الصفحة الرئيسية
 /  
في المشترك بين الشعر والمثل قراءة في المدونة التراثية التنظيرية
 /  
رجوع

في المشترك بين الشعر والمثل قراءة في المدونة التراثية التنظيرية


بحث بعنوان ( في المشترك بين الشعر والمثل :قراءة في المدونة التراثية التنظيرية ) نشر في مجلة ( التراث العربي ) العدد (110) جمادى الآخرة 1429  هـ حزيران 2008م .

من التقاليد المنهجية المحمودة أن يبدأ الباحث بتحديد منطلقاته وتعريف مصطلحاته التي يستند إليها، ولعله لذلك يُتوقع مني أن أحدد - بدءًا - هذين اللذين يحتلان العنوان ويحتلان ميدان الدرس، وهما الشعر والمثل لولا أن هذا مالم ولن يحدث، على الأقل في هذه المرحلة من البحث - والسبب أن البحث يتعلق بقراءة المدونة التراثية في إطار نصوصها التنظيرية المتعلقة فقط بالنص على هذه الروافد أو الإشارة إليها، فالتحديد - إن وُجد - إنما ينطلق من المدونة وليس تحديد منطلق الباحثة ورؤيتها الخاصة.

ولكن - مع ذلك - يبدو من المهم الوقوف قليلاً عند مفهوم الشعر ومفهوم المثل كما تنقله النصوص التنظيرية, ولأبدأ بالشعر؛ لو حاول أحدنا أن يستحضر تعريفه للشعر لضرب كلُ منا في واد. والقدماء هم أيضًا ضربوا في معظم أودية هذا المتأبي الحرون. والناظر فيما تركوه من محاولات تعريفية وتنظيرية له يجعلني أجد محاولة استخلاص تعريف أو مفهوم له في مثل هذه الوقفة السريعة مجازفة كبيرة؛ لأننا نقف على مسافة عظيمة وهائلة من ركام المحاولات والجهود، ولكن سأحاول أن أنضّد أهم وأبرز ما قيل في هذا المجال. فالشعر لديهم نمط خاص من التعبير يقوم على التخييل والمحاكاة مع الإيقاع والتناسب والاقتصاد في التعبير لإيقاع التأثير والالتذاذ في النفس.


ولكن في المقابل لو سألت القارئ. أن يستحضر مفهومًا للمثل لربما تسارع إلى الذهن لدى الكثيرين أنه العبارة الفنية السائرة الموجزة، التي تصاغ لتصور موقفًا أو حادثة تستخلص منها خبرة إنسانية تصلح لاستعادتها في حالة مشابة لها أو حالة تحمل بعض تفصيلات الموقف الأول. هذا هو الشائع المتداول لمفهوم المثل. ولكن أهذا هو المثل؟ وماذا لدى القدماء عنه؟

إذا كنت قلت إننا نقف الآن على بعد مسافة هائلة تغطى بمحاولات كثيرة متنوعة ومتكاملة لتعريف الشعر فإننا في المقابل نقف على مسافة ضامرة إزاء القسيم الآخر: المثل، فالجهود التنظرية المبذولة في هذا الجانب تغدو مثل قطرات قليلة إذا ما قُورنت ببحر المبذول في سبيل الشعر. ثم إنه حتى في هذا في القليل المبذول ثمة ذبدبة واختلاط وفيه من التواتر أكثر مما فيه من التكامل إلا في بعض اللمحات واللمعات التي سأشير إليها فيما سيأتي عند الحديث عن الروافد المشتركة.

ومع أننی لست بصدد التعرض للنصوص التی عرّفت المثل - فهذا ليس موضعه، لأن هذه الأوراق تعنى بالنصوص في الروافد المشتركة - إلا أنه يبدو من المهم إعطاء موجز عن تلك التعريفات . لقد كنت فرغت في بحث سابق([1]) من الإضاءة على موضع المثل ومكانه في النصوص التنظيرية في إطار التنظير للنظرية الأدبية بعامة. وقد اتضح أنهم حددوا للمثل شروطًا وتناقلوها. وهي إنه يجب أن يجتمع في المثل إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، مؤكدين كذلك على شرط السيرورة والشيوع، وملمحين إلى الجانب النفعي التعليمي في المثل([2]).

وسأحاول أن أضيء على خط سير مفهوم المثل - كما بدا لي - من متابعته في المدونة التراثية، وسأوزع الحديث عنه كما تناولته ثلاث فئات، حيث يبدو المثل عندها واحدًا من اثنين: إما المثل الجاهز الموجز كما هو مشهور ومتداول، وإما هو المثل القياسي أو ذلك الضرب من التمثيل الذي يضرب للاستدلال. وسأبدأ بالفئة الأولى:

أ- فئة اللغويين: وهنا ما دمت أتحدث عن التعريف في نص المدونة التراثية أود التأكيد على هذه السمة، وهي الندرة والتواتر، فتلك النصوص التي نشأت مع التأليف وجمع الأمثال بدأت مع فئة اللغويين؛حيث جاء التعريف انطلاقًا من المجاميع ذاتها، وهذا يعني أن جاهزية الأمثال ومثولها متناقلة في الذاكرة وعلى الألسنة وفي ثقافة الرواة أملت الرؤية أو المرتكز النظري للتعريف استنادًا إلى الإشتغال اللغوي لدى هؤلاء فجاءت التعريفات تنص على أن المثل هو من الشبيه والنظير وأن المثل هو التشبيه.

يقول المبرد: » المثل مأخوذ من المثال وهو: قول سائر يُشبَّه به حال الثاني بالأول. والأصل فيه التشبيه، فقولهم: مثل بين يديه إذا انتصب معناه أشبه الصورة المنتصبة. وفلان أمثل من فلان أي أشبه بماله من الفضل. والمثالُ القصاص، لتشبيه حال المقتصَّ منه بحال الأول، فحقيقة المثل ما جُعل كالعلم للتشبيه بحال الأول»([3]).ويقول ابن السكيت: » المثل لفظ يخالفُ لفظ المضروب له، ويوافقُ معناهُ معنى ذلك اللفظ شبّهوه بالمثال الذي يعْمل عليه غيره. ».([4])

ويتواتر اللغويون وجماع الأمثال وغيرهم هذا الأصل اللغوي لكلمة مثل([5])، مستندين في رؤيتهم إلى تلك المادة المجموعة التي تضم تلك الأمثال التي تتطابق وتتفق مع المفهوم الشائع السابق ذكره. فالناظر في محاولات التعريف في تلك المجاميع المبكرة لن يجد فيها إلا ذلك المفهوم؛ بمعنى أننا لن نجد فيها ما يمكن أن نسميه المثل الخرافي، أو المثل ( أو التمثيل) القياسي.

 

ب_ خدام النص الديني:

ولكن من جهة أخرى، في الوقت نفسه ومن مرتكز قريب من المرتكز اللغوي السابق ولكن مع بعض الاختلاف، عملت فئة أخرى جندت نفسها لخدمة القرآن والسنة النبوية؛ حيث قامت بمحاولات كثيرة لجمع الأمثال القرآنية والنبوية. والناظر فيها يتبين أن ورود مسمى الأمثال في عناوينها يعود إلى رؤية أخرى لنوع من الأمثال غير تلك الأمثال العربية القديمة التي عُني بها اللغويون. ويرى المدقق في مقدمات الجماع لها وفي بعض إشاراتهم أنهم يستندون إلى مفهوم للمثل رديف في معظم الأحيان للتمثيل أو المماثلة في المصطلح البلاغي. وفيها يبدو أن المثل عندهم هو المثل القياسي. وفي إشاراتهم ما يدل على أنهم يدركون هذا الاختلاف، لكنهم لم ينصوا على هذا التنويع المثلي. يقول الرامهرمزي في مقدمة كتاب أمثال الحديث:» هذا ذكر الأمثال المروية عن النبي _ صلى الله عليه وسلم_ وهي على خلاف مارويناه من كلامه المشاكل للأمثال المذكورة عن متقدمي العرب، فإن تلك مواقع الافهام باللفظ الموجز المجل، وهذا بيان وشرح وتمثيل يوافق أمثال التنزيل التي وعد الله - عز وجل - بها وأوعد.......... »([6])

والمثل عندهم هو ضرب من القياس والاستدلال. يقول الترمذي مشيرًا إلى أهمية الاستدلال والقياس في المثل، ومكررًا ذلك أثناء كتابه حيث يقول: » والتمثيل أن تصف شيئًا غاب عنك فتمثل له في الشاهد ليقف على ما يُؤدّي معنى الغائب»([7]).

ويقول : » فإذا ضربت لها الأمثال [يعني النفس] صار ذلك الأمر لها بذلك المَثَل كالمعاينة كالذي ينظر في المرآة فيبصر فيها وجهه، ويبصر بها من خلفه ، لأن ذلك المثل قد عاينه ببصر الرأس، فإذا عاين هذا أدرك ذلك الذي غاب عنه بهذا؛ فسكنت النفس، وانقادت للقلب، واستقرت تحت القلب في معدنها. »([8]).

ومن يقرأ كتاب الترمذي يراه يؤكد على أهمية إدراك ماهو غائب عن طريق المثل، عن طريق الاستدلال والشاهد، يقول : » والأمثال نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار لتهدي النفوس بما أدركت عيانًا . فمن تدبير الله لعباده أن ضرب لهم الأمثال من أنفسهم لحاجتهم إليها ليعقلوا بها ، فيدركوا ما غاب عن أبصارهم وأسماعهم الظاهرة ، فمن عقل الأمثال سماه الله تعالى في كتابه عالمًأ، لقوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. »([9]).

ولا يخفى هنا أن استغلال التمثيل أو الأمثال _كما يقول _ لاستحضار اليقين حول الغائب، لتهتدي النفوس إنما يصدر عن نزعة دينية متصوفة عند الترمذي تجعله يحوّل المثل إلى أداة للمعاينة اليقينية لإدراك حقيقة الله ولإدراك المعقولات عن طريق الاستدلال بالشواهد المحسوسة. وذلك يتسق مع النص الصريح، الذي سنراه فيما بعد، على أن التمثيل يقوم على تقريب المعقول أو المعنوي في صورة المحسوس. وهو ما سيتواتره منْ بعده أولئك الذين جمعوا أمثال القرآن أو أمثال الحديث ، وهي على كل حال فكرة تنوقلت لدى البلاغيين والنقاد أيضًا.

يقول الزمخشري: » ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه شاهد»([10]).

ويؤكد ذلك أيضًا ابن القيم في كتابه الأمثال في القرآن الكريم قائلاً: » يقول شيخنا -رحمه الله- وقع في القرآن أمثال، وإن أمثال القرآن لا يعقلها إلا العالمون وإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر... »([11])

 كما يبين ذلك ويوضحه ويشرحه الزركشي قائلاً : »إن الحكم والأمثال تصور المعاني تَصَور الأشخاص فإن الأشخاص والأعيان أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، بخلاف المعاني المعقولة فإنها مجردة عن الحس ولذلك دقّت........ »([12]).

وهذه نصوص تشير كلها إلى تحول المثل إلى ضرب من الأقيسة والاستدلالات، وذلك تحركه النزعة الدينية من جهة وتغليب الناحية النفعية وهيمنة العقل والمنطق من جهة أخرى.

 

ج- عند بعض البلاغيين والنقاد المتأثرين بالمنطق وعلم الكلام:

يبدو أن جمع الأمثال القرآنية والنبوية تحت مسمى الأمثال كان سببًا في لفت نظر بعض الدارسين وصرفهم لدرس هذا الجانب الذي سموه أمثالاً. فبيئة المتكلمين وبعض المتأثرين بالمنطق من البلاغيين والنقاد عند التعرض لتعريف المثل أو التمثيل أكدت هذا الخلط من جهة، وزادت فكرة التنوع المثلي توكيدًا، وإن لم تضف إلى تحديد هذا التنوع نصًا صريحًا. ولكنها أكدت في معظمها هيمنة المنطق والاستدلال العقلي.

فقدامه بن جعفر وابن وهب وابن خلف وعبد القاهر الجرجاني والقرطاجني([13])، كل هؤلاء يتحولون به إلى ضرب من القياس، وكل قياس يحتاج إلى مقدمات هي تلك التي يُحال إليها في العبارة الماثلة. ومن هنا فالمثل مقترن بالحجة والاستدلال والشاهد.

وكل هذا يذكر بقوة بالمرجعية الأرسطية، فمعروف أن المثل عند أرسطو من الأدلة الخطابية فثمة اتكاء أيضًا على جانب العبرة والحض والحث في غاية المثل جعلتهم يستعملونه بوصفه دليلاً وشاهدًا مثلما فعل أرسطو حيث يقول: » الأمثلة مناسبة جدًا للخطابة المشورية بينما الضمائر مناسبة جدًا للخطابة القضائية . والأولى تتعلق بالمستقبل، ولهذا فإن أمثلتها ينبغي أن تؤخذ من الماضي. والثانية تتعلق بمسألة حدوث أو عدم حدوث الوقائع، ولهذا تكون الحجج البرهانية والضرورية فيها أنسب، لأن الماضي ينطوي على نوع من الضرورة.......([14])

ولأن الخطابة المشورية هي عند أرسطو إما حض أو نهي، نلاحظ العلاقة الغائرة بين العبرة والاعتبار في المثل وبين ما يقوله أرسطو هنا عن المستقبل والماضي.

ولن أقف طويلاً عند تعريفات المثل عند هذه الفئات الثلاث، فذاك موضوع يطول، وهو يمثل الفصول الأولى من دراسة أرجو أن تتكامل وتنتهي قريبًا. وما أردت أن أشير إليه قبل الحديث عن الروافد المشتركة كما تنقلها النصوص هو: التنبيه إلى هذا التوتر والتواتر والتذبذب والاضطراب في تعريف المثل أو في مفهومه في معظم النصوص التي سعت للتعريف والتحديد.

وقصارى القول هنا هو إن تعريف المثل كان ومازال يحتاج إلى دقة وضبط، فقد بدا أنه في طور نشأته الأولى كان مرتبطًا بالعبارة القصيرة الموجزة السائرة، التي تصور حدثًا أو تجربة ويمكن التمثل به في حال مشابهة . ولكن في مرحلة لاحقة اختلط المثل بالفن البلاغي (التمثيل) أو بالمثل القياسي([15])، وهو امتزاج ظهر عند عدد من المنظرين مثل: قدامة ، وابن وهب، وابن خلف ، والجرجاني، وغيرهم، حتى شكا السجلماسي في مرحلة متأخرة من تاريخنا النقدي والبلاغي  من هذا الخلط في كتابه المنزع البديع.([16])

وهذا ما يجعلني أدعو إلى النظر إلى مجموع ما يمكن فهمه من هذه المدونة التنظيرية نظرة عامة شاملة. والذي اتضح لي أننا إزاء تأمل للمثل في حالين: الأولى: حُالُه متحققًا ماثلاً ، بالفعل . وهو ما أسميه - بمصطلح المناطقة - المثل بالفعل وهذا يعني الأمثال المتناقلة الموجودة، وتعني المثل كما يتبادر إلى الأذهان في مفهومه العام الشائع . أما الثانية: فهي الأمثال الموجودة بالقوة، وهي- كما يتراءى لي من النصوص - إمكانية فنية بلاغية، فالمثل بالقوة هو التمثيل، النوع البلاغي المعروف، فقد ظهر المثل مرادفًا وملازمًا لمصطلح التمثيل أو المماثلة عند معظم الدارسين وعلى رأسهم الجرجاني.

 

في المشترك بين الشعر والمثل

 

المتأمل في المدونات التراثية يلحظ بسهولة أنه كان للأمثال مكانة عظيمة وأنها كانت تقف في اهتمام الناس موازية للأشعار، إن لم تفقها. يقول ابن عبد ربه : » الأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم، ونطق بها كل زمان وعلى كل لسان؛ فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة ، لم يسر شيء مسيرها ولا عم عمومها حتى قيل: أسير من مثل.».([17])

ولمكانة المثل الاجتماعية والفنية أيضًا جعله بعضهم نوعًا قائمًا برأسه في شجرة الأنواع الأدبية، فقد عده أبو سليمان السجستاني حينما عددّ أنواع البلاغات _ عدّه بلاغة متفردة قائمة بذاتها حيث قال: » البلاغة ضروب، فمنها بلاغة الشعر، ومنها بلاغة الخطابة، ومنها بلاغة النثر، ومنها بلاغة المثل، ومنها بلاغة العقل ومنها بلاغة البديهيه ، ومنها بلاغة التأويل ... أما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضبًا، والحذف محتملاً ، والصورة محفوظة، والمرمى لطيفًا والتلويح كافيًا، والإشارة مغنية، والعبارة سائرة ».([18])

بل لقد عده الميداني في أعلى مدرج في سلم الأدبية العربية حيث يقول: » فإن المعلوم أن الأدب سلم إلى معرفة العلوم ، به يتوصل إلى الوقوف عليها ، ومنه يتوقع الوصول إليها، غير أن له مسالك ومدارج، ولتحصيله مراقى ومعارج...، وإن أعلى تلك المراقي وأقصاها وأوعرها تيك المسالك وأعصاها هذه الأمثال التي هي لُمَاَضات حَرَشة الضباب، ونٌفاثات حلبة اللقاح وحملة العلاب من كل مرتضع دَرّ الفصاحه يافعًا ووليدًا، مرتكض في حجر الذلاقة توأمًا ووحيدًا....، فنطق بما يُسرُ المعِّبر عنها حبوًا في ارتقاء، والمشير إليها يمشي في خَمَر، ويدب في ضراء. ولهذا السبب خفي أثرها، وظهر أقلها، وبطن أكثرها. ومن حام حول حماها، ورام قطف جناها علم أن دون الوصول إليها خرط القتاد ، وأن لا وقوف عليها إلا للكامل العتاد .».([19])

          والذي يلحظه المتأمل في العبارات التي تساق عن الأمثال أنها غالبًا ما تكون مقرونة بالشعر وكأنما ثمة اتكاء على مفهوم غائر يشير إلى التقاء الاثنين معًا . وكثيرًا ما ترددت عبارات من قبيل: حسبك أن تروي الشعر والمثل أو الشاهد والمثل.

           وقبل مناقشة تفصيلات تلك الروافد يمكن الإلحاح إلى مسألة التداخل بالتوقف عند نص المرزوقي في مقدمة شرحه لديوان الحماسة، تلك التي يتحدث فيها عن عمود الشعر. وعمود الشعر عنده يأتي ضمن رؤيته بأن نظام البلاغة – كما نص على ذلك في مطلع المقدمة- يستوي فيه المنظوم والمنثور. يقول متحدثًا عن عمود الشعر عند العرب: » إنهم كانو يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف. ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات  - والمقاربة في التشبيه والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما ، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر ولكل باب منها معيار».([20])

فالمرزوقي - كما نرى- ينص نصًا صريحًا على هذا التداخل حيث العلائق مشتبكة بين الشعر والمثل، فالأمثال داخلة في عمود الشعر، أو على الأقل جزء من تقنيتها، ولذلك يعود بعد كلامه السابق بقليل ليقول: »وقد قيل: أقسام الشعر ثلاثة: مثل سائر وتشبيه نادر واستعارة قريبة »([21]).

وهذه إشارة إلى نوع من اشتباك العلائق بين الاثنين واستعارة التقنية المثلية في الشعر. وتأتي إشارة المرزوقي ضمن إشارات تتناثر في كتب التراث تنص على هذا، فمثلاً ابن رشيق يقول: » المثل السائر في كلام العرب كثير نظمًا ونثرًا وأفضله أوجزه وأحكمه أصدقه... »([22]). ويقول ابن خلف : » والأمثال تقع في النثر والنظم.. »([23]).

ومع ما يستخلص من هذه الأقوال من اختلاط وتذبذب في تعريف المثل ومفهومه لديهم يتضح انها تحتمل نظرة تتكئ _كما سنرى_ على مرتكز نظرى غير مصرح به، ولكنه يلوح في ظاهر عبارة بعض نصوص المدونة التراثية، وهو أن المثل إمكانية بلاغية فنية تظهر هنا وهناك في الشعر والنثر، ومن كونها إمكانية بلاغية يأتي هذا التعالق.

أما النصوص التي تشير إلى هذا التعالق وإلى وجوه الروافد المشتركة بين الشعر و المثل فمتعددة. وقد صنفتها ووزعتها على هذه المحاور والروافد : الضرورة ، والشفوية ، والسيرورة، والجانب الوظيفي ، وجانب التخييل والمحاكاة ، والجانب الإيقاعي )

 

الضرورة:

يؤكد عدد من النصوص أنه يجوز في المثل ما يجوز في الشعر، ويُسمح لمنتج المثل ما يسمح للشاعر من باب الضرورات يقول المبرد: » والأمثال يستجاز فيها ما يستجاز في الشعر لكثرة الاستعمال لها ..».([24])

ويقول المرزوقي : » المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، تتسم بالقبول، وتشهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجبه الظاهر إلى  أشباهه من المعاني ، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام»([25]).

ويتواتر هذا الرأي عددٌ من اللغويين والنحاة، فابن جني ينقل عن أبي علي السيرافي قوله: » وعلى أن هذا جاء مثله في المثل وهو قولهم: افتد مَخْنُوق، وأصْـبح ليل، وأطرق كرا، يريد يامخنوق ويا ليل، ويا كروان. وعلى أن الأمثال عندنا إن كانت منثورة فإنها تجري في تحمل الضرورة لها مجرى المنظوم في ذلك. قال أبو علي: لأن العرض في الأمثال إنما هو التسيير كما أن الشعر كذلك، فجرى المثل مجرى الشعر في تجوز الضروة فيه».([26])

وليس المهم هنا أن هذه النصوص تشير إلى أن الضرورة جواز مرور للشعر والمثل يعطيها سمة تميز خاصة فحسب، ولكن لأنها أيضًا تشير إلى إدراكهم أن ثمة فرقًا يجب أن يراعى بين اللغة في مستواها العادي العاري من الفنية وبين المستوى الفني الأدبي للغة الذي يقوم على المغايرة والانحراف عن المستوى العادي. ففي هذا التسمح ما يشير إلى إدراكهم الصعوبات التي يعانيها المبدع مع قيود صنعته الفنية.

ولكن سماحهم للشعر والمثل ببعض التجاوزات من باب الضرورات يثير تساؤلاً عن بقية الأنواع الأدبية: ألم تكن أدبًا عندهم؟ هذا سؤال من المهم طرحه في هذا السياق. وأظن أن محاولة الإجابة _ مع سكوت المصادر _ تَقَوّلٌ على المرتكزات والأسس النظرية التي انطلق منها أولئك، ولكن يبدو لي أنه من المؤكد أن باب الضرورات فتح بعد التأمل في طبيعة النوع الأدبي وما يفرضه على صاحبه من التزامات وقيود. فقد صرحت معظم النصوص أن الضرورة الشعرية إنما يُحابى بها الشاعر بحكم قيد الوزن والقافية، لكن ما بال المدونة سكتت أمام الضرورة لمنتج المثل؟ أي قيد يقيد صاحب المثل حتى يراعى قيده مثل قيد الشاعر؟

إنني - إذ سكتت كل النصوص التي جمعتها عن التصريح بهذا القيد - أتساءل : ترى أين يقع القيد؟  أفي عملية الصياغة التعبيرية للمثل؟ أيقع في الدائرة الضيقة التي يحجر فيها صاحب المثل لينقل الموقف والحادثة أو التجربة مكثفة مختزلة في أوجز عبارة؟ أم يقع في المعاناة التعبيرية الاقتناص التشبيه أو الصورة؟ أم يقع في شيء خارج العملية الإبداعية أصلاً؟.

          ولأنني لا أركن إلى احتمال واحد مقنع أو مقبول من تلك الاحتمالات لموقع القيد أجدني أميل إلى أخذ طبيعة المثل مجتمعة بعين الاعتبار. تلك الطبيعة التي تتواشج فيها ضغوط الموقف الخارجي الذي يحكم في لحظة سريعة انتاج النص المثلي فيتحكم في صياغته سياقُ الموقف، والسياقُ اللغوي الذي ينشأ فيه مع القدرات الإبداعية لمنتجه نفسه.

          ولعلهم راعوا ظروف القول المثلي في مسألة الضرورة، فرأوا أنه إذا ما أنتج صاحب المثل عبارته الفنية على الشروط التي نصوا عليها لإبداع المثل فإنه يفتقر له ماقد يسوقه إليه ضيق العبارة وإيجازها إذا ما أصاب التشبيه، وأحسن وأجاد اقتناص التمثيل ليطير المثل، حتى لو كان مخالفًا للنظام اللغوي، ففتحوا باب الضرورة مراعاة لظروف القول المثلي من جهة، وليخدم النظرية النحوية واللغوية من ناحية ثانية. أوليست الأمثال مادة خصبة للاستشهاد واستنباط قوانين اللغة أيضاً مع ما فيها من انحرافات؟

يقول الأصبهاني في مقدمة كتابه الدرة الفاخرة، وهو الذي خصصه للأمثال التي على صيغة »هو أفعل من كذا» مدافعًا عن شواذ هذه الصيغة وانحرافاتها: » وإنما قدمتُ ما حكيته من قياس النحويين ومجاز اللغويين لئلا يطعن طاعنٌ بقياس النحو على مثال مَثَل شذَّ عن قياسهم، ولتقوى مُنَّةٌ([27]) المتسعين في مجاز اللغة، والمسامحين للعرب فيما تكلموا به على الجِبلَّة »([28])

وبعد أهذا هو ما وراء التسامح والتغاضي وفتح باب الضرورات؟  لقد قالوا_ ضمن ما قالوا إن هذا الباب فتح من أجل أن الغرضَ من كليهما التسييرُ كما جاء في نص كلام السيرافي. وما دام هذا هو الغرض فلن يحدوا -إذًا- من انطلاقها بتطبيق كل ضوابط اللغة ، لابأس من غض الطرف، ولا بأس من أن يطلق عقال الابداع حتى يسير - بحسب عبارتهم - حتى آخر غايته.

 هذا ما يُفهم من ظاهر النص: لكن هل كان المثل ينتظر تقنين اللغويين والنحاة وسماحهم أو عدم سماحهم؟ لا أظن ذلك ، بل إني أرى أن باب الضرورة الذي فتح أمام المثل كان إجباريًا ، فقد فرض المثل نفسه كما هو وبما فيه من مخالفات لنظام اللغة، وسار وطار دون أن ينتظر رأي أحد أو تقنين مُنظّر. ولم يكن أمام المنظرين، وهم يجمعون مادة اللغة ويعمدون لتنضيد نظرية اللغة والنحو، إلا أن يقبلوا بشواهده ويفتحوا أمامه الباب. فدوران المثل بين الناس وقبولهم إياه مقياس فرض نفسه مع قوة المثل التعبيرية، تلك التي جعلته لا يقبل بما فيه من انحرافات فحسب بل يُعْتدّ به بوصفه شاهدًا، ومنه فْتح البابُ مُشرعًا لكل الإمكانيات المثلية المقبلة لتسير حاملة جواز الضرورة، ذلك الجواز الذي يحمل مثله تمامًا الشعر.

          وربما كان من المهم هنا الإشارة إلى أنه ربما نُظِرَ إلى المثل من ناحية اللحن على أنه يمثل الثقافة الشعبية الجماهيرية، وأنه يمثل الضمير الجمعي وإن ذلك يمنحه حق الضرورة. لولا أنني لا اعتّد كثيرًا بهذا الرأي لأن من الأمثال المشار إليها أمثال عربية قديمة قبل أن يفشو اللحن، ثم إن القانون لم يفرق بين مثل قديم أو جديد فالقانون شامل. كما أن هذا المرتكز الذي يرى في الأمثال أنها صوت الشعب والثقافة الجماهيرية إنما هو رأي يستند إلى رؤية حديثة، ودراسة في هذا الجانب هنا إنما تنصب محاورة النصوص التنظرية القديمة ذاتها.

 

الشفوية:

          نحن نعلم أن شعرنا العربي كان ينشد ويلقى، وكان يتنُاقل ويروى مشافهة. وسمة الشفاهية التي ارتبطت بالشعر وثيقة الصلة أيضًا بالأمثال. فأصل نشأة المثل وطبيعة تداوله تشير إلى هذه السمة الشفوية، بل إن بعض نصوص التنظير للمثل -كما مر- كانت تنص على هذه السمة سمة السيرورة والتداول، وهو بالضرورة تداول شفهي.

           ومن أجل هذه السمة نَصَّ نصًا صريحًا بعضُ المنظرين للأمثال بأنها تنقل كما هي بحكايتها، أي كما حكيت دون تبديل، ويعتد بنصها دون تغير، يقول العسكري: » ويقولون: الأمثال تحكى، يعنون بذلك أنها تضرب على ما جاءت عن العرب، ولا تغير صيغتها فنقول للرجل: » الصيفَ ضيعتِ اللبن » فتكسر التاء لأنها حكاية».([29])

                ويقول ابن خلف في مواد البيان » الأمثال كلها حكايات لا تغير».([30])

          وربما من هنا من طابعها الشفهي جاء تقاطعها مع الشعر في سمة أخرى هي الانحراف في بعض الأحيان عن بعض ضوابط اللغة وقوانينها، وهي المغايرة التي غُض الطرف عنها ، وقنن لها تحت باب الضرورات الذي تحدثت عنه قبل قليل.

          وأرى أن هذا التقاطع الذي يلتقي عنده الشعر والمثل - أعني الشفهية _ أرى أنه أعلق وألصق بالمثل منه بالشعر، فالمثل ارتبط غالبًا بالثقافة الجماهيرية أو القاعدة العريضة من المجتمع، حتى إن بعض الباحثين يستبدلون تسمية الأمثال العربية بالأمثال الشعبية القديمة ويرون أنها تمثل الوجدان الجمعي الشعبي وإن صيغت بالفصحى.

 

السيرورة:

          شرط السيرورة الذي نص عليه معظم المنظرين للمثل متواتر قديم. ويبدو أنه موجود لدى معظم الأمم؛ فقد نص أرسطو على شرط الشيوع في الأمثال.([31]) ولكن يبدو أن السيرورة لم يختص بها المثل وحده؛ فقد مر بنا_ فيما مضى_ النص الصريح على أن الغرض من الشعر والأمثال هو التسيير، وكثيرًا ما تزامل الاثنان في هذه الرحلة. يقول العسكري في سياق المفاضلة بين الشعر والنثر: » ومما يفضُل به غيره أيضًا طولٌ بقائه على أفواه الرواة وامتدادُ الزمان الطويل به، وذلك لارتباط بعض أجزائه ببعض. وهذه خاصيته في كل لغة، وعند كل أمة... وطولُ مُدة الشيء من أشرف فضائله. ومما يفضل به غيره من الكلام، استفاضتُه في الناس وبعد سيره في الآفاق، وليس شيءٌ أسيرَ من الشعر الجيد ، وهو في ذلك نظيرُ الأمثال، وقد قيل : لا شيء أسبق إلى  الأسماع وأوقع في القلوب وأبقى على الليالي والآيام من مثل سائر ، و شعر نادر».([32])

          والعسكري لا يبتعد أبدًا في حديثه السابق عن الحلم القصي للشعراء والمبدعين، فمن أحلام الشاعر القصية أن يسير شعره، وينتشر، ويلج إلى وجدان الناس، فيصير جزءًا من خطرات نفوسهم وخواطرهم. وربما من هنا كان الشعر يحاول أن يستغل التقنية المثلية ليشيع وينتقل ويشتهر، حتى لقد يصبح حلمًا من أحلام الشاعر أن توصف أبياته بأنها أسير من مثل، وأن تشرد أبياته ( مثلما افتخر المتنبي). وكأنما تغدوا السيرورة مقياسًا لقمة الجودة وقمة الوصول إلى ضمير الناس ووجدانهم، حتى ليصح أن يكون لشهرة أبياته وموقعها من الناس مثل ما للمثل من موقع ومكانة.

          يقول ابن رشيق: » والمثل السائر في كلام العرب كثير نظمًا ونثرًا وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم مثل شرود وشارد أي سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد».([33])ويقول أيضًا: » والمثل إنما وزن في الشعر ليكون أشرد له وأخف للنطق به».([34])

          ولعله من هنا من تداخل حلم السيرورة واستغلال التقنية المثلية ( التي ترادف عند معظم البلاغيين التمثيل) جاءت انتقاداتهم لبعض الشعراء للمبالغات والإفراط في استخدام هذه التقنية، ووسموا الشعر الذي يقع فيه بالتكلف. يقول ابن رشيق :» وأما قولهم في تفسير ما يقع في الشعر من جنس قول الحطيئة :

شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا

هو مثل فإنما ذلك مجاز، أرادوا التمثيل وهذه الأشياء في الشعر إنما هي نبذ تستحسن ونكت تستطرف مع القلة وفي الندرة فإذا ما كثرت فهي دالة على الكلفة».([35])

           ومن هنا كرهوا أن يتحول الشعر إلى أمثال، كما  حدث لشعر صالح عبد القدوس، وكما عابوا مبالغات أبي تمام وإسرافه في ضرب الأمثال، لاسيما أن الأمثال ارتبطت عند بعضهم بالغرابة والإغراب([36])، وعابوا الاتجاه الحكمي والعقلي في شعره وشعر المتنبي ، وماذاك إلا لأن النظر النقدي اتجه إلى الأمثال في مرحلة التداخل بالفن البلاغي التمثيل باعتبارها (الأمثال) قياسًا وأدلة وشواهد، وهي لذلك ترشح بالمعاني الإقناعية فيُنحا بها نحو الحكمة والمنطق، وهذا مغاير لطبيعة الفن الشعري.

          وهذه النظرة لدى النقاد فوق أنها توضح اختلاط المصطلح تؤكد أن المرتكز النظري عندهم يحول المثل إلى  إمكانية فنية بلاغية تدور في فلك المصطلح البلاغي التمثيل أو المماثلة.

          ومع ذلك فقد كان حلم الشعراء لا يعبأ بالتنظيرات، فكانوا يتراكضون إلى ساحة السيرورة لمنافسة الأمثال. وبذا ترشحت تلك التقاطعات، وظهرت تلك اللمعات التنظيرية التي تشير إلى هذه الروافد التي يلتقي عندها كلا الفنين. هذا الالتقاء والتقاطع الذي يَمثل في ذهن الشاعر عند الإبداع وتشكيل النص. يقول المتنبي:

                           قوافٍ إذا سرن عن مقولي              وثبن الجبال وجبن البحارا

وهو القائل إنه إذا قال شعرًا »أصبح الدهر منشدا» . ويقول الشاعر الحصين المري:

وقـافية غير أنسيـة             قرضْتُ من الشعر أمثالها

شَرُورٍ تلّمعُ في الخافقين                إذا أُنشدتْ قيل من قالها

فها هي القافية التي ينحتها صاحبها من الشعر فتأتي، وهي شعر، بالأمثال. تلك الأمثال التي تشرد، فيتباهي بها إذ تثير الناس، وتتجول بينهم، فُيسأل لفرط حسنها وتميزها واختلافها: من قالها؟.

          فالقافية التي يفخر الشاعر بها، على الرغم من أنها هي التي منحته سمة تفرده كشاعر إلا أنها هي ليست إنسية، أي ليست خاصة بأحد، انطلقت من عقال خصوصيته لتلتحم، وتلتحق مثل الأمثال الشاردة بوجدان الناس وضميرهم العام، فتصبح لفرط شعبيتها بلا هوية تعرف، فلا تنتسب للشاعر ولا لبشر بعينه، وما السؤال: من قالها؟ سؤال عن القائل- كما يبدو- وإنما هو تعبير عن فرط جمالها وتميزها.

          وما دمت أتحدث عن رافد السيرورة ، الذي يتنافس عليه كل من الشعر والمثل ، ويتقاطعان عنده من المهم أن أشير إلى  أنهم تنبهوا إلى  أن السيرورة ليست القول الفصل في فنية المثل. فقد تتداخل عوامل أخرى لتسيير المثل وتتحكم به مواضعات خارجية. وهذه الإشارة الفريدة نجدها عند الجاحظ وعند أبي عبيدة مَعمْر بن المثنى .

          أما الجاحظ فقد تنبه إلى سلطان الحظ على شهرة الآثار الأدبية ودورانها وخاصة المثل في إشارة سريعة له في كتابه الحيوان([37])، وأما أبو عبيدة فقد أبدى تعجبه ودهشته من تسيير العرب لبعض أمثالها، وبعضها _ كما يرى- أحق فنيًا بالتسيير منها([38]).

          ولكن لماذا - إذًا - تسير الأمثال ويسير الشعر ؟ يبدو أن لهذا ارتباطًا وثيقًا بالجانب الوظيفي لكليهما. وهذا هو التقاطع التالي الذي يلتقيان عنده.

 

الجانب الوظيفي:

          مرت بعض الأقوال التي نصت على أن الغرض من الشعر والمثل التسيير. والتسيير بالضرورة يرتد في جانب منه إلى الجانب الوظيفي وإلى الأثر المتوقع من كليهما على الملتقي.

          ونصوص المدونة التراثية التنظيرية تلح على الجانب الوظيفي لكل منهما فكثيرًا ما ربط الشعر بأثره على المتلقي، استنادًا إلى ما يجب أن يعمله أو ما يتوقع أن يعمله. وكثير من المنظرين استندوا إلى  الأساس النفسي لعملية التأثير. ويبدو الجانبان النفعي والجمالي متواشجان معًا. فالشعر يصل إلى أغراضه ومقاصده للقبض والبسط أو للتحسين والتقبيح أو الترغيب والتنفير عن طريق الأداة الفنية، التي تشبع جانب الحس الجمالي لدى المتلقي عن طريق التخيل والمحاكاة. ومن هنا كانت تتردد العبارات عن الالتذاذ والقبول للشعر والمثل. ولقد مرّ نص المرزوقي الذي جعل سمة القبول جزءًا من تعريفه للمثل([39])، ومثله أبو إبراهيم الفارابي في تعريفه للمثل حيث ربط صفة السيرورة بصفة القبول والتداول، وجعل صفة القبول والتداول هي الفاصل بينه وبين ما سماه النادرة.  يقول:

»المثل ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه فيما بينهم، وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به المتمنع من الدر، وتوصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا عن الكرب المكربة. وهو من أبلغ الحكمة، لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجود، أو غير مبالغ في بلوغ  المدى في النفاسة. والنادرة حكمة صحيحة تؤدي ما يؤدي عنه المثل إلا أنها لم تشع في الجمهور، ولم يختزنها إلا الخواص ، وليس بينها وبين المثل إلا الذيوع وضده.».([40])

          وربما تبدو صفة القبول والتداول هنا مرتبطة بالجانب النفعي أكثر من ارتباطها بالجانب الفني والأثر الجمالي على نفس المتلقي. لكن هذا الأثر الجمالي للمثل يبدو مصرحًا به وأكثر وضوحًا في نص للترميذي يُظهر كيف يتواشج الجانبان النفعي والجمالي للمثل، فالنفعي عند الترمذي يتحول بالمثل إلى أداة للعيان أو المعاينة اليقينية للميتافيزقي. والجمالي  يوضحه مدى التذاذ النفس عن طريق الأدوات الفنية في المثل للوصول إلى ذلك الإدراك والمعاينة . يقول:

»فالأمثال نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار لتهدي النفوس بما أدركت عيانا.......... فالأمثال مرآة النفوس، والأنوار - أنوار الصفات- مرآة القلوب. وإن الله - تعالى - جعل على الأفئدة أسماعـًا وأبصارًا، وجعل في الرؤوس أسماعـًا وأبصارًا، فما أدركت أسماع الرؤوس أبصارها أيقن به القلب، واستقرت النفوس .. وانشرح صدره بذلك.... ... فإذا أخذت النفس في التذبذب والتمايل والاهتشاش إلى ما تصوّر وتمثل لها في الصدر تحرك القلب وتمايل هكذا وهكذا من وصول تلك اللذة إليه ..... فإذا ضربت لها الأمثال صار ذلك الأمر لها بذلك المثل كالمعاينة، كالذي ينظر في المرآة فيبصرُ فيها وجهه، ويبصرُ بها مَنْ خلفه. لأن ذلك المثل قد عاينه ببصر الرأس. فإذا عاين هذا أدرك ذلك الذي غاب عنه  بهذا ؛ فسكنت النفس وانقادت للقلب واستقرت تحت القلب في معدنها... ».([41])

                ويبدو الجانب الجمالي أيضًا مصرحًا به كذلك في نص للزمخشري ينصُّ فيه على سمة الإغراب والتعجيب أو الإدهاش في المث رل كشرط للسيرورة والقبول يقول:

          » والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النضير، يقال مِثُل ومَثَل ومثيل كشِبْه وشَبَه وشبيه ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير ولا جديرًا بالتدوال والقبول إلا قولاً فيه غرابةٌ من بعض الوجوه، ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير. وقد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة..... ».([42])

          فالغرابة أو التعجب - كما نرى - يعودان إلى  إرضاء الحس الجمالي أو الذائقة الجمالية لقبول المثل فنيًا ثم شرطـًا بالتالي لدورانه وانتشاره، فالعلاقة بين السيرورة والجانب الوظيفي للمثل بشقيه النفعي والجمالي علاقة طردية مطّردة كما يظهر من نص الزمخشري.

          وتبدو صفة الغرابة أو الإغراب مرتبطة بالمثل ومرتبطة بالجانب الوظيفي،  حتى إننا نجدها كذلك عند متأخرين مثل حازم القرطاجني والسجلماسي . يقول حازم في حديثة عن الأمثال: » وأما الحكم والأمثال ، فإن يكون الاختيار فيها بجري الأمور على المعتاد فيها، وإما بزوالها في وقت عن المعتاد، عن جهة الغرابة أو الندور فقط، لتُوطَّن النفس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه، إذ لا يحسن منها التحرز من ذلك، ولَتْحذَر ما يمكنها التحرّز منه ويحسنُ بها ذلك ، ولتُرغَّبَ فيما يجب أن يرغب فيه، وتُرهَّبَ فيما يجب أن ترهبه، ولَيقْرُبَ عندها ما تستبعده، ويبعد لديها ما تستقربه، وليبين لها أسباب الأمور ، وجهات الاتفاقات البعيدة الاتفاق بها . فهذه قوانين الأحكام والأمثال قلما يشذ عنها من جزئياتها شيء».([43])

                وواضح من نص حازم السابق الإلحاح على الجانب النفسي والنفعي معًا من المثل. أما السجلماسي فيقول خلال حديثه عن المماثلة أو التمثيل ( والأفعال أو الأقاويل المثلية عنده تدخل في هذا النوع التمثيل ):

          »والمماثلة هي النوع الثالث من جنس التخييل وحقيقتها التخييل والتمثيل للشيء بشيء له إليه نسبة وفيه منه إشارة وشُبهة ، والعبارة عنه به ، وذلك أن يقصد الدلالة على معنى فيضع ألفاظًا تدل على معنى آخر، ذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قُصد الدلالة عليه، فمن قبل ذلك كان له في النفس حلاوة ومزيد إلذاذ».([44])

          ويشير إلى دور الغرابة في إحداث اللذة: » والدلالة على الشيء بالكنابة وطريق المَثل إنما هو بطريق الشبه، والشبه.. هو أن يكون في الشيء نسبته من شيء أو نَسبٌ، وبالجملة هو أن يكون الشيئان في الواحد - بالمشابهة أو المناسبة - الموضوع للصناعة الشعرية فيوضَع أحدهما مكان الآخر ويُدَلَّ عليه، ويُكَنّى به عنه، وفيه - أعني في الواحد بالمشابهة أو المناسبة - المكنى به ، ما فيه من غرابة النسبة والاشتراك وحسن التلطف لسياقة التشبيه على غير جهة التشبيه، وفي التخييل بذلك كذلك مافيه من بسط النفس وإطرابها للإلذاذ والاستفزاز الذي في التخييل».([45])

          وواضح أنه على الرغم من أن المثل ارتبط عند كثيرين بالغاية النفعية وهي نفعية أخلاقية أو وعظية في بعض الأحيان، وعلى الرغم من خلطه بمصطلح التمثيل وتحويله إلى أقيسة وأدلة ترد العقلي إلى المحسوس - على الرغم من هذا فقد ظلت للأمثال غايتها الجمالية ، وتنبه المنظرون إلى تداخل التخييل بالدليل الإقناعي وتشابكهما معًا في الجانب الوظيفي للمثل.

 

التخييل والمحاكاة :

          ارتبط المثل بالتشبيه منذ الطور الأول لتعريفه وتحديد مفهومه، كما ارتبط أيضًا بالكناية، وقامت تحققاته الفعلية في بعض الأحيان على الاستعارة.وهذه إمكانيات بلاغية ارتكز عليها  الشعر أيضًا. ولكن لم تتواتر نصوص تعريف الشعر كلها التأكيد عليها في صلب التعريف، على حين تواترات النصوص لتعريف المثل التأكيد على شرط التشبيه . وليس غرض هذه المقارنة إلا الإشارة إلى مدى قرب المثل في أذهان القدماء من الأدوات التي يركز عليها الشعر واشتراكهما في تلك الأدوات والإمكانيات البلاغية .

          وفي هذا الموضع بالذات موضع النص على التقاء الاثنين معًا عند تلك الأدوات الفنية كما عرضته النصوص التنظيرية سأتوقف عند أبرز نصين من تلك النصوص أشارا إلى التخييل والمحاكاة فيهما. وهما نصان للقرطاجني وللسجلماسي اللذين طرحا مصطلحًا الذي أخذ يتبلور وينضج ويزداد وضوحًا، وهو مصطلح القول المثلي، وهو فيما يبدو عند كليهما جزء من القول الشعري عامة.

          يقول حازم القرطاجني: » فما كان من الأقاويل القياسية مبنيًا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولاً شعريًا سواء كانت مقدماته برهانية أوجدلية أو خطابية يقينية أو مشتهرة أو مظنونة .... وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي، وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر يماثله نحو قول حبيب:

أخرجتموه بكره من سجيته             والنار قد تنتضى من ناضر السلم

فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع ، شعرية بكونها متلبسة بالمحاكاة والخيالات».([46]) ثم يعقب قائلاً :

» والاستدلالات الواقعة في الشعر و الأمثال المضروبة فيه تجيء تابعة لبعض ما في الكلام أو لما قد أشير إليه مما هو خارج عنه ، فهي إما محاكاة لمتبوعاتها أو تخييلات فيها أو من أجلها، فكثير من الأمثال أيضًا يكون قولاً شعريًا، ويكون منها ماهو قول حق، ومنها ماليس بحق كما كان ذلك في المحاكاة     والاستدلالات.». ([47])

          ومن المهم لمناقشة نص حازم التذكير بأن حديثه يندرج تحت القول الشعري عامة، وإن كان يمكن أن يفهم من حديثه عن الأمثال تلك التي يمكن أن تنشأ في الشعر ( أي ما أسميه إمكانية بلاغية أو الأمثال بالقوة ) تلك التي يتضح قرنه إياها بما يسميه التمثيل، وهو يرتد عنده إلى التمثيل القياسي الخطابي، ومن هنا فالقول المثلي عنده خطبي شعري، خطبي بإقناعه وأدلته، وشعري من حيث التباسه - كما قال- بالمحاكاة والخيالات.

          ولاتساع هذا النوع في المحاكيات الشعرية - كما قال - يرى أنه من الواجب أن » توضع قوانين لها أكثر مما وضعت الأوائل»([48]) ويقول مباهيًا:

          » ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظًا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها وفي إحكام مبانيها واقتراناتها، ولطف التفاتاتهم واستطراداتهم ، وحسن مآخذهم ومنازعهم ، وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاؤا لزاد على ماوضع من القوانين الشعرية. ». ([49])

          ويقول في موضع آخر مشيرًا إلى المحاكاة في الأمثال:

          » ولهذا نجد المحاكاة أبدًا يتضح منها في الأوصاف الحسنة التناسق المتشاكلة  الاقتران المليحة التفصيل، وفي القصص الحسن الاطراد ، وفي الاستدلال بالتمثيلات والتعليلات، وفي التشبيهات والامثال والحكم ، لأن هذه أنحاء من الكلام قد جرت العادة في أن يجهد في تحسين هيآت الألفاظ والمعاني وترتيباتها فيها ».([50])

          فالقرطاجني - كما نرى - يضع الأمثال ضمن الأقاويل الشعرية، ويدرجها ضمن الفنون المحاكية.

          أما السجلماسي فالأمثال والقول المثلي عنده داخلان ضمن نوع المماثلة أو التمثيل تحت جنس التخييل ، والتخييل عنده هو الجنس الثاني تحت علم البيان، الذي هو عنده علم النظر في العبارة البلاغية عامة لإعطاء القوانين الكلية العامة للخطاب الأدبي بأنواعه كلها .

 يقول :

          » والمماثلة هي النوع الثالث من جنس التخييل وحقيقتها التخييل والتمثيل للشيء بشيء له إليه نسبة وفيه منه إشارة  وشبهة والعبارة عنه به، وذلك أن يقصد الدلالة على معنى فيضع ألفاظًا تدل على معنى آخر ، ذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الدلالة عليه . فمن قَبِلَ ذلك كان له في النفس حلاوة ومزيد إلذاذ...........».([51])

                ثم قال في آخر حديثه عن هذا النوع : » وفي هذا النوع تدخل الأقاويل المثلية ، أعني المثل السائر في ثاني حاليه، أعني إذا نُقل عن أصله متمثلاً يه كقولهم: » تسمع بالمعُيدي لا أن تراه » لمطابقة حد المماثلة لدامي تلك الحال فقط دون اعتبار أصله وأول حاله..«.([52])

                ومن خلال هذه النظرة النافذة إلى طبيعة التمثيل، والتمثل بالمثل ينبه السجلماسي إلى الخلط بين الأقاويل المثلية والأقاويل الحكمية ويوضح الفرق بينهما استنادًا إلى ما يمكن تسميته المضرب والمورد كعلامة فارقة بين المثل والحكمة. وهذه ملاحظة نافذة وبالغة الدقة ومتقدمة زمنيًا ؛ حيث أشار المتأخرون في عصرنا إلى مثل هذا الخلط([53])، فكان للسجلماسي السبق في التنبيه إليه وإلى اقتراح السمة الفارقة .

          ويبدو السلجماسي في تلك الإشارة وكأنما كان يطور تلك اللمعة الخاطفة لابن رشيق حين لمح إلى أن المثل غير التمثيل حيث يقول:

» وأما قولهم في تفسير ما يقع في الشعر من جنس قول الحطيئة:

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

هو مثل فإنما ذلك مجاز أرادوا التمثيل، وهذه الأشياء نبذ تستحسن ونكت تستطرف مع القلة وفي الندرة......».([54])

          إن هذه النصوص التي تجمع المثل مع الشعر في رافد التخييل والمحاكاة تشير إلى المرتكز النظري الذي يستند إليه هؤلاء، وهو التقاء الاثنين - ضمن التقاء الأنواع الأدبية تحت شجرة الأدبية- في التخييل، ولكن الفارق بين الأنواع هو فارق في النسبة فقط. والشعر والمثل خاصة يركز على بعض الأدوات الفنية البلاغية أكثر مما يفعل غيره ، كما أن نسبة ترددها فيه أو ضرورة وجودها فيه تبدو أكثر من غيرها مقارنة ببقية الأنواع.

           ومن هنا جاء التركيز على جانب التخييل على اعتبار أنه يحققّ الغاية لكل منهما . فالتخييل يفيد ويثري المعرفة والخبرة الإنسانية والملكة الجمالية عن طريق التخييل والمحاكاة، أي أنه بما هو حديث عن أخص خصائص التشكيل الفني الإبداعي لكل منهما فهو أيضًا - ومن وراء ذلك - حديث عن الجانب الوظيفي لكل منهما، وقد سبقت الإضاءة على الأساس النفسي والجمالي في رافد آخر هو الجانب الوظيفي لكل منهما.

 

الجانب الإيقاعي:

          قد يبدو من غير المتوقع القول إن ثمة تقاطعًا بين الشعر و المثل في الجانب الإيقاعي ، وإن كانت معرفتنا المباشرة بالأمثال تؤكد أن للمثل جانبه الإيقاعي المتمثل في الشكل التناظري المسّجع، الذي غالبًا ما يكون ثنائيًا لا أكثر بحكم شدة الإيجاز والاقتصاد في عبارة المثل. ولكن، مع هذا الذي يمكن أن نعرفه ونلاحظه في الأمثال ، هل ثمة نص تنظيري يشير إلى هذا ؟

          لقد مرت إشارة ابن رشيق عن وزن المثل شعرًا ليشرد - كما قال([55]) وفيها إشارة واضحة إلى ترافد الشعر والمثل، حيث الشعر يستعين بالمثل ليسير، والمثل يتكئ على خصيصة شعرية وهي الوزن والايقاع ليشرد. لكنها لمحمة لا نستطيع أن نقّولها أكثر مما تقول. ولكن ثمة نص للكَلاَعي في كتابه ( إحكام صنعة الكلام ) ينص فيه على هذا الجانب الإيقاعي للمثل يقول :

» والأمثال على ضربين: منها ما عُقد بالسجع، ومنها مالم يعقد بالسجع. ».([56])

          ونص الكلاعي هذا مهم لأنه النص الوحيد - حسب حدود علمي - الذي يشير إلى الجانب الإيقاعي في صلب التعريف به والتنظير له.

          إن المثل بما فيه أحيانًا من تناظرية، هي في الغالب ثنائية، فإن تلك الثنائية الموقّعة تجعله شبيهًا بالبيت الشعري الذي ينقسم إلى  شطرين . والجميل في إيقاعية المثل أن السجعة الثانية ما إن تحل حتى يكتمل بها معنى المثل، وتنغلق دائرة الشكل المثلي كله. وربما من هنا ، من هذا الإيجاز الشديد، وهذه الدائرة التي تنغلق بإنغلاق مصراع السجعة الثانية، ومن هذا التشبه بالمثل إذ يحمل فينته ويطير - جاء ذلك الذوق الذي ساد في تراثنا ومازال يهيمن على بعض المعاصرين أيضًا ، وهو استجادة البيت المفرد. تلك الاستجادة التي ساقت إلى المناقشات حول أجمل بيت أو أشعر بيت أو أشهر بيت ...ألخ.

            وربما أشرت  ، مكانة المثل وطبيعته المشار إليها - أعني اكتمال معناه وانغلاق دائرته الشكلية -  فيما يسمى » التضمين » في أحد معانيه، وهو كراهة تعلق البيت بالبيت الذي يليه. وكأن اكتمال دائرة المعنى في البيت الواحد وإحكام إغلاقه مقياس للبراعة والجودة براعة تتشبه بالبراعة المثلية الموجزة، نعم يتم التشبه بالمثل، هذا القسيم المنافس!!

          وقد أدهشني وأنا أعد هذا البحث، وفي هذا الرافد بالذات (التقاطع في الجانب الإيقاعي) أن أعثر على هذه الإشارة المهمة . يقول الدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه (الأمثال في النثر العربي القديم) متحدثًا عن أصل المثل اصطلاحًا بعد أن لاحظ أن الساميين يطلقون لفظ » مثل » على أشكال كثيرة من بينها ما كان يتناول صورًا شعرية يقول : » عرفنا فيما سبق الأشكال القديمة التي أطلق عليها الساميون لفظ »مثل»  وكانت تتناول صورًا شعرية حينًا ومرسلة حينًا آخر . وقد وقف الباحثون القدماء والمحدثون أمام هذه الأشكال، يبحثون عن أصل العلاقة بينها وبين هذا اللقب الذي خلعه عليها الساميون لفظ » مثل» وهو اللقب الذي أطلق على تلك الأشكال على اختلافها . وذهبوا في الإجابة عن هذه المسألة مذاهب شتى . وفيما يلي نذكر أهمها:

  1. رأي ب. هاوبت P.Haupt  أن الصلة بين المثل والشعر قديمة في تاريخ الآداب السامية وغير السامية ، وأن أقدم الأمثال التي وصلت إلينا في النقوش الشوميرية وفي أسفار التوراة ، كانت في الأغلب الأعم موزونة العبارات على الطريقة الشعرية السامية التي يطلق عليها توازن الأشطار Parallelismus membrorum . والمثل فيها يتألف - على الأقل - من شطرين متساويين. ثم وجد الباحث أن ظاهرة الشعر قديمة جدًا في الآداب السامية ، فرجح أن يكون هناك علاقة أساسية بين لفظ مثل وبين الشعر في الاصطلاح الأقدم . وافترض أن منشأ هذه التسمية راجع إلى معنى التسوية بين شطري العبارة، واستند إلى معنى المساواة الذي يفهم من استعمال اللفظ في اللغة ، وإلى اللفظ الأشوري mislani الذي يدل على »الأجزاء» فمن هذا الاستعمال أطلق الساميون لفظ مثل على السطر أو البيت من الشعر الذي يتألف من شطرين متساويين. »([57]).

وعلى الرغم من أن الباحث رأى أن هذا رأي بعيد الاحتمال إلا أني أرى أن له أهمية كبيرة هنا في هذا المقام الذي أتحدث عنه. إنه إذا ما رفدت هذا القول بأن المثل أطلق على بعض النصوص العبرانية القديمة على الأنشودة والترنيمة، كما أطلق على ثلاثة آلاف مقطوعة غنائية منسوبة إلى سليمان عليه السلام، وأطلق على بعض المزامير التي تتغنى بالتعاليم الدينية - وحاولت أن تجد له بعض النظائر في العربية أيضًا لوجدتهم يقولون: تمثل الرجل أي أنشد بيتًا ثم آخر ثم آخر...([58])

          إن هذا كله يعيدنا إلى ذلك الاحتمال القوي للجذر الشعري أو للمنبع الشعري الذي يغرف منه كل من الشعر والمثل. وإذا كان هذا الأصل القديم قد نسي أو تنوسي بإرسال الأمثال فإن تحرر المثل من الوزن أعطاه حرية تجعله يقرب المسافة بين التجربة الإنسانية والأداة التعبيرية المطلقة. فكثيرًا ما شكا المبدعون والنقاد أحيانًا من أن الوزن والقافية يخنقان التجربة، ويقيدان في قالب النمطية؛ فتحرر المثل يهيء له الأجواء التي تحلم القصيدة أن تطير إليها في نعيم حريتها وليس العكس.

          وربما كان المثل بإيجازه واقتصاد عبارته -إن خلا من الإيقاع - قد استطاع بذلك أن يعوض جانب الوزن الذي يساعد على الحفظ ، حيث ساعد إيجازه، مع ما فيه من جمالية خاصة، على أن يحفظ وينتشر ويتداوله الناس، فكان بهذا أقرب الفنو

 


 (1) فاطمة الوهيبي ، نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين ( الرياض دار العلوم، ط ا ، سنة 1411هـ - 1991) ، ص 209 - 216

(2) المصدر السابق ص209-216

(3) الميداني، مجمع الأمثال، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ( مكتبة السنة المحمدية 1374 هـ/1955م) خ1/5.

(4) المصدر السابق، ح1 /6

(5) ينظر مثلاً ما أورده من أقوال الميداني في مجمع الأمثال ح1 / 6،5 ، والزركشي في كتابه اليرهان في علوم القرأن . تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم )القاهرة، البابي الحلبي ط .الأولى 1376هـ/ 1957م) ح1/ 488 - 491

(6) الرامهرمزي،أبو الحسن بن عبدالرحمن، كتاب أمثال الحديث علق عليه أحمد تمام (بيروت مؤسسة الكتب الثقافية 1409هـ /1988م) ص8

(7) الترمذي، الأمثال من الكتاب والسنة، تحقيق علي محمد البجاوي. ( القاهرة دار نهضة مصر الفجالة. [1395- 1975]) ص 62

(8) المصدر السابق ص4

(9) المصدر السابق ص2

(10) الزمخشري، أبو القاسم جار الله ، الكشاف تحقيق محمد صادق قمحاوي ( القاهرة مطبعة البابي الحلبي. 1392هـ ) ح1/ 195

(11) ابن قيم الجوزية ، الأمثال في القرآن الكريم تحقيق سعيد الخطيب ( بيروت دار المعرفة ط. الثانية 1403 هـ / 1983) ص173-174

(12) الزركشي، البرهان في علوم القرآن الكريم ح1/488

(13) ينظر على التوالي : نقد الشعر، تحقيق س. أ. بونيباكر ( ليدن مطبعة بريل 1956م) ،ص 90-91، البرهان في وجوه البيان تحقيق د.حفني محمد شرف (القاهرة مطبعة الرسالة [1389هـ/1969م] ) ص67 ، 68، 117، مواد البيان تحقيق د. حسين عبداللطيف (طرابلس منشورات جامعة الفاتح 1982م) ص245، حيث يعرف المثل بالتشبيه، ثم ينظر حديثه عن الاستدلال في التشبيه ص 184 -185 ، ينظر مثلاً دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر (القاهرة مكتبة الخانجي [1404هـ/1984م]) ص65 ، 71 -73، وأسرار البلاغة تحقيق هـ.ريتر (بيروت،دار المسيرة ط الثالثة سنة 1403هـ/1983م) ص208 ، 218 ß225  وماحولها ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة (بيروت دار الغرب الإسلامي.ط.الثانية 1981م) ، ص66.

(14) كتاب الخطابة لأرسطو، ترجمة د. عبدالرحمن بدوي (بغداد دار الشؤون الثقافية ط.الثانية 1986م) ص248

(15) ينظر مثلاً كتاب الأمثال في النثر العربي القديم د. عبد المجيد عابدين (القاهرة ،دار مصر للطباعة ط. الأولى 1956م) ص158

(16)  المنزع البديع، تحقيق علال الغازي ( المغرب، مكتبة المعارف ط. الأولى 1404هـ /1980م) ص 249

(17) ابن عبد ربه، العقد الفريد تحقيق محمد سعيد العريان. (القاهرة، دار الفكر 1359هـ/1940م) ح3 ص2

(18) التوحيدي الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين ( القاهرة، لجنة التأليف والنشر 1953م ) ح2 / 140

اللقاح : جمع لقحة وهن ذوات الألبان من النوق، والعلاب جمع عُلْبَةٌ وهو القدح الفخم من جلود الإبل أو من الخشب وقيل العلاب جفان تجلب فيها الناقة.

(19) مجمع الأمثال ح1 ص2

(20) مقدمة شرح ديوان الحماسة نشره أحمد أمين ، عبد السلام هارون ( القاهرة ، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط. الأولى 1371هـ/ 1951 م ) ح1 ص9

(21) المصدر السابق ح1 ص 10

(22) ابن رشيق العمدة، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ( بيروت، دار الجيل ط. الرابعة 1972 م ) ص 195

(23) مواد البيان ص 245- 24

(24) المبرد، المقتضب ، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة(القاهرة ، المجلس الأعلى لشؤون الإسلامية 1385 -1388هـ)  ح4/ ص261

(25) السيوطي المزهر، تحقيق محمد أحمد جاد المولى و محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي ( القاهرة ، البابي الحلبي د.ت) ح1 / 486- 487

(26) ابن جني ، المحتسب تحقيق د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي ( دار سزكين للطباعة والنشر، ط. الثانية 1406هـ ) ح2/70

(27) المنة : القوة وخصها بعضهم بقوة القلب.

(28) الأصفهاني ، الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة . تحقيق عبد المجيد قطامش ( القاهرة ، دار المعارف ط. الثانية [1976])  ح1/ 59

(29) أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش ( القاهرة المؤسسة العربية الحديثة ط. الأولى 1384هـ / 1964م) ح1 / 7

(30) مواد البيان ص 245

(31) ينظر كتاب الأمثال في النثر العربي القديم عبد المجيد عابدين ص9

(32) كتاب الصناعتين، تحقيق د. مفيد قميحة ( بيروت، دار الكتب العلمية ط. الأولى 1401هـ / 1981م) ص155

(33) العمدة ، ص 195

(34) العمدة ص 196

(35) العمدة لابن رشيق ص199 والعناج : جذب الراكب خطام البعير، والعناج ما عنج به من خطام ونحوه.

(36) ينظر نص قول قدامة بن جعفر حيث يقول مناقشًا جمال التمثيل في قول الرماح ابن ميادة:» ومن نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى التمثيل هو أن يريد الشاعر إشارة إلى معنى فيضع كلامًا يدل على معنى آخر، وذلك المعنى الآخر والكلام منبئان عما أراد أن يشير إليه مثال ذلك قول الرماح ابن ميادة:

ألم تك في يمنى يديك جعلتني  فـلا تجعلني بعـدها في شمالكـا

ولوأنني أذنبت ما كنت هالكًا على خصلة من صالحات خصالكا

= فعدل عن أن يقول في البيت الأول أنه كان عنده مقدمًا فلا يؤخره، أو مقربًا فلا يبعده، أو مجتبى فلا يجتبه إلى أن قال إنه كان في يمنى يديه فلا يجعله في اليسرى ذهابًا نحو الأمر الذي قصد الإشارة إليه بلفظ ومعنى يجريان مجرى المثل. وقصد الإغراب في الدلالة والإبداع في المقالة « نقد الشعر ص90 وعن شرط الغرابة في المثل قول الزمخشري في الكشاف: والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير، يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أصلاً للتسيير ولا جديرًا بالتداول والقبول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه، ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير» الكشاف ح1 ص 195

(37) الجاحظ،  الحيوان تحقيق عبدالسلام محمد هارون . ( القاهرة ، د.ن 1385هـ 1965م) ح2/ 102

(38)الأصفهاني، الدرة الفاخرة ح1/ 88

(39) ينظر  رافد الضرورة في هذا البحث.

(40) الفارابي، ديوان الأدب . تحقيق د. أحمد مختار عمر وراجعه د.إبراهيم أنيس( القاهرة، مجمع اللغة العربية 1394هـ / 1974م) ح1 ص 74

(41) الترمذي، الأمثال من الكتاب والسنة ص 2-4

(42) الزمخشري ، الكشاف ح1 ض 195

(43) منهاج البلغاء ص 389 القسم الخاص بالملحق من كلام حازم مما ليس في مخطوطة الكتاب، وهو الجزء الذي أورده الزركشي في كتاب البرهان في علوم القرآن في 1، 491

(44) المنزع البديع ص244

(45) المنزع البديع ص 244

(46) منهاج البلغاء ص66

(47) المصدر السابق.

(48) منهاج البلاغاء ص 68

(49) منهاج البلغاء 69

(50) منهاج البلغاء 91

(51) المنزع البديع ص242

(52) المصدر السابق ص 248

(53) أعني رودلف زلهايم في كتابه الأمثال العربية القديمة. ترجمة رمضان عبد التواب ( بيروت، مؤسسة الرسالة .ط. الثالثة 1404 هـ - 1984م) ص26 وكذلك الباحث عبد العظيم المطعني في بحثه » الحكمة والمثل والتمثيل نظرات في أصولها وخصائصها البلاغية » المنشور عام 1404هـ في مجاة بحوث كلية اللغة العربية العدد 2 ص 148.

(54) العمدة لابن رشيق ص 199

(55) انظري  رافد السيرورة ص     من هذا البحث

(56) الكلاعي، إحكام صنعة الكلام تحقيق محمد رضوان الداية. ( بيروت، دار الثقافة ) ص182- 183

(57) د.عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم ص 15

(58)  المصدر السابق ص13