآة هي الأخرى مصبوغة بحناء البشرية !! ما هذه الصفحة البيضاء إلا مرآة يتوهم من يكتب فيها أنه يعكس سراب البشرية فإذا هي سراب يسرقنا إلى جنون الماء ، يدفعنا إليه مرة تلو مرة ظمأ لا يرتوي وجهل لا يكف!! ألسنا نرى في الصحراء السراب ، حيث تلهب الشمسُ الأرض ، يبدو كمرآة عريضة ملقاة على الأرض؟!

حين تلهبنا الأيام والأشياء والكائنات نبدو مثل الأرض تمامـًا ، نخُرج مرايانا حيث يبدو السراب مجرد احتجاج أو صرخة! أمن هنا تبدو الكتابة شيئـًا كالمرايا والسراب أو الصراخ : تسكب سائلها وزئبقها ، وتشهق بالكلام ، الذي كلما وصلنا إليه راوغتنا بعده مرآته الأخرى على بُعد وشيك!!

مرايا مخدوش سائلها الزئبقي بما تستبطنه الرؤيا ، لذا لا يمكنك أن ترى نفسك إلا مغبشة مشروخة الملامح ؛ فما دمت تصبين ستارة الزئبق من خلف زجاجك الشفيف ستتحول دائمـًا إلى مرايا كثيفة ، وما دامت زفرات الروح _ رغما عنك _ تخط دروبها في تلك الستارة ستكون مزيجًا من المرايا الكثيفة والزجاج المرهف البريء الشفيف . ستكون تلك الشروخ والخطوط مثلما هي خطوط إعتام ستكون خطوط بياض تترك مساحة حرة للرؤية والرؤيا ، للبوح والصمت الفصيح الفسيح !! فماذا تحبسين خلف تلك التخوم المجروحة المشروخة التي تحكي تاريخ السجن والإعتام ؟ وإيلام تسبحين في زئبق السجون ، في تلك اللغة التي تندفع كلها هكذا دفعة واحدة لتقولك أنت مُجْملةً بكليتك ، محفوفة بسياج اللغة التي لا تقول ولا تمنحك فرصة الثرثرة والتفصيل والتشكيل، ولا فرصة الانفلات خارج السياج.

ها أنت تكتبين تحاولين خدش المرايا علّها تقول ، ما هذه الفوضى؟ هاهي الخربشات والخدوش في زئبق مراياي ، في مياه ذاتي.. إنها تلك الطفلة التي أراها الآن محبوسة وراء الزجاج، الطفلة المتعبة كثيرًا ، الطفلة المحبوسة في غرف المرايا والزجاج تخدش الزئبق فأراها بوضوح فتتكاثف أبخرة احتراقها ورجع أنفاسها الحار فتُغبّش عليّ وعليها الرؤية فلا تتلاقى أعيننا !!!

كيف أراك إذًا أيتها الغائرة؟ واصلي التنفس حتى تنمو مخالب كبيرة يمكنها أن تكسر المرايا، يمكنها أن تخدش مساحة ضوء كافية لتزيح ما يكفي من ستارة الزئبق !! ساعدي نفسك لأساعدك. ترى أينا الآن هي أحوج للأخرى؟

 

هل الكتابة ظلنا ؟ هل الكتابة أشباح ذواتنا ؟ الحروف المتراصة على الورق ، هذا السواد المبثوث أمامنا أهو انعكاس فيضنا ؟ أهو صدى حديثنا الداخلي وضجيجنا الباطني ؟ الكتابة ليست انعكاسنا ، إنها قلقنا، ولذلك فالكتابة ظلنا ، لأنها تمردنا وفوراننا وكفرنا وتألهنا وصناعتنا وخلقنا وكوننا وهدمنا وبناؤنا. إنها روح الظل ، لأنها لعب كامل كلعب الظل ، اللعب بمفهوم الألوهية المطلقة والخلق المبدع الطفلي المجنون بحيازته لنفسه وبأنانيته وإثرته المفاجئة غير المبررة ، و إلا لماذا نخص الناس بما نلعب ، أقصد بما نكتب؟!


 

                                                                                                ستارة الزئبق 2

 

ليست ستارة الزئبق سوى مرآة ، والمرآة ليست سوى كتابة الذات ، المرآة ليست سوى الإنسان وظله ملتحمين ، الزئبق ظل الذات الشفافة!! وسواد الحبر مغلفـًا بياض الكتابة ؛ فبياض الورق قبل الحبر مثل الزجاج قبل أن تُسْكبُ من خلفه ستارة الزئبق ، ليصبح مرآة لها وظيفة التوحد والتضاعف أيضـًا ، وظيفة أن تريك نفسك و ذاتك ، على حين كان الزجاج الشفيف فيك له وظيفة جعلك مرئيًا للآخر وللعالم من حولك ، لكن سواد الحبر هو التضاعف المزيف ، التضاعف الواقف على مسافة يتمرأى في نفسه وقد انكسر فيه أو انكمش فيه العالم كله ، المرآة ليست مواجهة الذات للذات بقدر ماهي الوقفة والاستعداد لمواجهة الآخر والعالم.

التوحد والتضاعف:

ولم لا يكون التوحد حديث المرآة المشردة عن ذاتها ، حديث المرآة المخدوشة أو المجزوءة أو الممدودة عبر ممرات الروح ومراراتها ؟ ولم لا يكون التماهي والتوحد هو لغة الروح ؟ من الذي يقف معي أمام المرآة ؟ من ينشطر مني؟ ويتضاعف بي ويتماهى عبر المسافة الفاصلة ؟ هل الطفل ؟ هل الشعر ؟ أم لجاجات الذاكرة العتيقة ؟

أينا الواقف الآن أمامها ؟ الصورة أم رفيف روحها ؟ دال الذات أم مدلولها ؟ ليست المسافة إذًا ، هذه التي تشرخنا ثم تحاول شرحنا في المرآة ، سوى فيزياء الصوت و متيافيزيقاه !!

وبما أني أتحدث عن المرآة بوصفها لغة النفس أفكر: ألسنا نلاحظ براعة اللغة الكبرى المتماهية مع نفسها دون مرائي ، حيث تجد أن (سأل) و(سال) لهما اسم فاعل واحد ، فالسائل هو المتدفق والسائل هو المشاكس المتوقف أمام مرآة الوجود بالسؤال. السائل الذي يرى في الهوة الفاصلة بين الذات والموضوع، بين الذات والوجود ، بين الذات وتمفصلاتها وتمفصلات اللغة خدشـًا ، أقصد سؤالاً ، على اعتبار أن السؤال جرح واجتراح!!

السؤال هو بعض هذه المسافة بيننا وبيننا. بيننا وبين المرآة ، السؤال في تلك المسافة ، الضيقة أو الموسعة ، هو دهشة ممزوجة بالوجع لفداحة التعرف . السؤال مثل قسوة الفطام ، أولم يكن السؤال منذ البدء ، ومن هذه الوجهة، أول مآسي الخليقة منذ السقوط من الجنة؟، أول مآسي الطفولة إذ تبدأ بالانشراخ والانفصال عن زئبقية الراحة المائعة ، عن حليب الأم ، وحليب الذات ، وحليب التخيل والذاكرة؟؟ أليس السؤال وجع التعرف الأول على وجه من وجوه الذات الغائرة ووجوه الوجود المتناثرة والمتكاثرة في المرآة؟ ألسنا نلاحظ صعقة الطفل ودهشته حينما يقف لأول وهلة أمام المرآة. ترى كم ابتعدنا عن صعقتنا تلك من مرائي الذات ومرائي الكون ومرائي الآخرين ؟!

قالوا لنا إن الطفل لا يدرك إلا ما يراه ، فإن غاب عن عينه شيء فهو ليس موجودًا على الإطلاق. نحن نحمل جزءًا من هذا الوعي الطفولي معنا ، لا يتعدل كثيرًا ولا يُرمم وعيه على نحو أفضل!! إنه ذلك الجزء الذي يجعلنا نحس على نحو غريب ، كيف يمكن أن يرتبط الغياب بالفجيعة ، بفجيعة الاختفاء الكامل ، لكننا أيضًا حينما نكبر نعرف بوعينا الشقي كيف أن ( ما لم يُر) يظل هو الحلم الأكبر والوجود الأعظم ، يعرف الشاعر أن ما لم يكتبه بعد ، و ما لم يخرجه ويخدشه من زئبق المرايا بمخلب النهم والجوع ، وما لم يظهر بعد على سطح المرآة - هو الحلم الأبعد والأجمل والشغف الأقصى. وكذلك يعرف المتدين والمتصوف أن ما لم (يُر) قط هو الوجود الأعظم . ومن هنا كانت القصيدة دومـًا اختزالاً للمسافة التي لابد أن تفصل الواقف أمام المرآة ، وكانت الطاعة والصلوات غالباً هي الخطوات لتقريب المسافة بين الفيزيقا والميتافيزيقا. فالقصيدة والصلاة  ليستا سوى بعض الركعات المرتعشات في حضرة الرؤية والرؤيا ، مثلما كانت الطفولة الأولى تصرخ منتفضة أمام دهشة المرآة وصعقتها!!

الماء أول مرآة تمرأى فيها الإنسان ، ماء الجنين الذي كان يسبح فيه دون أن يرى نفسه فيه. كان يجب أن يخرج من الماء ليرى نفسه على مسافة فيه!!

والمرآة تعكسك على بعد منها ، وتعكس أيضـًا المسافة نفسها في المرآة. بما أن المرآة، بهذا المعنى ، هي ذواتنا المعكوسة أو وهمنا أنها كذلك ، فنحن نتحد ونتماهى بمائنا من جديد. أليست المرآة الأولى هي ماء الحياة الأول ؟ أليس الماء هو الذوات في حالها البدئية الأولى؟! وإذا كان للمرآة  وظيفة التضاعف والتناسخ مع وظيفة التوحد والتماهي فتلك حالة تربط عملية الوقوف أمام المرآة بعملية الخلق والمزيج من الرؤية والرؤيا والألق والولادة. في المسافة أمام المرآة مع الماء ثمة مسافة للفتنة والافتتان، ولعله من هنا جاء النهي النبوي "لا يتمرأى أحدكم في الماء" .

ماء القربة:

ثمة علاقة لا أدرك أبعادها تمامـًا بين الطفولة والماء، الطفل يولد من ماء ، ويسبح في الماء محمولاً في قربة أمه ، وحينما يترجل إلى العالم ينزل محفوفـًا أيضـًا بالماء !!  معظمنا، ونحن نعيش في مناطق قاسية جافة صحراوية ، يحب المطر. وهذا إلى حد كبير مفهوم ، وربما مبرر ، لكن أن أربط بين الطفولة والماء فذاك ما بدا لصديقتي غير مفهوم ، فما علاقة الفرح بالماء بالطفولة ، شرحت لها أنه ربما يرتبط ذلك عندي بالمكان فربما كان لنشأتي في الطائف ، تلك التي لا يهجرها المطر ، أثر في هذا الربط . لكن ما كنت أدركه عقليـًا وعاطفيـًا أيضـًا أن هذا المبرر غير مقنع . إن في المسألة ما هو أعمق ، ولم أكن لأتبين أبعاد العلاقة بين الماء والطفولة . ومرّ على خاطري وفي إحساسي ما جعلني أرتعش خوفـًا ، فقد مر بخاطري لوهلة أنني أتذكر الماء الأول حين كنت ألعب في قربة أمي، وليس في قربها!!

 تخيل أنك يمكن أن تتذكر الماء الذي كنت تسبح فيه قبل أن تترجل من رحم أمك؟ من هاجس كهذا ارتعبت ! فكرة كهذه كانت كافية لاستنزاف شغفي بمجاهيل لا أعرفها وإنما أحسها إحساسـًا غامضـًا لذيذًا . كانت كافية لتحرض مزيدًا من الشغف والقلق المعقد حول هذه العلاقة الغائمة بين الماء والمرآة والطفولة والمياه القديمة و الأنا الجنينية الأولى العتيقة. كنت أشعر، وأنا أتحسس كالعميان ذلك الشعور المبهم الغريب المريح ، أنني أجول في ملكوت الشعر!! لغة نقية ليست كأية لغة ونغم لا يسمع ، و حفيف بل هفهفة روح قصية ندية أرق من نبض ضعيف... يا للهول ما الذي أحسه وأسمعه وأراه ؟؟ هل أنا على مقربة من هواء مغادر للتو وقد لامس قبل قليل النفخة الأولى التي لامست كينونة الجنين أو ربما حتى ما قبله : كينونة الماء ؟ أكنتُ في اللحظة البرزخية أم كنت في التكوين ؟

 

 


[1] - إشارة إلى طريقة صناعة المرايا يصب سائل الزئبق أو مادة القصدير من وراء الزجاج الشفيف حتى تعمل الطبقة العاكسة للصورة.