الصفحة الرئيسية
 /  
احتشامات الوأد 2
 /  
رجوع

احتشامات الوأد 2


فأين هي تلك المرأة؟ وأين هي تلك اللغة الفذة الاولى؟ وأين هي تلك الأبجدية التي طمستها كتابة العقل الفعال؟ كم من المسافات الشاسعة قطعتها مع اللغة مع احتشامات لا معنى لها حتى بدت الاحتشامات كالعري الفاضح من الذات. وما علاقة قولها اذا قالت بهمّ العري الداخلي والغواية وتهـمة التمرد على الوسم؟

 

وصحيح ان العلاقة بين اللغة والعري والغواية لا تتعلق بها وحدها، وقد كنت تناولت في هذه الزاوية منذ عام مفصل العلاقة بين اللغة والعري واللبـاس والتباسـات قضية الخطاب اجمالاً بمسألة المعرفة وادعاءاتها، ولكن مفصل اللغة والعري واللباس شديد العلاقة والالتباس بالمرأة بصورة خاصة وبلغتها، أليس حديث الملابس و الحجب اعلق بها و أكثر التصاقًا حتى في مستواه المجازي؟ ولذا فحديث لغتها و الحديث عن لغتها يتحرك ضرورة – ضمن ما يتحرك – في افق الكشف والانكشاف و مساءلات سبر الكون و الاشياء و مزاعم الكشط عن البصمات والصوت المتفرد و العودة إلى الاشياء في حال بداهتها و طزاجتها وطبيعتها الاولى قبل المرور بأنواع التدجين، وأعني به هنا خصوصًا و الحديث يتعلق بالمرأة، باعتبارها نتاج صناعة ثقافية معينة، ويكون تشكلها و تشكيلتها نتاج سلطويات متنوعة، ولاسيما تلك السلطة التي تمثل واحدة من أسوأ أنواع التدجين والطمس، تلك التي سعت لمسح الفوارق و استعارة الصوت الاجش لإبداع المرأة، ويلاحظ اصلاً ان الدجن في جذوره يحمل معنى الظلمة التي تتضمن التغطية و الستر و الاخفاء!!!

وقد تناولتْ كونَ المرأة نتاج صناعة ثقافية واجتماعية و تاريخية معينة عددٌ من الكتب و البحوث في سياقها الغربي. و اهتمت بدراسة موقع المرأة من المركز و الهامش و مساءلة موقعها في الثقافة واللغة وتحركها ضمن أو خارج أو ضد العضلات البطريركية، وفي سياقنا العربي يجيء كتاب الدكتور عبدالله الغذامي ( المرأة و اللغة) متميزًا.. هذا الكتاب الذي يأتي تميزه من حفره في ثقافتنا محاولاً محاولة مهمة وخطيرة – ولكن شيقة- ان تسفر انفاس المرأة من تحت تراب عظيم راكمه تاريخ طويل، وراكمـته ايادٍ متنوعة.

ولكن من المهم التأكيد على ان يد المرأة أيضًا لم تكن مكفوفة، بل أهالت و ضاعفت التراب وساهمت في صنع تابوتها من عمود اللغة. و هي الجثة التي فاجأتني – ذات نص – مواجهة لعثماتها، الجثة التي ارهقتني محاولات انتشالها دون الشعور بذنب اهالة الترب عليها أو رفعها بنصر مزيف يزعم محو وشوم ( الهو) وأنا أحاول اسنادها كما هي على سطور ( التمتمات..)، انها وقفة أشبه بالدوار و الهذيان أمام ابجدية جبارة عملاقة فوارة!! دوار لا يمكنه ان يتدارك بوادر الغيبوبة، غيبوبة الألم و مخاوف غياب الذات، حيث اللحظة التي ينتهي فيها النص تسقط الذات مع القلم في كامل الغيبوبة: هوة الوأد و بطش الـلاهوت الكتابي و الاجتماعي و الثقافي....

فهل يمكن ألا تحدث هذه الغيبوبة؟ وكيف يمكن ألا يحدث الأسوأ: تيهُ تصديق تحقق الكشط عن البصمة و اختراع الغرزة؟ كيف يمكن ان تنجح المرأة في الاستماع، وسط أنواع ضجيج التدجين، لتلك الهفهفة الخفية كما هي في حالها القبلي قبل تراكمات القشور و التلافيف والطيات و أنواع الحرير، حرير التدجين الناعم الخفي السري الذي يراوغ و لا يكاد يُحس.

ان الاستماع لتلك اللغة الداخلية الخفية الخاصة و تأملها هي إحدى مسؤوليات المرأة ازاء نفسها وإبداعها الحياتي و الفني بعيدًا عن التحرر مما يسمى بالنمط الذكوري و بعيـدًا عن لجاجات المساواة والثورات،  فتحرير هذه اللغة الحميمة الخفية هو التحرير الأهم و الثورة الأهم، وإيجاد البصمة الخاصة، و الغرزة الخاصة بأنامل كل امرأة باعتبارها نسيج وحدها أمر صعب و نادر، و لكنه مطلب انساني ملح، على اعتبار ان اللغة بعامة ليست ذكورية ولا انثوية لكن الالتحام بالكون و باللغة كمفصل مهم من مفاصل اتصال الذات بالكون و بالآخرين هو بالضرورة يعكس، بل يجب ان يعكس – تمايزنا وطبائعنا المختلفة والمتناقضة و المتكاملة أيضًا. و مع ان اللغة ليست ذكورية ولا انثوية الا اني احسب ان في طبيعة المرأة شيئًا مشابهًا لطبيعة الشعرية. شيء يتعلق بالعذوبة والتبخر و الذوبان مثلما يتعلق أيضًا بالحضور الملح و الهيمنة والفتنة غير المفسرة، مزيج من الفيزيقا و الميتافيزيقا... وإذا اضفنا إلى ذلك ان من أبرز خصائص الشعرية انها تغرف من محيط العاطفة وان الشعر من الشعور و اذا خفتت العاطفة أو بردت وخفت توهجها فقد الادب والشعر خاصة اهم خصائصه و علائم شعريته، اذا تأملنا هذا وتأملنا ان سمة العاطفة الجياشة الحارة المتدفقة والحنان الغامر هي من سمات الانوثة بالدرجة الاولى بدا الشعر كائنًا انثويًا.. نعم أكاد أزعم ان الشعرية كائن انثوي في الاصل، والشعر أنثى سواء أكتبه رجل أم كتبته امرأة، وكلما ازداد جيشانه وقدرة مجازاته وأخيلته على التوالد والتماس بخصوبته مع الوجود واللغة و الاشياء بدا انثويًا أكثر ورائعًا أكثر!!