الصفحة الرئيسية
 /  
احتشامات الوأد 5
 /  
رجوع

احتشامات الوأد 5


أشرت فيما سبق إلى كتاب رولان بارت (لذة النص) الذي صدر فيه بارت من رؤية للنص الأدبي بوصفه جسدًا مؤنثًا. ومع انه أعلى من أنوثة النص كموضوع الا أنه ألغاها من جهة أخرى كذات وكقارئة حيث عكس الكتاب رؤية أحادية، وطرح نظريته من زاوية ذكورية . ولا يمكن الخروج بتعليل (إذا ما اعتمدنا على مصطلحي يونغ الأنيما و الأنيموس) يخفف من حدة هذه الأحادية بافتراض أننا في حالة النقد والتذوق نعلّي جانب التحليل والاستنباط والدرس العقلاني المنظم ، وهو جانب أنيموسي يتفق ويتساوى فيه الاثنان معـًا الرجل و المرأة ، لأن ذلك ما لم يقله بارت ، ولأنه إجمالا في الكتاب ينصرف إلى حالة من الافتتان و الانخطاف تجاه النص ، وحالة من الانزلاق و الانسراب فيه في حالة من اللذة أو المتعة التي لا تطرح أو تمسك بتعليلها!!

 

خطاب الغياب وأنثوية الحب :

ولكن ربما إنه كان يرى أننا وراء انزلاق المعنى ، وراء سيرورة الغياب المستمر إنما نعود إلى – أصلنا المؤنث – ذلك الغياب الذي قال عنه في (مقاطع من خطاب العاشق) : "خطاب الغياب عبر التاريخ رعته المرأة : المرأة مقيمة والرجل صياد ورحالة . المرأة وفية تنتظر والرجل متنقل . المرأة إذًا هي التي تعطي شكلاً للغياب وتصوغ منه الأوهام , لأنها تملك الوقت لذلك . تحوك وتغني ، كانت الأغاني التي تنشدها النساء أثناء الحياكة تحكي في الوقت نفسه الثبات (عبر أزيز عجلة المغزل) والغياب (في البعيد إيقاعات سفر وصخب أمواج ونزهات على ظهر جواد). من هنا نجد أن داخل كل رجل يحكي غياب الآخر أنوثة ما تعلن عن نفسها : هذا الرجل الذي ينتظر ويتألم جراء انتظاره يصير متأنثًا بفعل معجزة ، ليس الرجل متأنثًا لأنه شاذ بل لأنه عاشق!" (مقاطع من خطاب العاشق).

ذلك المعنى بإرجاء حضوره وغيابه المستمر هو الذي يجعل جسد النص حاضرًا غائبًا في نوع من اليوتوبيا. وهذا بالضبط ما قاله بارت عائدًا بمخاوف الغياب إلى أقصى مداها : إلى الموت والفقد ضاربًا في عمق الذكريات الطفلية البعيدة وواصلاً بكل هذه الحمولات إلى المرأة الأم . وحديثه الذي سأورده الآن لم يأت في معرض حديثه لا عن النص ولا عن متعته ، ولكني وددت أن أستضيء به في محاولة لفهم سبب تغييبه للمرأة كقارئة في نصه النقدي في ضوء أبعاد رؤية أعم في مجمل خطابه حتى الأدبي منه . يقول أيضًا في (مقاطع من خطاب العاشق) : " أحكي للغائب خطاب غيابه من دون انقطاع . وهذه المغايبة غريبة إجمالا. فالآخر غائب بصفته مرجعًا وحاضرًا بصفته مخاطبًا ، وينشأ من هذا الانعطاف الخاص حاضر لا يحتمل... الغياب يدوم وعلي احتماله . علي إذًا تدبره : أحول انعطاف الوقت إلى مراوحة , أخلق إيقاعًا وأفتتح مشهد الكلام (الكلام يولد من الغياب : الطفل يلف البكرة ويطلقها ثم يلتقطها مقلدًا بذلك رحيل أمه وعودتها. هكذا تخلق نمطية الاستبدال) ويصبح الغياب ممارسة إيجابية، انهماكًا ( يمنعني من القيام بأي شيء آخر) . من هنا تنشأ قصة خيالية ذات أدوار متعددة تتألف من شكوك وعلامات ورغبات وكآبات. هذه المسرحة الكلامية تبعد الموت عن الآخر يقال إن لحظة خاطفة جدًا تفصل الوقت الذي يعتقد الطفل خلاله أن أمه غائبة عن الوقت الذي يخالها فيه ميتة . إن تدبر الغياب هو إطالة هذه اللحظة و إمهال الآونة حيث يوشك الآخر أن ينزلق توًا من الغياب باتجاه الموت ، هو تأجيلها أكبر قدر ممكن ." (خطاب العاشق).

لكن إن طالت تلك اللحظة، وإن لم يحسن تأجيل لحظة الموت تلك فلا أحد يمكنه تأمين العواقب : إما عدم ، أو سعي كالعدم ، وراء مطلق نص فاتن أو آخر مغو يكون غيابه معادلاً للموت . وقد قال بارت مستشهدا براهب بوذي : " أمسك المعلم برأس تلميذه تحت الماء لفترة طويلة جدًا وشيئًا فشيئًا أخذت الفقاعات تتناقص , لكن المعلم انتشل في اللحظة الأخيرة تلميذه وأنعشه : عندما ترغب في الحقيقة رغبتك في تنشق الهواء عندئذ تعرف كنهها ."

وعلق بارت: " وغياب الآخر يمسك برأسي تحت الماء ، هوائي يندر وأصير على شفير الاختناق ، لكني أعيد من هذا الاختناق بناء حقيقتي , وأهيء للمستعصي في الحب "( مقاطع من خطاب العاشق ).

  ألم أقل إن إرجاء المعنى وغيابه المستمر هو حفاظ على نوع من اليوتوبيا ، بحيث لا يريد أن يصل إلى حقيقة مطلق أو مطلق حقيقة ، فالوصول ذاته اختناق!!! أمن هنا كان مبدأ الحياة (أنيما) خفيًا وغائبًا وأنثويًا ؟!!