الصفحة الرئيسية
 /  
الأدب في مواجهة التحديات والتحولات مقاربة نظرية
 /  
رجوع

الأدب في مواجهة التحديات والتحولات مقاربة نظرية


دراسة بعنوان  ( الأدب في مواجهة التحولات والتحديات : مقاربة نظرية )   ضمن كتاب

( تحولات العصر الرقمي وآثارها على اللغة اللغة العربية ) منشورات كرسي بحث صحيفة الجزيرة , الرياض ط 1434ه 2013م وهو الكتاب التوثيقي لأعمال ملتقى ( تحولات العصر الرقمي وأثرها على اللغة العربية ) الذي نظمه  كرسي بحث صحيفة الجزيرة في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في يوم الأحد 3 فبراير 2013 م الموافق 22 ربيع الأول 1434ه. 

أنتج العصر الرقمي بتحولاته السريعة فضاءه الخاص , وغير أدوات الإبداع , وطور وسائله , وحرك الأصول والقواعد السائدة , وأحيانًا خلخلها , ونسفها أحيانًا أخرى . فظهرت أشكال جديدة ومحتويات متغيرة متجددة بإيقاع العصر السريع , كما تغيرت النظرة المؤطرة لكل ذلك , فقد قُوضت فكرة الأصول ,ولحق التغيير فكرة الزمان والمكان , وأصاب التغيير والتأثير المخيلة وأدوات تحريكها والاستفادة منها , ومست التحولات مسألة الهوية وقضايا ثباتها أو انفتاحها أو تعددها , وضخم العصر الرقمي الإحساس بالفردية , وعزز ثقة الإنسان بنفسه وإيمانه باجتراح معجزات إليكترونية عبر واقع افتراضي له فضاء واسع وقاعدة جماهيرية متسعة , مما مكن الفرد من الإحساس بالفعل المباشر على قاعدة عريضة جماهيريًا , وهذا من مكتسبات العصر الرقمي الذي كسر النخبوية , وسارع إلى زج الناس في خضم تداولية تفاعلية لها تأثير لم يسبق له مثيل .


عبر كل تلك المفاصل المهمة التي أنتجها العصر الرقمي بتحولاته السريعة أحاول في هذه الورقة أن أنظر إلى بعض ما لحق بالأدب من تغيرات عبر عدد من المحاور أعلاه , كاشفة عن بعض ملامح التغير في الأطر والمحتويات والأشكال , وموضحة جوانب الحيوية ومكاسب التحولات وآفاقها مع الوقوف على مآزق الأدب ,لكونه يتحول تدريجيًا إلى الاستهلاك , وينضم طواعية إلى منظومة الصناعات الإبداعية وسوقها الرائج منذ سنوات بما تحمله من وعود ومخاطر .

في المحطة الثالثة :

      موضوع هذا الملتقى تحولات العصر الرقمي وآثارها على اللغة العربية , وأحتاج قبل أن أتناول موضوع ورقتي أن أتوقف عند هذا العصر الرقمي وهذا الوسيط ( الكومبيوتر والشبكة وقنواتهما ) وهذا التوقف مهم لإضاءة الموقع الذي سأتحدث منه عن الأدب . فالحديث عن مراحل نمو هذا الوسيط واعتراكه تاريخيًا وتقنيًا وثقافيًا مهم لهذه الإضاءة .

       نحن نعلم أن نجاح بيل غيتس  Bill Gates  وثراءه لا يعودان لتصنيعه أجهزة الكومبيوتر وإنما إلى سيطرة ميكروسوفت على نظام تشغيل هذه الأجهزة , بمعنى أن النجاح جاء من المعلومات لا من التصنيع , كما يقول جون هارتلي John Hartley في كتابه  الصناعات الإبداعية .([i])        

      يرى هارتلي في حديثه عن المرحلة التالية لنظم التشغيل أن تحركات المرحلة الأولى تزامنت مع تحول النشاط الاقتصادي من البضائع إلى الخدمات ومن المنتجين إلى المستهلكين , حيث كان الجميع يستثمرون في البنية التحتية لهذا القطاع لكن " البنية التحتية لم تكن كافية , وقد بني عليها المستوى الثاني من اقتصاد تكنولوجيا المعلومات – التواصلية . ففي هذه المرحلة تحولت تكنولوجا المعلومات إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتضيف الاتصالات إلى المعلومات وتعديد التقنيات , ولم يكن الهدف من هذا القوة الكمبيوترية وإنما التفاعلية ..." ([ii])

     وقد جاء التحول مذهلاً وسريعًا , فشركات الاتصالات الهاتفية والانترنت وشبكة العنكبوت العالمية والبريد الإليكتروني وغرف الدردشة والمؤتمرات الإلكترونية المتعددة الأطراف والبيئات الافتراضية وغيرها من تجليات التفاعلية كلها حضيت بالشعبية وازدهرت فيها الشراكات , وهنا في المرحلة الثالثة من تطور ازدهار تكنولوجيا المعلومات أصبح الإبداع أحد أصول السوق كما يقول هارتلي : " فالتحول من بنية إلى محتوى عبر التواصلية يمثل استراتيجية استثمار ومنحنى تقنيًا كذلك ." ([iii])

      والسؤال إذًا : أين نحن من هذه التفاعلية ؟ أين نحن من هذه المحطة ؟ وأين لغة الأدب المكتوبة من اللغة الرقمية؟ 

     يرى الدارسون أن اللغة الرقمية لها سمات ومواصفات خاصة إذا ما قورنت باللغة العادية المنطوقة أو المكتوبة بالطرق التقليدية ؛  ويحدد الدكتور علي حرب أبرز هذه الفروقات في كتابه ( العالم ومآزقه : منطق الصدام ولغة التداول) إذ يرى أن أبرز سمات اللغة الرقمية تتمثل في أنها سريعة, وآنية, وهشة , وعابرة , ومتغيرة, وغير ثابتة , وأنها ذات طاقة مذهلة وقادرة على التأثير , وأنها ذات امتداد أفقي ومكاني عريض , وأن كونها غير عمودية يجعلها أداتية وميسرة للعمل الديموقراطي ومؤسسات المجتمع المدني , وهذا يعني أنها تداولية ومخترقة . كما أنها سريعة وأحيانًا تسبق الخيال . ([iv])

فهل لغة الأدب التقليدية تجاري هذه السمات ؟ وهل لغة الأدب في النص الإليكتروني لها السمات نفسها بالقوة نفسها والحيوية ذاتها ؟

يقول كوليردج  Samuel Taylor Coleridge‏  : " إن أغلالنا تصلصل حتى عندما نشتكي منها "  ويمكنني استعارة هذه الصورة البلاغية للتعبير عن موقف الكثيرين من كل جديد يطرأ , ومع تململنا من فكرة الغريب الطارىء , وخوفنا من أنه يتضمن مكونات شريرة أو يمكن أن يسوق إليها !! فالشك أو سوء الظن متبادل ؛ فكثير من المحاولات للتجريب والتجديد تنطوي على اعتقاد أن الأدب بشكله القديم بات بلا حيوية , وفي بعض الآراء المتطرفة تجاهه تراه متخلفًا عن مواكبة العصر وشبه بدائي مقارنة بتسارع ثورة التجديد .

      لذا سأبدأ أولاً باستعراض سريع للتحولات والمكاسب والآفاق ثم أتوقف عند التحديات والمآزق .

أولاً : التحولات : المكاسب والآفاق :

 حينما نتكلم عن التحولات والمكتسبات يمكن الحديث نظريًا عن كم الإزاحات والتغييرات التي أحدثتها الثورة الرقمية وذلك يتجلى في :

1- تقويض فكرة الأصول ونسف فكرة التطور عن الأصل أو التناقض معه , فبطريقة غير مباشرة يختط هذا الأدب لنفسه وفق معايير ومقاييس جديدة طريقته الخاصة ونظرته ورؤاه الجديدة , ففكرة الأصل الذي يقاس عليه أو ينحدر منه تبدو لا قيمة لها , والنصوص الجديدة تعمل وفق التغييب الكامل للأصول والأجناس الأدبية المستقرة المقررة , إنها تمرح وفق قوانين لعبة جديدة.

2- يترتب على ذلك التغييب لفكرة الأصل والمـحْتِد والقانون نبذ فكرة النخبوية , فالنصوص الجديدة انخراط كامل في المجموع والجماهيرية , انغماس في عالم افتراضي وفي واقع خيالي جديد  , وقد كسر العصر الرقمي النخبوية , وسارع إلى زج الناس في خضم تداولية تفاعلية لها تأثير لم يسبق له مثيل .

 3- الزحزحة عن المركز , وإزاحة القداسة عن الأشكال المتمركزة وفتح المجال لتصدر الهامش وللأشكال التجريبية , ومن حيث الطول تمركزت الشذرات والموجزات ( تغريدات وتويتات ) وتصدرت المشهد .

4-  عودة أشكال وأنواع قديمة  : إن دهرًا اختفت فيه الأمثال والحكم والعبارات المثلية وقل رواجها ووهجها نراه يعود , إذ نجد العصر الرقمي يبعثها من جديد بطريقة تكنولوجية , فما كنا نسمعه عن سير الأمثال وطيرانها وذهابها بين الناس ها هي التغريدات تقوم به وتتلبس أحيانًا ببعض الخصائص الفنية للنوع المثلي والحكم السائرة  وتعود إلينا بحلة جديدة , فبضاعتنا ردت إلينا !!

5- تميع الجنس الأدبي بحيث إن كثافة النص الجديد وتركيزه تجعلان القارىء تلتبس عليه الأشكال فلا يدري ما الذي يقرؤه , هل يقرأ قصيدة البيت الواحد أم خاطرة مكثفة أم تحية صباحية أم جوابًا مسكتًا مفحمًا أم مثلاً مطورًا .

6- إذا كانت النخبوية تقتضي نوعية وعددًا محدودًا فإن النصوص الجديدة قادرة على الاختراق والتجاوز نحو قاعدة جماهيرية كبيرة جدًا , وتتوجه نوعيًا إلى فئة حيوية متحركة , وفي الغالب هم من فئة الشباب الممتلئين أملاً وثقة وحماسًا وإيمانًا بما يمكن أن تفعله الكلمة ! وهذا من مكاسب العصر الرقمي , وأحد مكامن القوة التي يمتلكها الأدب على الشبكة , وهذه القوة تتجلى في الحيوية الدائمة التي تكفلها له السلسلة التي تتشكل آليًا من القراء والأتباع الذين يبدون وجهات نظر تواصلية , مما يعطي الحيوية للنص والتفاعلية السريعة , وهو ما يكفل ما أسميه ( نعمة المنظور ) أو زاوية النظر المختلفة لقراء متنوعين , وهو يحقق للنص فرصة اكتساب قراءات متعددة المنظور في زمن قياسي . وهو انفتاح يجعل الأديب يعي أن الأحادية غير ممكنة , ويدرب ويساعد على تقبل فكرة الآخر وقبول التعددية , لأنه يرسخ أن التجربة الإدراكية الفردية محكومة بتجليات فعلية ولكنها تنطوي على تجليات محتملة وربما مختلفة أو متناقضة. وهذا التغير في المنظور الإدراكي وفقًا لقبول فكرة الانفتاح يعيد ترتيب العلاقة بالعالم وبالآخر , ويفكك تدريجيًا ما تراكم وترسب من تصلب حول أوهام الذات والهُوية , ويوقف الكاتب والمتلقي مباشرة على مفهوم النسبية والكلية والمطلق من زاوية الاستقطاب في التجربة الإدراكية والوعي بها , وهو ما لم يكن متاحًا في السابق  على هذا النحو اللحظي السريع.

7 - ظهور سمة مهمة تتعلق بطبيعة المحتوى , و هي إعطاء الأمل والحماسة بحيث تبدو مناقضة لما يضخه الأدب التقليدي في غالبه من السوداوية والتشاؤم والتثاؤب .   

8- أصاب التغيير والتأثير المخيلة وأدوات تحريكها والاستفادة منها , فما يتيحه الكومبيوتر من برامج ولاسيما في (الأدب التفاعلي) يعطي إمكانيات مذهلة لتحرير طاقة الخيال , خاصة إذا ما علمنا أن آلية عمل (الهايبرتكست "النص المترابط" ) مستعارة أصلاً من طريقة عمل الدماغ البشري في الربط والتداعي والاسترجاع والحفظ فقد ذكر بورنمان Bornman في تعريفه أن نظام الهايبرتكست يحاكي طريقة عمل الذاكرة لدى الإنسان.  ([v])

      والخيال نوعيًا اختلف باختلاف الاتكاء على المصادر والواقع المفترض , لقد جدّ واقعٌ غير الواقع وظهرت حقائقٌ غير الحقائق . وهذه الممكنات وهذه الطاقة شجعت على اجتراح حقائق وعوالم افتراضية متحولة ومتغيرة على الدوام , ولا تستقر لأكثر من صنع الحالة الافتراضية لغرض استهلاك سريع , ثم تمُحى لتظهر عوالم أخرى بطاقة جديدة منافسة , وهذه الطاقة الخيالية هي الحرباء الإليكترونية التي تتلون وتتجدد مع الكتاب والقراء معًا  ,كلٌ حسب براعة تعامله مع البرامج وإمكانات الحاسوب .

       إن فكرة الطاقة المتجددة والتغيير المستمر التي تستحث المستخدم على مجاراتها إذا ما تجاهلنا أصلها التجاري الاستهلاكي تبدو فكرة ثورية , بحيث إنها تهدف إلى نسف القديم , أو على أقل تقدير تحييده , وقد يقوم بذلك المؤلف نفسه بسرعة حربائه الإليكترونية , متجاوزًا نفسه ونصه وخياله الذي ابتكره بالأمس . وهذا يحيل إلى أمر مهم جدًا هو : الرغبة القوية في الفتوة المتجددة الدائمة , في مسعى يبدو كمن يريد أن يتحول إلى البطولة والأسطرة , يستدير بنا العصر الرقمي ويعود بنا إلى الأساطير واجتراح المعجزات !! 

9-  مع التغيير الذي لحق بالخيال وأدوات الإبداع لحق التغيير ضرورة فكرة الزمان والمكان , لقد طوي المكان طيًا بلمح البصر , وصار الفضاء الإليكتروني ملكوتًا للحركة والإبحار والتحليق في الآن واللحظة في أكثر من مكان وزمان .

ثانيًا : التحديات والمآزق :

يهمني الوقوف على أبرز تحديات الأدب ومآزقه خاصة تحدي الأدب التفاعلي , ومآزق ما أسميه التحول التدريجي إلى الاستهلاك , إذ ينضم الأدب طواعية إلى منظومة الصناعات الإبداعية وسوقها الرائج منذ سنوات بما تحمله من وعود ومخاطر .

في مواجهة الأدب التفاعلي والنص المترابط :

يصنف الأدب في علاقته بالكومبيوتر وبرامجه وبالشبكة على هذا النحو:

1- النص الورقي وهو النص الذي يستخدم الوسيط الورقي التقليدي ويعتمد على نمط التوزيع القديم لنشره بين المهتمين .

2- النص الإليكتروني وهو النص الورقي منشورًا على الشبكة , ولكن قد يضاف إليه بعض المؤثرات السمعية والبصرية , ويبقى القارىء معه في خانة التلقي فحسب , ويستفيد الكاتب من فكرة النشر الإليكتروني بكل ما فيه من مزايا .

3- النص الأدبي الذي يستخدم تقنية (النص المترابط الهايبرتكست) وهو ما نعنيه حينما نتحدث عن الأدب التفاعلي .والنص المترابط يتشكل من مجموعة من البنيات والعقد غير المتراتبة خطيًا أوتسلسليًا تتصل ببعضها بواسطة روابط يخطط لها الكاتب وينفذها عبر استعمال برنامج معين , ويقوم القارىء بتشغيلها وتنشيطها , فتسمح له بالتنقل السريع بين كل منها , وتتضمن روابط لفظية وصوتية وبصرية وعددًا من الأيقونات التي تولجه إلى عالم النص عبر مداخل مختلفة مما يسمح له ببناء دلالات خاصة , ومن خلال هذه الإمكانات يتفاعل مع النص فيساعد في إنتاج دلالات كامنة موجودة فيه , وربما متروكة له عمدًا هناك ؛ ليتحقق من خلال عمل الكاتب وجهد القارىء ما يسمى النص المفتوح , والذي ينفتح أكثر وأكثر مع تزايد القراءة واختلاف مسالك القراء في اختيار الطرق المتشعبة من وإلى النص  للوصول إلى آفاق متنوعة .

       لقد عكف كثيرون في أوربا وأمريكا منذ عقود على دراسة إمكانات الكومبيوتر وعلاقة الأدب به وبالشبكة . ومنذ أوائل التسعينات تكثفت جهود للكشف عن علاقة ذلك كله بالأدب وبنظرية الأدب وبالنظرية النقدية . ويعد جورج ب لاندوو G.P LANDOW من " الرواد الذين نظروا للنص الكتروني وصلاته الوثيقة بالكومبيوتر والتكنولوجيا ونظرية الأدب من خلال أعماله الكثيرة " وهو ينطلق من اجتهادات سابقة لبارت (Roland Barthes) وفوكو (Michel Foucault ) وباختين(Mikhail Bakhtin ) . فبارت على سبيل المثال تحدث عن النص المثالي , وعن الشذرات , وبين أن النص شبكة متعددة , وأنه نسق بلا نهاية ولا مركز كما أن القارىء صار منتجًا للنص ولم يعد مستهلكًا فحسب . أما دريدا فقد تحدث كثيرًا في أعماله عن الشبكة والروابط والنسيج وانفتاح النص وكل هذه السمات سمات مركزية في النص المترابط ([vi]) .

    ومن الجهود العربية النادرة في مجال دراسة النص المترابط والأدب التفاعلي يبرز اسم الدكتور سعيد يقطين في كتابه (من النص إلى النص المترابط :مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي الصادر سنة 2005م) وهذا الكتاب يعد كتابًا مؤسسًا في هذا المجال .

      ويرى الدكتور سعيد يقطين أن الوصول إلى هذه المرحلة التفاعلية كان نتيجة ما مرت به نظرية الأدب والنظرية النقدية من تطور مستمر لفحص النص ولكيفية تلقيه . فقد أعطت البنيوية رؤية جديدة ومغايرة للنص بالتركيز على بعده اللساني من جهة , وبالتركيز على البعد الخطي المتتالي للنص , وذلك على اعتبار أن الدوال تحيل على أخرى  وفق سلسلة من التركيبات والوحدات الشذرية المتشظية , وهو ما يؤدي إلى احتمالات دلالية متعددة لم يكن يتوقعها الكاتب نفسه . ويرى أن القول باستقلالية الدال عن المدلول فتح آفاقًا جديدة للتفكير في النص في ضوء نصوص من أجناس مختلفة ومن أنظمة علامات متعددة , وهو ما كشف عن مفهوم التداخل بين النصوص والعلاقات فيما بينها . ([vii])

       فالانفتاح والتعدد والتناص كلها أعطت النص آفاقًا لم يكن يتوقعها الكاتب , كما أنه مع السيميوطيقا اتسعت دائرة النص لتمتد إلى العلامات غير اللسانية , فانضم المسموع والمرئي إلى جانب الملفوظ , وانتقل النص بعد ذلك إلى مرحلة أخرى من التفاعل مع علامات غير لسانية . ([viii])

     إذًا _ كما نرى _ هذه المرحلة لم يكن ممكنًا الوصول إليها إلا بعد عدد من التطورات في النظرية النقدية والنتاج الأدبي , ولذلك يقول الدكتور سعيد يقطين : " لا يمكن أن نفهم جيدًا  معنى النص الالكتروني بدون وضعه في سياق الثورة البنيوية وما تلاها من اجتهادات وتطورات على المستوى المعرفي والتيكنولوجي ." ([ix])

     والدكتور سعيد يقطين بعد استعراضه للجهود المبذولة عالميًا في دراسة مصطلح النص المترابط وملاحقة مساره التاريخي والمعرفي ( الإبستمولوجي ) يخلص إلى تعريف واضح محدد له , ويعين محددات مهمة لإنتاج النص المترابط , حيث لا تتحقق الكتابة الترابطية إلا من خلال أحد البرامج التي تتضمن وظائف تتيح الترابط المنشود . ويرى أن ذلك يمر بمراحل ثلاث : القصد والتنظيم والإنجاز .

     يقول عن المرحلة الأولى  :" يبرز القصد في كون الكاتب يقرر مسبقًا بانه سيكتب نصًا مترابطًا . ومعنى ذلك أنه سيعمل جاهدًا على تنظيم بنيات النص الذي يكتب وفق هذا النظام الذي يسمح للقارىء بالانتقال داخل النص تبعًا لذلك ." ([x])

    أما المرحلة الثانية وهي التنظيم فتتمثل بعمل خطة يعدها الكاتب , يحدد فيها خارطة النص ومختلف تشعباته مبينًا مواطن تلك العقد([xi])  والتشعبات ؛ ليخلق نظامًا تسير عليه مختلف الروابط , بحيث تكون متكاملة " ويؤدي بعضها إلى بعض بطريقة عكسية , وليست أحادية فقط , لضمان يسر التحرك داخل نسيج النص المركب , والرجوع إلى نقط ومحاور خاصة , لمواصلة عملية الانتقال حتى النهاية . ونقصد بالتنظيم ضبط مختلف البنيات القابلة للترابط وفق تصور محدد ومفكر فيه بعناية , وألا يترك الأمر فيه للاعتباط ." ([xii])

      أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتتصل بوضع المرحلتين السابقتين قيد التفيذ , بحيث تكون كل البنيات المعدة جاهزة لتنشيطها بواسطة البرنامج الذي يسمح بتحديد مجال الروابط والعقد والتشعبات وجعلها قابلة للاشتغال ولا تتعرض للتعطل . ([xiii]) وبذلك يتضح أن النص المترابط إنتاج يتم وفق عمليات منظمة ومخطط لها سلفًا بمعونة برامج معينة معروفة يتعامل معها الكاتب والقارىء معًا .

      إن أول التحديات التي يواجهها الأديب الوعي بأنواع النصوص من خلال التفريق بين وسائطها وأدوات كل نوع وإمكاناته . وحينما ننظر إلى الأدب العربي في علاقته بالكومبيوتر وبالشبكة نتساءل هل الأديب العربي يعي جيدًا أن النص الإليكتروني ليس مجرد بديل عن الورقي ؟ وأن النص المترابط الذي ينقله إلى مرحلة الأدب التفاعلي يتطلب مواصفات خاصة غير التي يمكن تحقيقها مع النص الإليكتروني , وهي مواصفات إضافية من صنعه وإبداعه وتجهيزه عبر برامج خاصة تساعده على صنع منتج إبداعي يقدم لمتلقٍ ذي وعي جديد مختلف . فهل لدينا أدب تفاعلي يستفيد من البرامج والإمكانات التي توفرها التقنية الحديثة ؟

  واقع الأدب العربي مع امكانات التفاعلية والنص المترابط :  

     إن الدارس للواقع الأدبي على الشبكة وفقًا لهذه المرحلة التفاعلية يواجه بالحالة المتواضعة التي يظهر بها الإنتاج الأدبي , حيث لا يزال يراوح معظمه في مرحلة النص الإليكتروني البديل عن الورقي والمبدع في هذه الحالة يستعيض عن النص الورقي بمساحة مدونته أو موقعه أو صفحته على الفيسبوك. ونصه الإليكتروني في هذه الحالة يستفيد من مساحة الحرية وسرعة النشر والانتشار وإمكانية استقبال ردود أفعال من القراء , ولا سيما في وسائط كالفيسبوك أو التويتر , ولكن نصه يبقى حبيس هذه الحدود ,  ويبقى القارىء كذلك محدودًا بتفاعله . أما (النص المترابط) وفق التوصيفات والإمكانات المذكورة آنفًا فليس حاضرًا إلا في حالات نادرة استثنائية تعد على أصابع اليد الواحدة على مستوى الرواية وعلى مستوى الشعر !

    وقد عقد الدكتور سعيد يقطين في كتابه  بابًا بعنوان ( الإبداع العربي وآفاق المستقبل ) ([xiv]) خلص فيه بعد دراسة لحال الرواية العربية والشعر العربي إلى أن الرواية التفاعلية غير موجودة في الأدب العربي , وأشار إلى نموذج وحيد هو(رواية ظلال الواحد) لمحمد سناجلة بوصفها النموذج التفاعلي التجريبي في العالم العربي .

      أما على مستوى الشعر التفاعلي فقد أشار إلى اجتهادات المغربي محمد بنيس في الاستفادة من الفضاء البصري والتشكيل الخطي المساهم في فتح أفق النص الشعري , وقد حاول أن يربط نماذج من التراث الشعري ببعض سمات النص الترابطي في محاولة تأصيلية يمكن تطويرها ودراستها . ولكنه يختم حديثه عن المشهد الأدبي العربي بتقرير ان ثمة مسافة شاسعة تفصلنا عن رهانات العصر الرقمي وقضايا التفاعلية على الشبكة ([xv]).

    وقد جاءت الدكتورة فاطمة البريكي بعده بسنة (2006م) في كتابها (مدخل إلى الأدب التفاعلي) لتنتقد اللهجة اليائسة الحاسمة التي وصف بها يقطين مشهد الإبداع العربي , ولكنها لم تستطع درء ذلك بأمثلة تسند رأيها وبقيت في خانة الدفاع تحت راية الحديث عن الممكن !! ([xvi])

         إذًا ما نراه هنا وهناك على الشبكة من نصوص ومدونات وملصقات على الشبكة وقد أضيف إليها بعض المؤثرات السمعية والبصرية تظل كما قلت آنفًا تراوح في منطقة ما نسميه النص الإليكتروني الذي يطور النص الورقي بهذه الإضافات المحدودة , ويمثل  النص التفاعلي والأدب التفاعلي والوعي بهما وولوج عالمهما من أكبر التحديات التي تواجه الأدب العربي .

تسليع الأدب وتحديات خفية :

    1- من جهة أخرى نجد أن العوامل التي دفعت إلى بروز أشكال جديدة في أدب العصر الرقمي كاتساع مساحة الحرية واليأس والبطالة هي التي جعلت من الفيسبوك والتويتر ومختلف المدونات متنفسًا حيًا ضد الاحتكار وتغول دور النشر . وأرى أن هذه الأسباب التي أفضت إلى حركة جديدة ونشطة لنوع من المدونات والملصقات الرقمية ليست سوى معطيات ومؤثرات من خارج النمو الطبيعي لتطور الأدب . صحيح أن المؤثرات الاجتماعية والإيديولوجية كانت مؤثرة دائمًا في الأدب وتطوره , ولكنها هنا تبدو متغولة عليه !! ويبدو أضعف منها بحيث إنها تحمله على أكتافها (أو في ثقوبها ). على حين كان الأدب في حقب مرت هو الذي يغيرها ويحركها ويدفعها للتطور . كان الأدب يتحرك من منطقة القوة الفاعلة , وهو الآن مجرد دبيب يستغل ثقوب الشبكة الكثيرة ليجد لنفسه كوة صغيرة في دكاكينها الكثيرة ! راضيًا بمجرد العرض والتأمل . إنه عارض سلعة فحسب في سوق متوحش كبير , قائم على الاستنساخ والاستهلاك , على حين أنه كان المبدع والصانع للسلعة , لقد دخل سوق الاستهلاك السريع ووضع يده في فم الوحش . وإذا كنا قديمًا (حتى على مستوى السلع) نقدر الصنعة المميزة , ونحتفي بما يسمى (المصنوع يدويًا Hand Maid ) وهو ما يجير دائمًا لجهة التفوق والامتياز والأصالة صرنا نجد أدبًا مصنوعًا للاستهلاك اليومي .لم يعد لدينا على صفحات الشبكة أدب طويل العمر , وكاتبه في الأساس ليس معنيًا بأوهام الخلود . إنه يتحول تدريجيًا إلى الاستهلاك , وينضم طواعية إلى منظومة الصناعات الإبداعية وسوقها الرائج منذ سنوات بما تحمله من وعود ومخاطر. يقول ريتشارد فلوريدا Richard Florida : " تحل التجارب محل البضائع والخدمات لأنها تشحذ كلياتنا الإبداعية , وتدعم قدراتنا الإبداعية " والعامل الحاسم عند فلوريدا هو " أن تحويل الخبرة إلى سلعة ... يمكن أن يجعل هذه الخبرة غير أصيلة , ويحول الناس إلى عبيد لا حيلة لهم أمام المستحدثات " ([xvii]) وهو يرى أن الإبداع نفسه نوع من النسخة المنقحة . ([xviii])

    وقد أشرت في مطلع هذه الورقة إلى أن جون هارتلي  قد صنف مراحل تطور الكومبيوتر , واعتبر أن الإبداع في المرحلة الثالثة من تطور ازدهار تكنولوجيا المعلومات أصبح أحد أصول السوق , فالتحول من بنية إلى محتوى عبر التواصلية -كما يقول- مثّل استراتيجية استثمار ومنحنى تقنيًا كذلك. ([xix])

    ويبدو أن المخاوف من تسليع الأدب تتزايد خاصة إذا ما ارتبط الأدب بوسائل كالسينما والمسرح والتلفزيون وهي وسائل لها وجوه ترفيهية في معظم الأحيان , إذ "معظم الصناعات الإبداعية خاصة في مجال الترفيه تزدهر لأنها تكرارية " كما يقول جون هوكنز John Howkins ([xx]) والصناعات الإبداعية القائمة على التكرار غالبًا ما تقلل تدريجيًا من شأن الابتكار كنتيجة لتحول الإبداع , والأدب أحد ضروبه , إلى أصل من أصول السوق .

   2- ومن الخيارات التي يتيحها العصر الرقمي ما يتحول الى تحديات خفية ؛ إن صفحات الفيسبوك والمدونات والتغريدات عمل من يضعُ نفسَه طوعًا تحت المراقبة والمشاهدة الدائمة , وهو أمر شبيه إلى حد ما بما يجري في تلفزيون الواقع . أن تكون معلقًا تحت الضوء , وقابلاً للمشاهدة والمتابعة والمراقبة , وأن تكون متاحًا كل هذه سمات جديدة ومهمة جدًا في هذا النوع من الكتابة , حيث إن مثل هذا الاختيار الطوعي وهذه الجاهزية والتدرب على تحمل تبعات ذلك فنيًا أمر مهم , وهذا بلا شك يؤثر على دافعية الخلق وأسباب الإبداع في الأساس , كما أن ضاغط فكرة الانتشار وكسب أكبر عدد من الأتباع يساهم بشكل غير مباشر , وربما بشكل خفي , على أطراف اللعبة الأدبية , ويحشر من ليس منها فيها .

   3- بقي أمر آخر وهو أن ممكنات العصر الرقمي عززت فكرة النجومية السريعة , وهذا أمر يركز كثيرًا على الذاتية على الرغم من أنه يدعي غيرها , ويلوح بالانغماس بالجماهيرية , فهذا الفارق بين الأدباء وبين نجوم الفن والغناء يكمن في سرعة الوصول إلى النجومية عبر تقنيات صناعة البطل والأسطورة إعلاميًا , وهو عالم غريب وجديد على الأدب , لكنه اختار الدخول إليه بملء إرادته وهو يدفع تبعاته ويسدد فواتيره ويكسبها في الوقت نفسه !!

      4- ومن جهة أخرى فإن عدم مواكبة النظرية الأدبية والنقدية العربية للمكتسبات والإمكانات التقنية يمثل أحد التحديات التي يدفع الأدب ثمنها . 

 


 

الهوامش :

 

[i] - جون هارتلي , الصناعات الإبداعية : كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة ؟ ترجمة بدر السيد سليمان الرفاعي (الكويت , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .سلسلة عالم المعرفة إبريل 2007م عدد 338  (ج 1ص 31)

[ii] - المصدر السابق ( ج1ص31)

[iii] - المصدر السابق (ج1ص 32 )

[iv] - ينظر علي حرب العالم ومآزقه : منطق الصدام ولغة التداول (بيروت , المركز الثقافي العربي ط الأولى2002م ) ص 108 وما بعدها

[v] - ينظر مقالة  النص المترابط الهايبرتكس ماهيته وتطبيقاته ، المجلة العربية للمعلومات مجلد 18 عدد 1 تونس 1997م ، ص73 .

[vi] - ينظرسعيد يقطين , من النص إلى النص المترابط : مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي (بيروت , المركز الثقافي العربي ط الأولى 2005م)  ص 125.

[vii] -  المصدر السابق ص 119.

[viii] - المصدر السابق ص 119.

[ix] - المصدر السابق ص 123.

[x] - المصدر السابق ص 129

[xi] - يقول د. سعيد يقطين في المعجم الموجز للنص المترابط الذي ألحقه بكتابه معرفًا العقدة : (تستعمل العقدة في النص المترابط للدلالة على المادة التي تتشكل منها المعلومات التي نتعامل معها . إنها تناظر أحيانًا صفحة أو كتلة من المعلومات التي نتعامل معها , أو هي " الوحدة ط أو " البنية " التي نتفاعل معها كقراء باعتبارها وثيقة أو نصًا أو صورة , وكل عقدة تؤدي إلى عقد أخرى بواسطة الروابط التي تصل بينها أو بواسطة " الخارطة التي توجه إلى الانتقال بين شبكة من العقد .) ينظر كتابه (من النص إلى النص المترابط : مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي) ص262

[xii] - المصدر السابق ص 129.

[xiii] - المصدر السابق ص 129.

[xiv] - المصدر السابق من ص 191 - 249

[xv] -  المصدر السابق ص 209

[xvi] -  فاطمة البريكي , مدخل إلى الأدب التفاعلي ( بيروت المركز الثقافي العربي ط الأولى سنة2006م)

[xvii] -  جون هارتلي , الصناعات الإبداعية ج 1ص150.

[xviii] - المصدر السابق ج 1ص150.

[xix] - جون هارتلي , الصناعات الإبداعية ج1ص 32  .

[xx] -  ينظر  مقالة جون هوكنز بعنوان " لجنة مايور للصناعات الإبداعية " ضمن كتاب الصناعات الإبداعية ج1ص 169  .