ليس كمثله شيء هذا النزيف الحار لنافورة النار، لفتنة الاسئلة التي لا تنتهي، وما السؤال؟ ليس السؤال الا هجوم الوجود والخارج على سلام الذات، وهو هجوم متبادل ومعكوس في جدلية تبدو فيها الذات بريئة في معظم الاحيان من تهمة التلصص والفضول والاختراق والتجاوز، تلك الذات التي تظن –بلا جدوى- انه يمكنها ان تخترع لها حدودا لا تتقاطع ولا تتصارع مع الوجود والكون الخارجي وأشيائه المثيرة أو المستفزة، الذات التي تنسى أنها ليس الا تراكمات الضجيج وحجيج الاسئلة، تلك التي تنطوي فيها وتصوغها فالذات الصافية المكتفية بذاتها كذبة لم توجد قط وضوء لم ينبلج بعد!!
السؤال يشردنا ينفي الذات المفتونة الممسوسة بالقلق خارج الاحتمال و الامكان بعيدا عن رذاذ السكينة وبرد اليقين. يا السؤال، يا لهب الغربة الممتد المتعرش في كل تجاويف الكيان والوجدان والأشياء والكلمات وتفاصيل المكان والأوقات جد الذات في نافورة النار تلك لن تجدها فراشة ولا رفات فراشة تجدها فتات رماد لا يكف عن التخلق، يتحول على السنة وأقلام تكابد وتكابر وتجاهد وتجاهر بقلقها الوجودي وتتباهى باختراع الاجوبة حين يصمت الكون وتكف الحياة عن الانزلاق نحو فتنة سؤال لجوج، لتكتشف ان رمادها لم يكسها الا مسوح الحكمة البالية، مسوحا من هباء وعباءة من غبار، تلك المسوح التي سرعان ما تلتهمها نارها من جديد اذ تكتشف كذبة نفسها وتبجح سربالها(1).
وبالمناسبة فالمسوح من المسح والمسح في الاصل اللغوي هو القول الحسن الذي يخدع به الآخرون لذا يقولون- نقلا عن ابن منظور- مسح فلان فلانا بالمعروف، أي بالمعروف من القول وليس معه عطاء، كما أن المسيح من الاضداد فهو الصدِّيق وهو الكذاب المضلل!!.
والحق اني لم اتعمد هذه المعاني كلها حينما قلت المسوح متحدثة عن تبجح الذات وزيف كشفها، ولكنها احدى دهشاتي امام هذه الفاتنة، اللغة، فقد دفعني الفضول حينما استدعى الذهن من المعجم المحفوظ كلمة المسوح، دفعني الفضول للبحث في اصل العلاقة اللغوية بين المسح والمسوح " الكساء"، وعدت إلى المعجم، إلى لسان العرب تحديدا، لكن لا المعجم ولا أي مصدر قريب أمكنه افادتي حول العلاقة بين القول العاري من الصدق والحقيقة وبين دثار الذات و اصباغ الحكمة الزائفة!!.
لكن المعجم اعطاني هذه الخيوط الخفية الرائعة بين العلاقات، تلك الخيوط الغائرة التي يمكن لمغزل الفكر ان ينسلها وينسجها فيرتدي حلته!! أما العلاقة بين المسوح والحكمة فقد سكت عنها المعجم، وهي من التبجحات التي قلما امكن الحديث عنها حتى الانتباه اليها!! أما ربطها بهذا السياق هنا فهو من ادعاءات وتبجحات احدى الانوات التي انظر اليها الآن وابتسم!!.
(1) سترد اضاءات عن الكذب وتبجح الذات في مقالات لاحقة حول الذات وملابسها وعلاقتها بالعري والسربال والتباساتها بقضية الكشف والمعرفة !!!.