يبدو أن السؤال عن الكرامة الإنسانية كان ومازال مُقلِقًا للناس بمختلف أطيافهم قديمًا وحديثًا ، ومعظم حركات التحرير كانت في البدء تساؤلاً عن الكرامة ثم تحولت إلى ثورات وحروب.
ولا شك أن فكرة الكرامة الإنسانية موصولة بمحور العبودية بكل أشكالها واستلاباتها كانت موضوعًا مهمًا للمصلحين والشعراء والفلاسفة وللأنبياء من قبلهم .
ومن الفلاسفة الذين ألفوا في هذا الموضوع مارسيل جبرييل المولود في باريس سنة 1889م . فقد ألف سنة 1964م كتابه ( الكرامة الإنسانية ) الذي طرح فيه أسئلة تتناول مفهوم الكرامة مربوطًا بمفهوم الاستقلال الذاتي خاصة مع حضور فكرة الاستعباد للآلة ولأفكار التملك وازدياد البيروقراطية ونمو النزعة المركزية . يورد مارسيل جبرييل قولاً لسيوران يقول فيه : " إن المدينة تعلمنا كيف نتعلق بالأشياء ، مع أن واجبها أن تلقننا فن التخلي عن الأشياء ، لأنه لن توجد حرية ولا حياة حقيقية بدون تعلم التخلي وعدم الامتلاك . إني أستولي على شيء وأحسب نفسي سيدًا له ، والواقع أني عبد له ، كما أني عبد أيضًا للآلة التي أصنعها وأديرها. "
ولأن العلاقة وثيقة بين زيادة الآلية وزيادة البيروقراطية مما يؤدي إلى تفاقم نزعة المركزية فإنه يمكن القول إن التكنوقراطية والمركزية أمران متلازمان . وهما مما يحد من نمو الفردية , ولذلك يوضح مارسيل قائلاً : " لكن هذا اللفظ [ يعني نمو الفردية ] لا يتخذ معناه الحقيقي إلا بشرط وضع تكامل الموجود الإنساني كقيمة مركزية ـ وهذا التكامل هو المهدد مباشرة اليوم ... ومن الممكن أن نبين أن التكامل والكرامة حدان وإن لم يكونا شيئًا واحدًا فإنهما مرتبطان ارتباطًا لا انفصام له . "
وفكرة التكامل عند مارسيل تقابل قولنا إن الإنسان مالك لنفسه ومحصن ضد فقدان الذات وأنواع الاستلاب الذي يقوم به ازدياد سلطان عصر الآلة الجهنمي , ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بمواجهة التحدي التكنوقراطي من خلال توكيد معنى الإنسانية في الإنسان وتوكيد حريته . وهذا ما يجعل مارسيل ينتقد فكرة إن الإنسان حر بالفطرة والطبيعة مثلما ينتقد فكرة روسو بأن الإنسان يولد حرًا . ويرى أن لحرية أمر يسعى الإنسان للظفر به , وإنه يتحقق بالاكتساب والسعي . ويرى أن أكثر الناس حرية هم أكثرهم إخاءً . وبما أن كل إنسان مهدد بأن تحركه مصالحه وأهواؤه فإنه سيصبح سجين ذاته ، ولكن " الإنسان المؤاخي ... يثرى بكل ما يثرى منه أخوه بسبب ما بينه وبين أخيه من مشاركة . " . ويشرح د. بدوي فكرة الإخاء عند مارسيل من خلال فكرة الرجاء فيهم ويقول إن الإخاء والرجاء متواكبان . ومعنى الرجاء في الآخرين أن " يتجاوز المرء عما في سلوكهم من باعث في النفور أو اليأس . والتجربة تدل على أن هذا الرجاء الذي تحمله فيهم يسهم في تحويلهم . لكن لو أننا حبسناهم بالفكر فيما يتبدى لنا أنه طبيعتهم فإننا نشارك في العمل على تحجيرهم في طبيعتهم , وبالتالي في زيادة الحواجز بين الناس . إن الرجاء في الغير هو الصورة السليمة للرجاء ، لأن الرجاء يخلص الإنسان الفرد من الحتمية الباطنية التي تسيطر على ذاته . "
ويبدو أن لسارتر تأثير على مارسيل في هذه المسألة . فسارتر الذي يرى أن الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا ، وأن الحرية تعود إلى افتقار جذري , وأنها نقص تام . وفي مثل هذا المنظور الوجودي " يميل المرء إلى تحديد الإنسان الحر بأنه الإنسان الذي لا جذر له ... وهذا يترجم ... في الأدب ... بنوع من التآخي الغريب بين ما هو معقول وما هو صعلوكي ، وليس إلا باستعراض كل موارد البهلوانية الديالكتيكية التي يصعب الانخداع بها ... ليس إلا بهذا يمكن الوصول إلى تحويل الفوضوية التي تحدد بهذا التآخي إلى ماركسية مبتدعة . "
ولذلك ومن منطلق فحص الفكرة الماركسية ومبدأ المساواة فإن مارسيل يفرق أيضًا بين مقتضيات الحرية ومقتضيات المساواة , ويناهض فكرة المساواة لأنه يراها قائمة على الأنانية ويعتقد أن الحقد يعد أحد دوافعها العميقة الدفينة , ويستبدلها بفكرة الإخاء الذي هو في طبعه غيري . ولأن الإخاء يفترض الفروق والاختلافات , ويفترض أن الإشعاع الصادر عن الآخرين ينعكس على النفس . يقول في هذا الصدد : " مادمنا إخوة فإن اللمعان المنبعث عن مواهبك وأفعالك وأعمالك يرتـد عليّ وبعبارة أبسط : " أنا فخور بك " وهو أمر لن يكون له معنى إذا كنت أحافظ على تقرير أنني مساوٍ لك في كل شيء ."
إن مقاومة فكرة التملك وفكرة استعباد الإنسان وسيطرة الآلة ، وسيطرة فكرة الذات مما يكبل مبدأ الحرية الذي لا يتحقق إلا من خلال التآزر والتآخي _ فكرة فلسفية عميقة ، وإن رآها بعض الناس فكرة رومنسية وغير صالحة لهذا العصر الذي يلتهم الفرد ، ولا يحوله لمجرد عبد فحسب , وإنما يحوله إلى شبح إنسان يضمحل وتضمحل قيمه في سعير التكنوقراطية والسياسات الساعية إلى ابتلاع الأفراد والشعوب في سباق التملك !
لمراجعة النصوص الواردة في المقالة ينظر ( عبدالرحمن بدوي موسوعة الفلسفة ج2/ 415-417)