الصفحة الرئيسية
 /  
كتاب القتل بالشعر
 /  
رجوع

كتاب القتل بالشعر


كثيرة هي الدراسات التي تناولت الأدب العربي وتناولت شعراءه , وخصتهم بكتب منفردة أو بمقالات وبحوث مستقلة . ولا شك أن عددًا من هذه الدراسات يتسم بالجودة والتميز البحثي , ولكن على الرغم من كثرة تلك الدراسات التي تناولت الأغراض الشعرية ومن بينها الهجاء , أو التي تناولت جريرًا خاصة لم أجد أحدًا قد توقف عند جانب العنف والتوحش في هذا الشعر , ولم أجد من بحث فيه من هذه الزاوية التي أنطلق منها في هذا البحث .


ويأتي هذا الكتاب ( القتل بالشعر : دراسة في سميوطيقا الثقافة الدامغة لجرير بوصفها علامة ) جزءًا من اهتمامي بموضوع العلاقة القوية بين الجمال والعنف في البنى التصورية للشعر والشعراء في الثقافة العربية . وهذا الكتاب يمثل حلقة من سلسلة حلقات بحثية متواصلة ([1])  , أهدف من خلالها كلها إلى الكشف عن ظاهرة تجلي العنف في وصف الجمال أو وصف قناة الوصف وأداته ( الشعر ) التي هي أيضـًا تجلٍ جمالي أو في الحديث عن غرض شعري عنيف وهو الهجاء.

      والهجاء يندرج تحت العنف اللغوي الشعري , وهو عنف قولي متعمد يقصد إيقاع أقصى وأقسى أنواع الأذى بالخصم , وتُبَيّتُ النيةُ فيه لتشويه المهجو وانتهاك هويته , مما يترتب عليه تدمير وقتل رمزي وأحيانــًا يتعدى أثر الهجاء إلى كمد وموت حقيقي .

     وتهتم هذه الدراسة بهذا الجانب العنيف من شعر جرير , وتنصبّ بالدرجة الأولى على القصيدة القاتلة التي سمّاها جرير ( الدامغة ) أو ( الـدّمّاغة ) ([2]) , وقد هجا بها جرير الراعي النميري , وقيل إن الراعي كمد بسببها ومات , وقد سماها جرير لما انتهى من نظمها ( الدامغة ) , وقال ابن رشيق إن العرب كانت تسميها ( الفاضحة) . وقال أبو عبيدة في الكتاب المنسوب إليه (شرح النقائض ) إن جريرًا كان يسميه (الدماّغة), وكان كذلك يسميها ( الدهقانة ) .

     تلك ألقاب ارتبطت بالقصيدة البائية المشهورة , وكان جرير أيضـًا يسمي قافيتها ( المنصورة ) لأنه قال قصائد فيها ، أجاد فيهن كلهن .    

وبهذه القصيدة أخمد جرير جمرة  قبيلة بني نمير ([3])  خاصة البيت :

             فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ       

                                                    فلا كَعبــًا بلغتَ ولا كِلابا

الذي صنفه عدد كبير من النقاد والمتذوقين أنه أهجى بيت .

      وكتب الأدب والأخبار تقول إن الراعي لما سمع قصيدة جرير   ( الدامغة ) كمد ومات , لما لقيه من الخزي والعار بسببها , وما جره على قبيلته من خزي بسبب إغضاب ابنه لجرير  , يقول ابن سلام : " وعلم الراعي أنه قد أساء فندم , فتزعم نمير أنه حلف أن لا يجيبه سنة , غضبًا على ابنه , وأنه مات في السنة . ويقول غيرهم : إنه كمد لما سمعها فمات ." ([4])   

       وتستفيد هذه الدراسة من مكتسبات سيميوطيقا الثقافة ومن نظرية الأنساق([5]). وتهدف إلى الكشف عن النسق القار من وراء قصيدة  ( الدامغة ) , وتبيان كيف أمسى الشفهي ( القصيدة ) وسمــًا وعلامة , وكيف صارت ( الدامغة ) معطىً علاماتيــًا سيميولوجيــًا بصريــًا محفورًا في الذاكرة يمنع نسيان الحادثة وخزي الخصم .

        كما تسعى الدراسة للكشف عن البنية التصورية المولدة للنص تصوريــًا ودلاليــًا , من خلال الكشف عن التعالق الوظيفي للنص مع المرجع : السياق القبلي والاجتماعي وكذلك مع السياق الفني الأدبي , وخاصة سياق غرض الهجاء .

      إن قصيدة ( الدامغة ) بكل ما حف بها من أحكام وتصورات وخيال نموذج جيد لما أسميه القتل بالشعر عند جرير , ولن أتوقف عند الدامغة بوصفها نصـًا شعريــًا فحسب , بل إن كل ما حف بها سيكون له موضعه من الدراسة الســيميوطيقية من زاوية الإطار والمنظور والعتبات للنص , بدءًا من أخبار تحكي سبب الهجاء ودواعيه , أو الروايات التي تصف ليلة نظم القصيدة , أو التي تصف كيف دخل جرير بلباس وبهيئة معينة ومظهرٍ محددٍ متعمدٍ إلى المربد حيث يجلس الراعي , خصمه في هذه القصيدة , إلى جوار الفرزدق خصمه الدائم الذي تهاجى معه سنوات طويلة , وكيف تعمد ألا يسلم , ثم كيف ساق حوارًا نثريـًا بينه وبين الراعي قصد منه أن يحمل التعريض والتهديد لما ستسفر عنه القصيدة , ثم كيف زلزل خصمه بها بعد أن ألقاها وجعله يسرع في الرحيل قافلاً إلى قومه وكيف استقبلته أبيات القصيدة هناك في مضارب قبيلته وقد حملتها الجن - كما قيل - لتزيد في خزي الراعي وتساهم في أن يلقى حتفه مذلة وكمدًا .

     وقد قسمت هذه الدراسة إلى عدد من الأبواب . الباب الأول : أتناول فيه الأطر والنصوص الموازية للنص الشعري وما حف به من أخبار ومرويات في الفصل الأول , أما الفصل الثاني فأتناول فيه السرد والمرويات الحافة بالنص من زاوية المنظور والعتبات .

      أما الباب الثاني فعنوانه ( عواء الشعر والبنية التصورية للشعر عند جرير ) أكشف فيه عن البنية التصورية للشعر عند جرير , تلك البنية القائمة على العنف والتوحش في الممارسة الشعرية وفي تصور جرير للقصيدة وعمل القوافي , وهو باب أمهد فيه لموضوعة القتل بالشعر التي أخصص لها الباب الثالث والرابع . والباب الثالث ينقسم إلى فصلين الأول في التهديد والقتل بالشعر . والثاني في سياق القتل ومرجعياته .

       أما الباب الرابع فيستقل الفصل الأول منه بدراسة ( الدامغة ) بوصفها علامة وبوصفها أداة القتل بالشعر . أما الفصل الثاني فأخصصه للقب آخر من ألقاب القصيدة وهو لقب ( الفاضحة ) وفيه أكشف عن التحول الدرامي ولعبة التعرية والفضح التي تسببت بها القصيدة , وهما مظهر من مظاهر القتل المجازي للراعي ولقبيلة بني نمير . أما الفصل الثالث منه فأتناول فيه اللقب الثالث للقصيدة وهو ( الدهقانة ) .

      وبعد , فهذه دراسة حرصت من خلالها أن يصل القارىء إلى صورة متماسكة عن قصيدة ( الدامغة ) لجرير وما حف بها من أطر ومقدمات وأسباب , وما آلت إليه , وما تسببت به من قتل وتدمير , وما خلفته من  أثر في الوسط الاجتماعي والشعري . وآمل أن أكون قد وفقت في وضعها في سياق اهتمامي الأكبر من موضوعة الجمال والعنف في الأدب والثقافة العربية القديمين .

-------------------------------------------------------------------------------------------------------

[1] - صدر من هذه السلسلة : كتابي المعنون " الجمال والعنف : البنى التـصورية والطقـس القرباني "

( الرياض , نشر خاص سنة 1436ه 2015م ) ودراسة أخرى بعنوان ( العنف في المصطلح النقدي : الشعر الخصي نموذجًا ) منشورة في الكتاب التذكاري المهدى للدكتور عبد العزيز المانع صدر في الرياض مركز حمد الجاسر الثقافي ط الأولى 1434ه/ 2013م .

[2] -  القصيدة طويلة تقع في مئة وأربعة عشر بيتًا , ينظر نص القصيدة في ملاحق هذا الكتاب .

[3] -  جمرات العرب ثلاث , والتجمير في كلام العرب : التجميع . وجمرات العرب هم : بنو نمير بن عامر ، وبنو الحارث بن كعب ، وبنو ضبة بن أد . وقد اطفئت جمرتان ، وهما : بنو ضبة  لأنها حالفت الرباب ، وبنو الحارث  لأنها حالفت مذحِج . وبقيت نمير لم تحالف ؛ فهي على كَثرتها ومَنَعَتِها . وكان الرجل منهم إذا قيل له : ممن أنت ؟ قال : نميري كما ترى إدلالاً بنسبه ، حتى قال جرير قصيدته الدامغة فيهم .

[4] - ابن سلام , طبقات فحول الشعراء قرأه وشرحه محمود شاكر ( القاهرة , مطبعة المدني 1974م) السفر الأول ص437 والأبيات في ديوانه ج 2 ص 650-651

[5] - هناك تعريفات كثيرة للنسق , وقد أورد معجم وبستر الدولي خمسة عشر تعريفًا للنسق . وقد انشغل كليمان موازان في كتابه ( ما التاريخ الأدبي ) بالحديث عن نظرية الأنساق . وقد اعتمد تعريف المنظر الأميركي جوردان ( W.Jordan) للنسق القائل : " نسمي شيئًا ما نسقًا حينما نروم التعبير عن واقع كون هذا الشيء مُدركًا باعتباره مكونًا من مجموعة عناصر وأجزاء تكون مترابطة فيما بينها من خلال مبادئ مختلفة ومميزة . وكل تعريف من التعاريف الخمسة عشر للنسق لمعجم وبستر الدولي الجديد هو تمثيل ملموس لهذه النواة الدالة ." ينظر كتاب كليمان موازان "ما التاريخ الأدبي " ترجمة وتقديم حسن الطالب ( بيروت , دار الكتاب الجديد المتحدة ط الأولى 2010) ص 227