كتاب الظل للدكتورة فاطمة الوهيبي
من بنية التضاعف إلى فعل الاختلاف
د. محي الدين محسب
في مقدمة كتاب الظل تقول الدكتورة فاطمة الوهيبي العبارة التالية:
"لذلك وضعتُ من بين أهم الأهداف مهمة الإضاءة هنا وهناك عبر الحقول المعرفية المختلفة في حركة إضاءة سريعة وكاشفة لتجلية المفهوم وحركته وتطوره ولمتابعة التنوع الذي لحقه" (ص8)
في هذه العبارة ثمة تطابقات دالة ومدهشة، وتقاطعات مثيرة ومحفزة. ثمة تطابق وظيفي بين الذات الكاتبة والنماذج الكونية والاصطناعية (الشمس والنار والقمر والمصباح) التي يشكل صدور النور والضوء[1] ماهيتها، والتي بضوئها ينكشف المكان ويتجلى ما فيه. وهذه النماذج–في علاقتها بالظل- تحمل ازدواجًا أنطولوجياً استحوذ على اجتهادات التفسير البشري الممتد من الأسطورة والسحر إلى الفلسفة والعلم. ويتمثل هذا الازدواج – أو لنقلك هذا الطابع التوتري-في تلك العلاقة الوجودية الجدلية بين مصادر الضوء والظل. فتلك المصادر تمتلك عِلِّيّة إيجاد الظل وعلّية محوه في آن؛ أي علّية التكثيف والتشتيت، أو الحضور والغياب. فالضوء شرط قبلي لتحقق الظل، والضوء أيضاً فاعل اللعب بالظل وإزاحته ومحوه.
هذا التطابق بين الذات الكاتبة وتلك النماذج يأتي إلينا عن طريق الكتابة. فالكتابة/ الكتاب تمثيلٌ لطاقة الضوء الكاشف للظل. ولأن الأساس الأنطولوجي قائم على الازدواج كما أشرت فنحن إذن أمام كتابة توجد الظل وتمحوه في الآن نفسه. الكتاب كله وجود نصي للظل، والكتاب كله تعرية لظلال النصوص؛ أي محو متصاعد من حقل إلى حقل. الشمس والنار العارفتان هنا –وفاطمة الوهيبي تجسيدهما الحيوي في هذا الكتاب- تتحركان في حركة إضاءة سريعة وكاشفة لتطارد الظل؛ الظل ذلك الألعبان الهرمسيّ الذي ما ينفك يمعن في حركته وتطوره وتنوعه. وهنا يكتسب مجاز "الامتدادات" المضافة إلى ضمير الظل في عنوان الكتاب مغزاه العميق. إننا إزاء كتابة/ قراءة لنص ظلت تصنع امتداداتِه طوال التاريخ البشري نصوصٌ من الأساطير والتأويلات المعرفية والتأملات الإبداعية. لقد تجسد الظل سردية نصية كبرى كلما حاولت تأويلاتها كشفَها وتجليتَها أمعنتْ في تكثيف ظليتها! وكأن الظل بهذا الطابع نموذج بامتياز لتجسيد فكرة امتدادات النص في فكر مابعد الحداثة. ومن ثم فإن فاطمة الوهيبي في هذا الكتاب لم تسلط ضوءها الشمسي أو الناري على حيز نصي محدد، وإنما كانت تطارد شيئاً أشبه ما يكون بـ"الجماعة التفسيرية" interpretive community، ولكنها في حالتنا تلك جماعة امتدت هي الأخرى عبر أزمنة ومجالات وحقول بالغة التنوع والتغاير.
لقد أدركت فاطمة الوهيبي أن عليها قراءة سردية الظل بوصفها سردية التضاعف بامتياز: تضاعف التكاثر في العلة والمعنى، وتضاعف المحو الذي قد يكون أكثر إغواء في البحث عن مغزى. هذا التضاعف فرض نهج الانتقالات؛ انتقالات الكتاب من موضع إلى موضع. ومن الشائق أن هذه الانتقالات الإضائية تكاد تتبنى مقولة جاك فونتاني في (سيمياء المرئي): "إن أي ضوء ثابت يمنعنا من المعرفة"[ص79]. وإذا كان فونتاني قد خلص من قراءته لشعرية إيلوار إلى أن ما تبحث عنه الذات هو "عدم استقرار الظل والضوء" [ص79]، فإن هذا القول نفسه ينطبق على كتاب فاطمة الوهيبي: إنه بحث عن خلخلة لاستقرار إبستمولوجي وثقافي طالما تصور إمكان الفصل بين الضوء والظل مانحاً القطب الأول كل القيم الإعلائية المتعالية، وقاطعاً الطريق دائماً على ما تسميه ليندا شيفرد "المعرفة المتصلة"[65]. وهنا يتبدى لنا جانب من جوانب الغايات الضمنية المضمرة وراء استهداف فاطمة الوهيبي الكتابة عن الظل. وهذا الجانب ذو صلة وثيقة بتشكيلة منظور نسوي له سماته النوعية في خطاب الكاتبة. فالربط بين المرأة والظل؛ أي خطاب التهميش والإقصاء، خطاب ماثل وممتد في عديد من الأطر الأسطورية إلى خطابات إبستمولوجية في الفلسفة والعلم. ولقد تواتر في كتاب الظل حديث وإشارات إلى ذلك الربط في أكثر من موضع. ومن ثم يمكن القول إن المنظور النسوي هنا هو الكشف عن تلك المنطقة المعتمة - منطقة الظل- التي ألقيت فيها المرأة أحقاباً ممتدة وخطابات متوالية. وهكذا يؤول الكتاب - في أحد مقاصده- إلى أن يكون علامة على قراءة تنظر إلى الظل بوصفه دينامية ثقافية لها علاقة وثيقة بالموقف من المرأة. إنه نوع من الانتصاف المعرفي للقطب المهمش من المعادلة التي جعلت الرجل يستقطب النار والمصباح في نموذجي بروميثيوس وديوجين. ولعلنا نتذكر هنا كيف أن هذه المعادلة جعلت المرأة (باندورا في أسطورة بروميثيوس التي خُلِقت من الأرض)، والتي أطلقت الشرور والأمراض في عالم البشر انتقاماً من هذا الذي سرق النار وأعطاها للإنسان). لقد اختارت الكاتبة تفكيك خطاب الظل لتعرف العالم أكثر، ولتتعرف على ذاتها الثقافية أكثر.
ولا شك أن تلك المعرفة ، وهذا التعرف اللذين يشتغلان من خلال الاشتغال بالظل إنما هما تكريس رؤية للعالم لا نستطيع عزلها عن سياق لحظة إبستمولوجية تشهدها الفلسفة المعاصرة في محاولتها رصد فعل الاختلاف ؛ وتبئير المختلف ، أي لرصد "ما هو متصدع ، وما هو منشق، وما هو متعدد". وإذا كانت هذه اللحظة الفلسفية قد وجدت في مقولة (اللعب) تمثيلاً دالاً لفعل الاختلاف، فإن فاطمة الوهيبي وجدت هذا التمثيل الدال في مقولة (الظل). وأتصور هنا أن ثمة امتيازاً لاختيار الظل ؛ وذلك من جهة توفر الطابع الإشكالي فيه بصورة أشد كثافة إذا ما قارناه بالطابع الإشكالي للعب. فالظل يجسد الفعل الاختلافي على متصل يمتد من ظاهريته الفيزيائية، وشراكته الأنطولوجية للموجودات ، إلى آثاره الإدراكية والنفسية ، وتمثلاته العقلية ، وتأويلاته المعرفية ، وترميزاته الإبداعية.. وإذا عرفنا من الدراسات الفيزيائية أن هوية الظل دائماً هوية لحظية ، وأن ما ندركه على أنه حركة مستمرة للظل نفسه إنما هو إدراك زائف[2]، فإن الطابع الإشكالي للظل يبدو أكثر وضوحاً.
إذن لقد رصدت فاطمة الوهيبي كتابها لأكثر المقولات غوصاً في الطابع الإشكالي حيث إن القارئ يصل بعد وصوله إلى المحطة الأخيرة من رحلة التقاطعات والتعارضات مع كتابها إلى نتيجة مؤداها أن الظل لم يعد ظلاً ! إنه لم يعد يمثل أو يحيل إلى نموذج خارجه. تقول الوهيبي: "يكف الظل عن أن يكون محايداً أو تابعاً، وتنقلب المقاييس الفيزيائية لنرى الظل مهيمناً وديناميكياً محركاً لا مجرد تابع"[ص300]. ولعل هذه النتيجة تضعنا على حافة الاحتكاك مع مفهوم متصل بمفهوم الظل وهو مفهوم (السيميولاكروم) لدى فلاسفة الاختلاف. فالسيميولاكروم الذي اختصته الوهيبي بحديث استغرق اثنتي عشرة صفحة لم يعد نسخة النسخة، وإنما أصبح نسخة مستقلة بدون أصل تحيل إليه. لقد استطاعت فاطمة الوهيبي أن تضاعف المعادلة الراسخة القائلة بأن (الظل هو ظل النور) بمعادلة أخرى مؤداها أن (الظل هو نور الظل). ولقد انبثق هذا التحويل مبكراً ومنذ بداية الكتاب حين راودت الكاتبة جملة من السرديات العربية التي يظهر لنا من خلالها مقولتان يؤدي الربط المنطقي بينهما إلى إمكان صوغ هذا النتاج التحويلي في المعادلة المذكورة على النحو التالي:::
(الروح هي ظل الإنسان)،
و(الروح جوهر مشرق)
إذن ظل الإنسان جوهر مشرق .
وعندما نربط ذلك بالمقولة الشائعة الأخرى التي ترى أن الروح التي وصِفت بأنها نور تلقي بظلها على وجه صاحبها، ومن ثم فالوجه مرآة يظهر فيها ظل الروح، فإننا نكون أيضاً أمام فكرة أن للنور ظلاً ! ويتعزز ارتباط الظل بالنور - لا باعتبار النور علة للظل، وإنما باعتباره ماهية له- بتلك الفكرة التي تعادل بين الظل والروح والمرآة : فأن يفقد الإنسان ظله معناه أن يفقد روحه. وهي الموتيفة التي تطورت إلى رمزية فقد الهوية. أما (المرآة) فقد اعتُبِرت انعكاساً للروح، وللصدق المطلق، ولمعرفة الإنسان الداخلية بنفسه، والمظهر المشرق الواضح للصدق الإلهي، واعتبر المسيحيون المرآة الصقيلة صورة لمريم العذراء[3]. وكل هذه الرموز تجعل المرآة - وهي أحد ارتباطات الظل كما وضحت الوهيبي- منتمية إلى فكرة الجوهر المشرق.
ومحصلة ذلك كله أن الظل نور. ولعل في ذلك ما يفسر منابع بعض عبارات تلك الوسيلة البلاغية الشهيرة المسماة بـ (المقابلة العكسية) ومنها مثلاً عبارات لكتاب وشعراء أوردتها فاطمة الوهيبي:: "الظلمات المضيئة"[217] و(الظل الذي يضيئنا)[218] و(النور المتلألئ ظل لنور آخر)[227].....ومن الشائق أن مثل هذه العبارات تجسد بامتياز مفهوم (السيميولاكروم). إنها ترسم بالكتابة نسخة لا أصل لها، وصورة بلا نموذج تحاكيه، وكأنها تكرس الدلالة الاشتقاقية الأصلية لكلمة (فوتوغرافيا) التي كانت تعني "الكتابة أو الرسم بالضوء)![4] إنها الكتابة وقد انتقلت من النظر إليها بوصفها ظلاً ونسخة تحاول المحاكاة إلى كونها ضوءاً لا يحاكي إلا ذاته. ولنا هنا أن نقول إن كتاب الظل للدكتورة فاطمة الوهيبي كان بالفعل كتابة بالضوء الكاشف لتلك الجغرافيا المعرفية التي ظلت تتضاعف من عصر إلى عصر، ومن حقل إلى حقل، حتى غدت قارة للأساطير وللامتدادات المعرفية والإبداعية !
[1] في: المثل السائر لابن الأثير: "الضوء فيه الدلالة على النور وزيادة...لأن الإضاءة هي فرط الإنارة، قال تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً) فكل ضوء نور، وليس كل نور ضوءاً"
[2] انظر: Casati, Roberto: "The Structure of Shadow" in: A. Frank, J. Raper, and J. P. Cheylan: Time and Motion of Socio- Economic Units. London: Taylor and Francis, 2000, 99- 109
[3] انظر: mirror في: Dictionary of Symbolism .Originally Constructed by Allison Protas. Augmented and refined by Geoff Brown and Jamie Smith in 1997 and by Eric Jaffe in 2001 في الموقع التالي:
www.umich.edu/~umfandsf/symbolismproject/symbolism.html
[4] انظر: مقابلة مع فيكتور ستويشتا V. Stoichita صاحب كتاب (تاريخ وجيز للظل A Short History of the Shadow (Reaktion, 1997) في:
www.cabinetmagazine.org/issues/24/stoichita.php