الصفحة الرئيسية
 /  
احتشامات الوأد 1
 /  
رجوع

احتشامات الوأد 1


لم أعن حينما قلت في المقالة السابقة إن الجميلة النائمة انقذت نفسها بقبلة الكلمات والجمال من داخلها معنى اكتفاء المرأة بذاتها واستقلالها الكامل انسانيًا عن الرجل، فهذا وضع غير سوي على الاطلاق. فالعالم مثلما هو جميل بالنساء هو جميل بالرجال ولا أعتقد أن أيا منهما يمكنه ان يعيش حياة مكتملة جميلة سوية بدون الآخر. ولكن أية امرأة وأي رجل؟؟؟ هذا هو السؤال الكبير الذي لا يستطيع المرء التحكم بفرادة و جمال تحققه على ارض الواقع. وإجمالاً هذا التوزيع الجمالي لا دوار الحياة وتكاملها الإنساني والنوعي توزيع إلهي رائع، وأي تدخل بشري على هذا التوزيع وضرورة التكامل فيه ليس سوى تدخل بشري مخرب، أو نوع من التمرد البشري الذي يدفع الإنسان وحده ثمنه الباهظ في حال الأنفة من القبول بغير تحقق جميل وتكامل فريد مميز!!

 

إذًا حينما قلت إن بعضهن أنقذت نفسها بقبلة الكلمات من داخلها لم يكن المقصود بقبلة الإشارة إلى المستوى الانساني الاجتماعي، وإنما كان الكلام ينصب على مستوى الهم المعرفي والإبداع خاصة، حيث المهمة التي يجب أن تنهض بها المرأة تجاه استبطان حالاتها الشعورية في الإبداع والفكر والكتابة، انطلاقًا من كيانها الأنثوي كما تحسه وتلمسه في الوجود؛ فالمرأة عاشت ومازالت تعيش على مستويات مختلفة من الحدة حالة (صمم) لصوتها الداخلي للغة كينونتها المتموجة الصاخبة داخلها. وقد كنت أشرت إلى هذا في أول مقالة لي في هذه الزاوية في العام الماضي وما تلاها من مقالات تعليقًا على نص لي بعنوان "تمتمات غرزة الصولجان" يصف هذه التجربة بكل الآمها وحروق و شومها و خيبات لعثماتها!!

ولو سلمنا بمصطلحات يونج الذي أطلق الانيما anima على العنصر المؤنث و الانيموس animus على العنصر المذكر في النفس الإنسانية سواء كانت رجلاً أو امرأة؛ حيث الانيما و الانيموس يمثلان الشخصية الباطنة اللاشعورية، وهي المكملة للشخصية الخارجية، وحيث صيغة المذكر ( الانيموس) تعني مبدأ التفكير والجانب العقلاني، وتعني الانيما مبدأ الحياة ومقر الوجدانات، فهل على المرأة أن تصغي لأنيماها أم لانيموسها في حال الإبداع، و الابداع أميل إلى مبدأ الحياة والوجدانيات في مقابل الانيموس العنصر العقلاني؟

واستحضر الآن نصًا لفوكوفي " الكلمات و الاشياء " فيه تقاطع و تماس لامع مصطلحات يونج و الشخصية الباطنية اللاشعورية فقط و انما في التحام هذه الشخصية مع اللغة و أشياء الكون. وقبل أن اتوقف عند مصطلحه العقل المنفعل وهو الجزء المؤنث، والعقل الفعال الذي هو المبدأ المذكر في اللغة، أجد عبارة أخرى تلح علي الآن، عبارة جاءت في العقد الفريد لابن عبد ربه، تلح علي هي الأخرى في هذا السياق، و العبارة تقول:" غريزة العقل أنثى، وما يستفاد من العلم ذكر، ولن يصلحا إلا معًا " وهي عبارة تستحق وقفة خاصة لمحاورتها وتفكيك دلالاتها، لكني الآن أردت فقط من باب المعارضة و الإضاءة أن أجعلها تتوسط بين كلام يونج و نص فوكو التالي. يقول فوكو في معرض انشغاله بالتنقيب حول أسبقية المكتوب على المنطوق: " كان كل من فيجانير ودوريه يقولان – و بمفردات شبه متطابقة – بأن المكتوب قد سبق المنطوق دومًا، في الطبيعة على وجه اليقين، وربما أيضًا في معرفة البشر، ذلك لأنه ربما كانت هناك قبل بابل، وقبل الطوفان، كتابة مؤلفة من علامات الطبيعة نفسها، حتى أنه ربما كان لهذه الأحرف قدرة التأثير مباشرة على الأشياء، على جذبها ودفعها وتمثيل خواصها، وفضائلها وأسرارها. كتابة طبيعية بشكل بدائي ربما احتفظت بعض المعارف الباطنية، وفي المقام الأول القبلانية اليهودية، بذكراها المبعثرة وحاولت استعادة قدراتها النائمة منذ زمن طويل، إن المذهب الباطني في القرن السادس عشر هو ظاهرة كتابة لا ظاهرة كلمة. وعلى كل حال، فإن هذه الأخيرة انتزعت منها كل قدراتها، وهي كما يقول فيجانير و دوريه ليست سوى الجزء المؤنث من اللغة شأن العقل المنفعل، اما الكتابة فهي العقل الفعال، و المبدأ المذكر للغة، وهي وحدها التي تملك الحقيقة" الكلمات و الأشياء ص 55.

و بغض النظر عن الجدل حول هذه المسألة البطريركية فإن السؤال على هذا المستوى من الحديث عن الادب و الإبداع هو: هل القضية تنحصر في هاجس الاستعلاء والتجاوز أم في امتلاك الحقيقة – إن كان ثمة حقيقة مطلقة وإن كان ثمة إمكانية لامتلاكها أو حتى التأريخ لها، أو حتى قضاء العمر في حرب استنزاف ضد البطريركية و الذكورة من موقع أنثوي؟ اعتقد أن مجرد وجود هذا الهاجس هاجس التجاوز والكسر، فضلاً عن الانخراط في الوجوه المختلفة المموهة للحرب الشرسة، أعتقد أن كل ذلك عنصر مناهض للتأمل الحقيقي، عنصر مشوش أصلاً على فرص الاستماع الحقيقية و النادرة التي تتاح للمرأة أن تستمع فيها إلى ذاتها و كينونتها. إن ضجيج الأصل و الفرع و احتدام حرب الكسر و التجاوز للنمطية و الصوت الذكوري يغطيان على الضجيج الفوّار في الكائن المهمل في الداخل، يشوشان على تلك الهفهفة الخفية التي تحتاج لقراءة أبجديتها. فأين لغة المرأة من المرأة المندسة في أغوار تكوينها الأنثوي، اينها تلك المرأة و أينها تلك اللغة الفذّة الاولى، أينها تلك الأبجدية التي طمستها كتابة العقل الفعال؟ كم من المسافات الشاسعة قطعتها مع اللغة مع احتشامات لا معنى لها أو مع عمامات غريبة، حتى بدت الاحتشامات كالعري الفاضح من الذات!!

ملاحظة: كنت قد شطرت للقارئ في المقالة الماضية نصف تفاحة أعطبها الصاف – فيما أعطب – قبل ان تصل إليه – وها أناذي أصر على نصف تفاحتي بلا عطب وآمل ألا يحدث شيء في الطريق هذه المرة يؤدي إلى الصاق أعراض انفلونزا بنصي:

"كأني ألمح في حدقتي شفتيكِ/ سؤالاً صام عن الكلام/ و تيبست عروقه من العطش/ حتى اذا همّت حدقة تستجير/ طفر من بينهما كالنعش".