الشعرية/ الأنثى الأم:
توقفت في المقالة السابقة عند مغوية وإشكالية، فقد قلت: إني أحسب أن في طبيعة المرأة شيئًا مشابهًا لطبيعة الشعرية، وإن الشعرية كائن أنثوي، وإنه كلما ازداد جيشان النص وقدرة مجازاته وأخيلته على التوالد والتماس بخصوبة مع الوجود واللغة و أشياء الكون الداخلي والخارجي بدا أنثويًا أكثر و رائعًا أكثر!!
إذًا كأنما الشعرية أنثى وبخاصة في حالة قدرة المجازات والصور ومجمل تقنية النص على التوالد و انتاج المعنى واستحضار المغيب من الجمال ومكامن الدهشات، وكأن الشعرية أنثى في حالة أمومة.
وإذا كانت ملكة الإبداع أيضًا – كما اسلفت في مقالة سابقة – تتكئ على (الانيما) ذلك الجانب الأنثوي من الشخصية الباطنية للإنسان، فلعل في كل هذا ما يفسر أقوال كثير من الشعراء – بوعي أو بدون وعي – حينما يصفون حالات ابداعهم ومراحل نمو القصيدة في ذواتهم قبل أن تتخلق وتولد كاملة بتعبيرهم عن حالة من حالات الاحتواء و الجنينية الأنثوية الأمومية. فهل لهذا المعنى البعيد المراوغ العتيق للحالة الجنينية مع اللغة أنثنا كلمة (لغة) وقلنا مرارًا وتداولنا القول كثيرًا، قولنا: اللغة الأم؟
وليست الشعرية الأنثى الأم فقط ولكنها الحب المطلق، ولذا فالشعرية حالة حب مطلق مع الكون في الأساس. فهل نتخيل أمومة بلا حب ؟ انها حالة حب مطلق مع الكون والأشياء، حالة انسجام وارتباط حميم بدئي وأبدي، ويعود بالروح وبالأحياء والأشياء إلى حالة الخلق الأولى، حالة أمومة وسكن جميل، ولعل في هذا ما يفسر حالة الهدوء والسلام التي تغمر روح الشاعر وروح القارئ بعد دفقة شعر حقيقي، حتى لو كانت الدفقة تعبر عن ألم أو قلق أو مرارة.
وأقول انها حالة حب وأمومة في الأصل حتى في حالة القارئ المتلقي، فنحن حينما يأخذنا النص إلى عالم ننغمر في البدء في الخلق الأول، في الخيال الخلاق والصور وروابط الدهشات التي تنداح رويدًا رويدًا عن حبلها السري الذي نظمها به الشاعر ومده تجاه الكون والكائنات ليمنحنا روابط أخوة جديدة وعلائق قربي تجعلنا نشترك معه في متع وآلام عملية الخلق. ولرولان بارت كتاب مهم في سياق متعة القارئ، كتابه المسمى (لذة النص) وسأقف في مقالة لاحقة عنده لأوضح كيف هو اشكالي ومستفز، وكيف وئدت المرأة فيه_ كقارئة – في صلب النظرية النقدية الحديثة أيضًا من موقع ذكوري بطريركي.
العلة الأنثوية:
يسمى العرب القدماء الحروف الصوائت الثلاثة ( الألف والواو والياء) حروف العلة أو حروف اللين أو حروف المد.
ولست أدري لماذا سموها بحروف العلة من الزاوية التي تهمني معرفيًا، إلا إذا كانت العلة من علة الوجود ومنطقه، ومنطق حروف العلة الحركة. فحروف العلة حركة للسواكن. ساكن الوجود وساكن الكلمة!! وما دام منطقها تحريك السكون فهي إذًا مبدأ حيوي ورحم الحياة. أمن هنا يا ترى هي أنثوية ؟! فهل تتحرك الكلمات وتمضي مموسقة في النص بدونها؟ : صحيح أن التناوب بين متضادين (الحركة والسكون) يقتضيهما معًا و لولاهما معًا لربما سقط الكون وكون الكلمة بالذات في سكون مميت أو حركة مريعة، ولكن عمومًا على مستوى الحروف بالذات نُظر إلى حروف العلة بما فيها من رخاوة ولين وقدرة على الامتداد الذي يجر معه النفس والصوت ويخدم خدمة عظمى الانفعالَ و الإيقاعَ في العملية الإبداعية – نُظر اليها باعتبارها حروفًا مؤنثة.
ولست أذكر الآن مَن من القدماء لمح تلميحًا خاطفًا إلى هذا، لكني أتذكر من المعاصرين (رولان بارت) حيث لمح مرة إلى شيء من هذا القبيل، و( غاستون باشلار) الذي قال ذلك أكثر من مرة في تضاعيف كتاباته، ولا سيما كتابه ( شعرية المكان أو جماليات المكان كما في بعض الترجمات) وفي كتابه الآخر (شعرية احلام اليقظة).
والإيقاع في الشعر حركة تناوب بين متضادين على مستوى الكلمة. نعم، لكن على مستوى الجملة الشعرية والنص اجمالاً أنت لا تشعر بالتناوب كثيرًا ولا قليلاً، أنت لا تشعر الا بحركة مموسقة تمتد متراقصة في فضاء النص. أو ليس الإيقاع في الشعر والموسيقى ملمحًا مغناجًا يتراقص وفق نظام ما، أو لست تلاحظ رقة و انثوية ما، أو لست تلاحظ أن كل مشية متراخية موقّعة تنسب إلى الغنج والتلوي والأنوثة سواء صدرت من امرأة أم من رجل ؟ بحكم ما لوحظ من أن مشية المرأة – أو هكذا افترضوا وفرضوا- مختلفة عن مشية الرجل تبعًا لاختلاف الطبيعة الداخلية وبحكم ما تفرضه أيضًا طبيعة جسد المرأة على حركتها وبحكم ما تفرضه أيضًا حركتها الداخلية الانفعالية على حركتها الخارجية فتبدو مشيتها متراخية موقّعة، ويبدو الخطو بقصد أو بغير قصد وكأنه رقص وحركة غنج ودلال.
و اذا كان المشي حركة باتجاه هدف ما، أفلا نجد الايقاع الذي هو مشي هو الآخر يمضي لهدفه، اليس هو تناسب في الحركة في الزمان وتموضع موقّع في حركته في المكان في فضاء النص وصولاً إلى هدف ما في آخر النص أو آخر المشي؟
أليس في هذه الموسيقى التواءات مدبرة وغنج متعمد؟ .. ولكنها كحركة انسيابية جميلة تبدو أحيانًا – لفرط جمالها وملاءمتها- تبدو عفوية وتلقائية ومحض تدفق موزون طبيعي يعكس اهتزازات روحية وانفعالية، يعكس حركة الجسد الداخلي ذلك الذي لا يمكن مقاومة ما يوجه به الملكة الإبداعية نحو اختيار تفعيلات و ايقاعات رقصها عبر سلم الكلمات لتؤدي رقصتها وتعكس تفتّل الروح، حتى لو كان اللحن حزينًا والرقصة رقصة الألم: ألم الولادة أو ألم الموت!!