الصفحة الرئيسية
 /  
احتشامات الوأد 4
 /  
رجوع

احتشامات الوأد 4


كانت الأفكار التي تحدثت عنها في المقالتين السالفتين حول كون الشعرية كائنًا أنثويًا مجرد خطوط عامة لموضوع مهم مثير شغلني وما يزال يشغلني على محاور ومفاصل مختلفة من تعقيداته بعضها قيد التأمل والدراسة. والموضوع اجمالاً موضوع اشكالي مثير و مغو، ولكنني لست وحدي من غوى؛ فقد قارب بعضهم الفكرة ومسوها، أو مروا بها سراعا وهم يركضون وراء فكرة اخرى مشتبكة بدت لهم أهم. وقد لمعت ومضة هنا وومضة هناك في النقد النسائي خاصة، وظهرت عند رولان بارت وطالبته جوليا كريستفيا بالنظرة إلى النص بوصفه جسدا ذا خصائص مثيرة و شبقية.

 

ولكن من المهم ملاحظة أن ثمة فرقا بين القول بأنثوية الشعرية وبين رفض مفهوم الهوية في المعاملات اللغوية الابداعية والنصية سواء كانت هذه الهوية ذكورية أو أنثوية، خاصة عند جوليا كرستفيا التي رفضت هذا التقسيم ورأت أنه ينتمي إلى مرحلة التصورات السائدة في الرؤية الأبوية للعالم. تلك التصورات السابقة لمقولات التفككية.

ولكن قبلهم بكثير. شغلت الفكرة (فكرة انثوية الشعرية) من طريق آخر غاستون باشلار في عدد من كتاباته، وخاصة كتابه عن شاعرية احلام اليقظة الذي شرح فيه نظريته حول انثوية التأملات الشاردة وأحلام اليقظة. وفيه جهد باشلار لإيضاح كيف أن التأملات الشاردة وأحلام اليقظة تنمتي إلى الانيما (الجانب الانثوي من الشخصية الانسانية) وهو يرى أن الانيما ليست ضعفا، وأن لها قواها الخاصة و انها المبدأ الداخلي لراحتنا وعنها يقول" ان افضل تأملاتنا الشاردة تأتي في كل واحد منا رجالا أو نساء من مؤنثنا، انها منطبعة بأنوثة لا تقبل الجدل. لو لم يكن فينا كائن مؤنث كيف نستريح؟ (شاعرية احلام اليقظة 83) وهو يربطها عميقًا بحالة الابداع والتخيل والصور الشاعرية يقول:" تبقُى بالكتيكية الرجل و المرأة مرتكزة على خطوط ناتئة جدًا تحت علامتي القسمة الجنسنانية الفيزيولوجية.. في الحياة اليومية كلمة رجل وامرأة، فساتين و بنطولونات، هي تعيينات كافية، ولكن في حياة اللاوعي الصماء في الحياة المنعزلة لحالم متوحد، تفقد التعيينات القاطعة سلطتها ان كلمتي naimus (نَفَسْ) anima (نَفْس) قد اختيرتا لستر التعيينات الجنسانية للخلاص من تبسيطية تصنيفات الحالات المدنية... نعم، تحت كلمات تأتي لتدافع عن تأملاتنا، يجب أن نحذر إعادة افكار معتادة بسرعة. أن أكبر المفكرين يقعون في هذا الفخ. حين يعلن كلوديل "لإفهام بعض قصائد أرتور رامبو" رمز النَفَس و النفَْس فهو في نهاية الأمر لا يتكلم تحت هذه الكلمات الا عن ثنائية الفكر والروح". ويمضي باشلار مستشهدا بكلوديل "في جوهر الأمر بقول الشاعر، أنيموس (النَفَس) هو بورجوازي له عاداته المنتظمة.. ولكن.. ذات يوم وقد دخل أنيموس فجأة إلى البيت، أو ربما كان ينام بعد العشاء، أو ربما أيضًا كان منهمكًا في عمله، سمع أنيما تغني وحدها خلف الباب المقفل: أغنية غريبة، شيئًا ما لم يكن ليعرفه".

ثم يؤكد بعد ذلك باشلار الخيط الرابط بين الحلم والغناء وبين الانيما في اللحظة الشعرية يقول: إنها أنيما التي تحلم وتغني. الحلم والغناء هذا هو عمل وحدتها. والتأملات الشاردة – وليس الحلم- هي التوسع الطليق لكل انيما وانه بلا ريب، بفضل تأملات انيماه.. الشاردة، يستطيع الشاعر أن يعطي لأفكاره الانيموسية.. نية اغنية، قوة اغنية. ومن هنا، دون تأملات شاردة أنيمية، كيف يكون باستطاعتنا قراءة ما كتبه الشاعر خلال تأملات شاردة أنيمية؟ وهكذا أبرر لنفسي عدم معرفتي قراءة الشعر الا عندما احلم (شاعرية احلام اليقظة ص61-62) وهذا الذي يعلنه هنا هو ما جهد طوال فصول الكتاب على ابرازه من خلال صور شعرية مارا عبر منهج ظاهراني لدراسة موضوع التخيل الشاعري و ايضاح سيرورة وعي الذات المعجبة بالصور الشاعرية من خلال المشاركة العميقة للذات في سيرورة التخيل الخلاق لكل شعر حقيقي اتكاء من المبدع والمتلقي كليهما على الأنيما، الجانب الانثوي في اية شخصية انسانية.

النص محتاج إلى ظله:

أما رولان بارت فيأتي من كتبه الكثيرة كتابه لذة النص في هذا السياق، والنص المقصود في العنوان هو النص الأدبي المبدع (الروائي السردي خاصة) وينظر اليه بارت بوصفه جسدا مؤنثا وقد كنت اشرت في المقالة الماضية إلى ملمح الوأد في صلب النظرية النقدية الحديثة للمرأة كقارئة كما يعكسه ذلك الكتاب. فعلى الرغم من كون الكتاب مهما ومشوقا – سواء اتفقنا معه أو اختلفنا –الا أنه يبقى مستفزا بسبب الاطر العامة التي تحيط برؤية بارت وطريقة طرحه. وهي رؤية أحادية لم تستطيع ان تنفك من بطريركتها الذكورية التي في الوقت الذي اعلت فيه عن أنوثة النص كموضوع الغت من جهة أخرى الانثى كذات وكقارئة من أصل النظرية.

ورولان بارت في هذا الكتاب يصدر عن رؤية تعكس تداخل اللغة والكتابة بالجسد بل هو براهما كجسد نصي، لكن ينظر إلى هذا الجسد من زاوية نظر و احساس ذكوري.

وصحيح ان بارت كان يهدف اجمالا إلى الجري وراء انزلاق المعنى و السيرورة اللانهائية للنص، ويفرق بين مصطلحي اللذة والمتعة تفريقا لافتًا لكنه حين وضع أسس نظريته لمداخلة النص ولرؤيته حول لذة النص، لم تكن المرأة في ذهنه كذات متذوقة للنص، وهو ينطلق من خلال مجازاته و تماهياته مع النص من هذه النظرة الاحادية بل يبدو لي- احيانا – لا يسلم للنص، حتى بمكامن جماليته و ابداعه كموضوع ( انثوي من وجهة نظره) الا بمداخلة القارئ الذي يخصبه ويمنحه قدرته على انتاج المعنى. وعلى هذا لا يمكن فهم عبارته " انهم يريدون نصا لا خصوبة فيه ولا انتاجية له. انهم يريدون نصا عقيما (انظروا اسطورة المرأة من غير ظل). ألا إن النص محتاج إلى ظله: هذا الظل هو قليل من الايديولوجيا وقليل من العرض، وقليل من الذات: وهذه اشباح وأورام وآثار انها سحاب ضروري ولا مندوحة للهدم من أن ينتج تضاده الخاص" (لذة النص 64-63).

لا يمكن أن تفهم عبارته تلك إلا أنها هي أيضًا بدورها بعض سحاب ايديولوجياه الخاصة وبعض سحاب بطريركية عامة!!

إذًا كيف تستحضر الرؤية الذكورية الجسد النصي ككائن انثوي في حال الابداع والكتابة وتنفيها أو تهمشها في حال التذوق والتلقي أو تحرضها ( كما في سياق الطرح النظري النقدي حسب مجازات بارت ) على الشذوذ واستعارة أحاسيس جنسانية ذكورية تجاه نص مؤنث. ذلك بالضبط ما يضعف طرحه عندي، وخصوصا انه لا يتحدث عن حالة من النقد والتذوق القائم على التحليل والاستنباط التي تستدعي الطرق العقلانية المنظمة، وانه من هنا تتساوى المرأة مع الرجل في التعامل مع الجزء الاينموسي ( النقد المنضبط بمنهجية ما) في شخص أي منهما، لكنه اجمالا ليس ببعيد عن حالة من التذوق والتلقي والمتعة التي يدرب عليها قارئ عادي بسيط وهو بذلك يؤسس لهيمنة ناعمة ووأد غير محتشم!!