الصفحة الرئيسية
 /  
في البحث عن الأدبية في النقد العربي القديم
 /  
رجوع

في البحث عن الأدبية في النقد العربي القديم


في البحث عن الأدبية في النقد العربي القديم

د.فاطمة عبد الله الوهيبي

نشرت الدراسة في مجلة ( قوافل ) الصادرة عن نادي الرياض الأدبي في العدد الثاني ، السنة الأولى ، رجب 1414هـ / 1994م


1- مقدمة :

          مصطلح الأدبية (Litterarite) أو الشعرية (Poetique) أو الإنشائية _كما يترجمها بعضهم _ مصطلح يتزايد انتشاره بين الكتاب والنقاد الأجانب والعرب أيضًا . ولقد تزايد استعمال هذا المصطلح منذ وقت مبكر ، منذ الستينات ، منذ أن أصدر الشكلانيون الروس مجلتهم الموسمية بهذا العنوان ( الشعرية ) ، تلك التي أخذت تنشر آراء الشكلانيين ومفاهيمهم حول الشعر والشعرية في الأدب عمومًا . بل إن ظهور هذا المصطلح في كتاباتهم كان منذ وقت مبكر من مطلع هذا القرن ، منذ ظهر في أول منشور جماعي لحركة الشكلانيين بعنوان ( مجموعات حول نظرية اللغة الشعرية ) في عام 1916م . ([1])

          وقد تكثف حضور المصطلح وتواتر ظهوره في عنوانات عدد من الكتب والدراسات ، مثل : الشعرية لتزفيتان _ تودوروف ( أو الإنشائية كما يترجمها بعضهم ) وشعرية النثر له أيضًا ، ومثل : قضايا الشعرية لرومان ياكبسون ، والمرسلة الشعرية لأمبرتو إيكو ، والشعري لميكل دوفرين ، وهل توجد كتابة شعرية لرولان بارت ، وشعرية دستويفسكي لباختين ، وبنية اللغة الشعرية لجان كوهن ، وإنشائية الفضاء ( أوجماليات المكان كما في إحدى الترجمات ) لجاستون باشلار ، وإنشائية حلم اليقظة له أيضًا ، والإنشائية الهيكلية لتزفيتان تودوروف ...

          وقد شاع المصطلح أيضًا بين عدد من العرب المشتغلين بالأدب والنقد ، وظهر في عنوانات عدد من الدراسات والمقالات مثل : في الشعرية لكمال أبي ديب ، وفي الشعرية العربية لشربل داغر ، والشعرية العربية لأدونيس ، وفي القول الشعري ليمنى العيد ، والشعرية البنيوية والمقاربات البنيوية في الفكر النقدي العربي لمحمد جمال باروت ، والإنشائية في النقد الأدبي الحديث لعبد الفتاح المصري ...

إن تزايد انتشار المصطلح يُوقف في مواجهة أسئلة كثيرة منها : ما المجال الذي يتحرك فيه ؟ أتنظير إبداع أم تنظير نقد ؟ وما الذي يفرق بين المصطلح وبين بقية الطروحات في نظرية الأدب ؟ وإن كان لا فرق ، فلماذا طُرح المصطلح الجديد ؟ وما الذي يضيفه ولا يحتويه الآخر ؟ وإن كان ثمة فرق فما أوجه الاختلافات الأساسية بين الطروحات السابقة لنظريات الأدب وبين ما تطرحه منجزات البحث في الأدبية ؟ وما هي الأسس النظرية والمناهج المعتمدة في هذا الاتجاه ؟ .

إن  هذا المصطلح كما يبدو أشبه ما يكون بغابة دهماء شاسعة . ولذا فقد اقترحتُ في إحدى الحلقات العلمية أن يتناول هذا الموضوع مجموعة من الدارسين , وأن يُدرس على ثلاث مراحل الأولى : مرحلة تأطير المصطلح وتحديده كما هو في الفكر النقدي الأجنبي الحديث . والثانية : مرحلة تأصيله ، ودراسته في الفكر النقدي العربي القديم . والثالثة : دراسته في النقد العربي الحديث وفيها تُتناول محاولات النقاد العرب المحدثين بالدراسة لتكشف عن إسهاماتهم في هذا المجال ، وعن كيفية تلقفهم للمصطلح ، وهل كانت مجرد انعكاسات وأصداء لما يتلقفونه من الفكر الأجنبي أم أن ثمة إضافات حقيقة جادة خاصة بهم . وهل كان للموروث النقدي العربي دور في هذا كله أم لا ؟ ويكون هذا كله سعيًا إلى مرحلة التنظير التي ترمي إلى إيجاد صيغة عربية ذات هوية ملائمة وخاصة.

إن موضوعًا كهذا يعمل على المستويات التنظيرية النظرية ، ويهدف إلى التأطير والتأصيل والتنظير بهدف الوصول إلى صيغة ذات معطيات غنية وذات سمة خاصة متميزة موضوع _ كما قلت _ يحتاج إلى عمل مجموعة  لا عمل فرد . وما هذه الدراسة إلا محاولة أولى ، تبحث في الحلقة الثانية من هذا المشروع ، وأقول محاولة أولى لأنه غالبًا ما رافقت المحاولة الأولى بعض العثرات التي أرجو ألا يكون بعضها كثيرًا أو خطيرًا في محاولتي هذه .([2])

 

2- مدخل :

          إنه من الطبيعي _ وأنا أبحث في أبعاد هذا المصطلح وحدوده في التراث النقدي _ أن أباشر الموضوع انطلاقًا مما يقدمه الفكر النقدي الحديث حوله . فصحيح أن التفكير في الأدبية أمر طبيعي وحتمي أن يرافق أي نظر وتأمل في الأدب في أي زمان ومكان _ إلا أن بروز هذا المصطلح حاليًا كان هو الدافع الفعلي للتوجه إلى التراث النقدي . ولكن هذا لا يعني الانخطاف نحو النصوص قديمها أو حديثها ، عربيها أو غربيها , وإنما كل ما هنالك هو الرغبة في بحث يجدّ في محاولة تقصي المفاهيم ، وما تنطوي عليه المحاولات من تنظير وبحث في خصائص الأدب وسماته .

          وسأحاول بإيجاز شديد هنا أن أنضّد هذا المفهوم _ كما هو في حدود علمي _كما يبدو في الفكر النقدي الحديث . إن مصطلح الشعرية أو الأدبية _ وهو المصطلح الذي أفضله _ تجاوز منطقة تعريف الشعر وماهيته ، بل تجاوز الشعر ذاته إلى مناطق أرحب تبحث في أدبية الأدب بعامة ، فقد انصرفت الاتجاهات الحديثة ، ولا سيما الاتجاه الشكلاني الروسي عن البحث التجريدي في ماهيات الأدب إلى البحث في تركيبه الذاتي ، وإلى درس أنظمته الداخلية ، وإلى اتخاذ وسائل قياس تطمع في أن تكون شديدة البراءة والصفاء لسبره وتحليله من الداخل، أملا في الوصول إلى ما يُسمى بعلم الأدب .

          وقد يبدو هذا التنضيد مسرفًا في الإيجاز ، مبالغًا في التبسيط لكن أردت أن أحدد _ قدر الإمكان _ الخطوط العريضة لخريطة غابة دهماء شاسعة ، هي غابة هذا المصطلح كما يبدو في الفكر النقدي الحديث الشديد التدافع والتشابك في آن !!

          فلا تخفى عليّ التعددية في كلمات أخرى _ مثل الشاعرية والشعرية والجمالية والإنشائية _ هذه الكلمات التي تبدو مرادفة للأدبية إلى درجة فيها ظلال كثيفة مغرّرة . كما لا يغيب عني أن هناك تعددية في المفهوم أيضًا لا في المصطلح فحسب .

          ولكن ظني القوي أن الاختلافات الجوهرية ليست شديدة الحدة على كل حال . فالأدبية عند المدرسة الشكلية الروسية تتجلى في الوظيفة الشعرية للغة ، حيث التركيز على المُرسلة الكلامية بحد ذاتها حيث تكمن قيمتها المستقلة في ذاتها ، لا في غاياتها النفعية . وهذا قريب جدًا مما حدده فراي أيضًا في تعريفه للأدب . والأدبية عند بعض الأسلوبيين تتحقق في قدرة النص الأدبي على خرق المقاييس العادية للكلام ، أو ما يسمونه بالانحراف ، الذي يمثل السمة الخاصة المميزة للأثر الأدبي ويحقق اللغة الفردية الخاصة بالأديب . والأدبية عند السيميولوجيين تتركز على مبدأ إشارية اللغة وعلى مايسمونه العلامة . والأدبية عند المدارس النفسية ، حتى تلك التي جمعت بين النقد النفسي والألسني تتجلى في غنى النص في بنيته اللاواعية ، حيث نجد الأدبية في خصب هذه البنية ، وفي مقدار مايهبه النص من اختزالات للاوعي الجمعي ، وعلى مقدار ما فيه من حلم وخيال وصورة خلاّقة مثيرة . وهذه الأخيرة عند بعضهم ، مثل لاكان وباشلار ، هي الأساس في نسيج الكتابة الأدبية . ([3])

          ويظهر أن حركة هذا المفهوم وجهود العاملين فيه تتجه للبحث في الخصائص المتصورة والممكنة , في الوقت الذي تتجه فيه أيضًا لفحص الآثار الأدبية المتحققة والماثلة فعلاً . وهو اتجاه يتفق مع الهدف الأكبر الذي تسعى إليه  بعض المناهج النقدية الحديثة وهو إيجاد علم للأدب .

          فالأدبية إذًا مسعى للتنظير للخطاب الأدبي بغض النظر عن أنواعه ، وهي أيضًا سعي لاكتشاف أدبية الأدب الممكنة والمتحققة معًا . ولعلي من هذا المفهوم العام الواسع ألج إلى موضوع بحثي عنها في التراث النقدي والبلاغي عند العرب .

          لعلي لا أسارع بإعلان هذه النتيجة ، فهي تبدو بديهية مقررة فوق أنها متوقعة ، وهي أن مصطلح الشعرية أو الأدبية كان غائبًا عن النصوص النقدية العربية القديمة ([4]) . ولكن وإن غاب المصطلح فإن المفهوم كان حاضرًا بقوة في بعض جوانبه واتجاهات النظر فيه . وسأشير إلى عدد من المفاهيم حول الأدبية الغائبة غير المعلن عنها ، والتي حركت عددًا من الاتجاهات والقضايا . والدراسات النقدية . أما النصوص التنظيرية التي صرّحت بمفاهيمها ورؤاها النقدية فسيأتي الحديث عنها لاحقًا .

          إن السعي وراء الأدبية كان المحرك والدافع لمعظم الدراسات البلاغية والنقدية ، فالبحوث والدراسات البلاغية مثلاً كان دافعها في الأصل البحث في الإعجاز القرآني . وهذا كان واحدًا من المؤشرات إلى تنبه العرب إلى أن ثمة أدبية تتحداهم في أدبية القرآن ، وبالتالي لفتت الأذهان إلى أن ثمة أدبيات أخرى لأنواع الأدب الأخرى غير أدبية  الشعر ، التي كانت لها الوجاهة لفترة طويلة .

          كما أن الاستناد إلى مفهوم في  الأدبية كان هو المحرك الخفي غير المعلن عنه في عدد من الدراسات . فثمة أدبيات غائرة مثلاً في معظم عمليات الاختيارات _ الاختيارات الشعرية الخاصة _ وفي المؤلفات الأدبية عامة . كما أن هناك _ حتمًا _ مفهومًا ما عن الأدبية انطوى وراء قضية القديم والمحدث وقضية السرقات الأدبية ، وحرك عددًا من الدراسات حولها ؛ إذ ما البحث في عيوب النص الذي يكون عالة على غيره إلا الوجه الآخر للمطالبة بالأدبية والنص المفعم ابتكارًا وتجديدًا . ووراء هذا الولع بالابتكار مفهوم يرى أن أدبية النص تكمن في التجديد . وهي نزعة لها ما يفسرها في عصر راج فيه الولع بالجديد . وهو ولع فرضه روح العصر ، الذي طفق فيه الشعراء يتفننون في البديع ، ويتبارون في محاولة التجديد وكسر التقاليد الشعرية ، عامدين متعمدين الإغراب والإدهاش وإرضاء ذائقة العصر ، عاكسين بذلك كله _ شعراء ونقادًا _ جانبًا من طبيعة الحياة العباسية المترفة وما فيها من تأنق وتفنن وتصنع .

          وثمة مفهوم عن الأدبية  أيضًا كمن وراء قضية حل النظم ونظم النثر ، هذه الفكرة التي تشير إشارة صريحة _ في مجملها _ إلى أن ثمة اعتقادًا بأن أدبية الاثنين معًا متجاورة ، بل ومتمازجة إلى درجة تسمح بهذه الرحلة في النسيج اللغوي دون تحفظات أو جوازات مرور . وهو تسامحٌ بالامتزاج يعكس الرؤية التي تؤمن بالخصائص المشتركة للأدب عامة .

          ولعل من أبين مظاهر تعددية مفهوم الأدبية الاختلاف في تحديد موطن أدبية النص الواحد ، الذي يتناوله عدد من النقاد . ومن أشهر الأمثلة على هذا محاولة تحديد أدبية أبيات " كثير" المشهورة التي يقول فيها :

                   ولمـا قضينا من منى كـل حاجة                 ومسَّح بالأركان من  هو ماسحٌ

                   وشدّت على حدب المهارى رحالُنا           ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

                   أخـذنا بأطراف الأحـاديث بيننا               وسالت بأعناق المطي الأباطح([5])

  ويفهم من هذا أن النصوص التي يمكن أن تدخل في هذه الدراسة كثيرة ومتنوعة ، وتحمل سمة التعددية في المفهوم ذاته _ كما هو حادث الآن أيضًا في النقد الحديث _ فكل له اتجاه ، وكل له زاوية نظر خاصة . فهذا التراث النقدي على الرغم مما يحمله من لفتات بارعات ، إلا أنه من العسير _ أحيانًا_ الخروج برؤية منظمة مشتركة تسم مجمله . وإن كان هذا لا ينفي إمكانية تنضيد اتجاهات رئيسة عامة ، وإن كان _كذلك_ لا ينفي إمكانية الخروج برؤى فردية ، خاصة عن تلك الدراسات النقدية المستقلة .

          ومن أجل هذا كله ( تعددية المفهوم وتوزع النصوص ) اخترت النصوص من المستوى التنظيري . وهي نصوص تتفق مع المفهوم الذي اصطفيته هنا للأدبية ، وهو المفهوم العام الواسع للأدبية باعتبارها مسعى لإيجاد قوانين للبلاغة العامة , وباعتبارها البحث في الخصائص والمقومات التي تجمع أنواع المخاطبات ، وتمنحها سمة الأدبية بغض النظر عن نوعها ، أي أنها تلك المساعي التي تروم استخلاص قوانين كلية للخطاب الأدبي .

          وهذا يعني أني أعي أن ثمة رؤى غير متجانسة مع ما أصطفيه هنا من نصوص ، ولكني أرى أنه بتحديدي المفهوم الذي انطلق منه ، وبتحديدي لنوعية النصوص والمستوى الذي أعمل عليه ، وهو المستوى التنظيري _ فإن ذلك يسمح بمحاولة تقصي رؤية مشتركة . وهو مسعى مع ما يحف به من تعقيد ، ومع ما يمكن أن يوسم به من مجازفة إلا أنه مسعى يهدف أولاً وأخيرًا إلى محاولة استحضار صورة لجانب من التفكير النقدي وتركيبها لتُمثّل في مجملها بناء متماسكًا ومتجانسًا . وهي محاولة وإن كانت مُركّبة من عدد من النصوص ، وممتدة عبر عدد كبير من القرون إلا أنها تهدف إلى استكشاف جوانب من هذا البناء وإعادة النظر في نظامه . ويحقق هذا القسم من البحث الماثل أمام القارئ جزءًا من هذا الهدف ليكتمل في قسم لاحق يتبعه بإذن الله .

          وسأبدأ بعرض عدد من التعريفات للبلاغة بدءًا من القرن الأول الهجري ، مختارة عددًا من التعريفات التي نحت المنحى المشار إليه ، وهو التنظير للبلاغة العامة باعتبارها ( تلك النصوص ) تمهيدًا لفكرة البلاغة الواحدة ومسعى التنظير لقوانين الخطاب الأدبي ، ثم أقف بعد ذلك عند عدد من التنظيرات في النصوص التي جاءت ضمن مؤلفات مستقلة ، والتي هجس أصحابها بهاجس التنظير ، الذي يُلمح فيه الاتجاه لاستخلاص قوانين عامة للخطاب الأدبي .

 

 

 

3- قوانين عامة للخطاب :

أ- مسعى التنظير للبلاغة العامة في تعريفات البلاغة :  

          عرّف ابن المقفع في القرن الأول الهجري البلاغة قائلاً : " البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة . فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا ، ومنها ما يكون ابتداء ، ومنها ما يكون شعرًا ، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا ، ومنها ما يكون رسائل . فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها ، والإشارة إلى المعنى ، والإيجاز هو البلاغة ..." ([6])

          وواضح اهتمام ابن المقفع بشرح وجوه البلاغة وسبلها عامة . وواضح إشراكه النثر مع الشعر في هذه البلاغة العامة التي منها السكوت ، والاستماع ، والإشارة ، والاحتجاج ، والجواب ، والابتداء ، والشعر ، والخطب، والسجع ، والرسائل . وأهم سمة بلاغية في هذه الوجوه كلها هي الوحي فيها ، والإشارة إلى المعنى ، أو كما قال _ الإيجاز هو البلاغة . فعلى الرغم من كل هذه التنويعات الأدبية إلا أن السمة الجامعة التي تطبعها _ إذا تحققت _ بطابع البلاغة هي الوحي والإشارة .

          ويلفت النظر جمعه هذه الأنواع المتعددة تحت طابع بلاغي واحد . كما تلفت النظر هذه اللمعات البارعة المبكرة في جعله السكوت والاستماع والإشارة أنواعًا لها سمة الأدبية ، خاصة إذا ما قُرن ذلك بالدلالات الفنية لشرطي الوحي والإشارة . وقد أوردت نصه هذا لإيضاح هذا المسعى المبكر لجمع أنواع كثيرة تحت سمة بلاغية وتحت بلاغة عامة واحدة . حتى وإن لم تكن بعض تلك الأنواع من الفنون القولية كالسكوت والاستماع . ولكن هذا يشير إلى أن ثمة إحساسًا قد فرض نفسه على المُنظِّر بأهمية وضع قوانين كلية ضابطة لأنواع الخطاب البليغ ، حتى وإن كان الخطاب غير قولي في الأساس . إنها الحاجة لاستخلاص الخصائص والسمات ، وهي عند ابن المقفع تكمن في الإيجاز ، وفي الوحي والإشارة .

          أما كيف ينطبق الوحي والإشارة على بلاغة السكوت والاستماع ؟ وكيف تتحقق بلاغة كل منهما أصلاً ؟ فهو ما لم يتضح من نصه ويحتاج إلى وقفة مستقلة ليس هذا مكانها .

          ومثل هذا الاهتمام بالشعر والنثر معًا في مقام واحد بهدف التنظير لهما معًا لإيضاح الخصائص الأدبية وأساليب الإجادة والإبداع الأدبي ، نجده في نص آخر هو نص بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة . وفيه نضد بشر للأديب ثلاث منازل ، يترقى فيها الأديب في مدارج الأدبية خلال معاناته لعملية الإبداع الأدبي شعره ونثره . وأعلى هذه المنازل _ وهو ما يهمني هنا إذ فيه تكمن الأدبية كما يراها _ أن يكون اللفظ رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلاً ، ويكون المعنى شريفًا . ومدار الشرف _ كما قال _ على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال . ولا تكمن أهمية نص بشر فيما تقدم فقط بل فيما قاله أيضًا بعد ذلك . فنحن نعلم أن مسألة مراعاة المقام مسألة تحكمت كثيرًا في مقياس أدبية النص وبلاغته ، وفيها تحكيم لمواضعات خارجية عن النص فيه . ولكن بشرًا يضيف حول هذه المسألة شرطًَا آخر لأدبية النص يقول : " المعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة ، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكون من معاني العامة . وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة ، مع موافقة الحال ، وما يجب لكل مقام من المقال . وكذلك اللفظ العامي والخاصي . فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك ، وبلاغة قلمك ، ولطف مداخلك ، واقتدارك على نفسك إلى أن تُفهم العامة معاني الخاصة ، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف على الدّهماء ، ولا تجفو عن الأكفاء  ، فأنت البليغ التام . " ([7])

          فالحكم بالبلاغة التامة للأديب هو حكم _ ضمنًا _ بأدبية النص البارعة . فبشر يرى أن أعلى المنازل هي المنزلة التي يبدو فيها اللفظ رشيقًا عذبًا حيث يجب أن يكون كذلك ، وفخمًا سهلاً حيث يجب أن يكون كذلك . وأعلى ما في هذه المنزلة ، وقمة ما فيها أن تبلغ قدرة الأديب حدًا يستطيع معه تقريب المسافات بين معاني الخاصة والعامة ، وتقريب معاني الخاصة _ خاصة _ إلى العامة دون إخلال بما يتوجب فيه من شروط فنية فتلك هي قمة المنزلة و قمة البلاغة عنده . وفي هذا نوع من تأثير الطبقية الاجتماعية على التفكير التنظيري ، حيث نرى طبقية المعنى تتوازى مع الطبقية الاجتماعية . ولكن هذا التأثير لا ينفي أهمية ما يُلمح في النص من شعور مرهف بأن ثمة اختلافات دقيقة بين المعاني وبين السياق الذي تظهر فيه ، وأن المبدع ، لكي يبدع ، يجب ألا يقر بتلك الفواصل ، بل يجب أن يقرب تلك المسافات ، ويسيطر على لغته بحيث يسهم في كسر ثنائية النخبة والعامة .

          إننا إذا نظرنا إلى إشارته تلك من هذه الزاوية بدت إشارة مهمة من جانبين ، جانب طبقية المعاني والسياقات المطروحة فيه ، وجانب آخر متعلق بها ومبني عليها _ كما هو واضح من نصه _ وهو جانب وظيفة الأديب أو دوره في كسر النخبوية . وطبعًا هذا الدور الذي يحرص بشر على أن يلعبه الأديب _ والخطيب بشكل خاص _ له دوافعه الفنية والاجتماعية والحضارية يبدو هنا أقوى وأشد حضورًا . فقد كان في موقف المعلم للخطابة  ، وصحيفته هذه أصبحت دستورًا يتداوله المتأدبون والناشرون ، في عصر أولع الناس فيه بالمناظرة والجدل والكلام ، واصطرعت فيه الفرق الدينية والسياسية ، وتدافعت إلى المنابر تتوجه إلى عامة الناس تحاول استمالتهم عن طريق الأدب والخطب خاصة ، وتحاول استقطابهم والتأثير فيهم . لذا كان من المهم أن يؤكد بشر على هذا الدور ، وأن ينص على أن براعة الأديب تكمن في سد الفجوات في تلك الطبقية .

          وإذا ما انتقلتُ لأتابع هذا الخط _ خط التنظير للخطاب الأدبي عامة _ وامتداده عبر القرون فسنجده حاضرًا باستمرار . فهذا مثلاً المبرّد في القرن الثالث يتلقى سؤالاً عن " أي البلاغتين أبلغ ؟ أبلاغة الشعر أم بلاغة الخطب والكلام المنثور. " ([8]) والسائل _ وهو أحمد بن الواثق _ جعل البلاغة بلاغتين ، لكن المبرّد في جوابه يردهما إلى معين واحد ، ويجعل الشعر والنثر يشتركان في بلاغة واحدة مساويًا بينهما في معظم الخصائص الفنية البلاغية ، حتى لا يختص الشعر إلا بالوزن والقافية ([9]).

          والمتتبع لهذه النظرة _ النظرة إلى البلاغة على أنها بلاغة عامة مشتركة بين الأنواع الأدبية _ يلحظ أنها تستمر فيها بعد ذلك من قرون أيضًا . فأبو هلال العسكري _ مثلاً _ في القرن الرابع يُعرّف البلاغة ويورد أمثلة لها نثرًا وشعرًا معًا . ويورد تعريفات السابقين له ، تلك التعريفات التي نظرت النظرة نفسها ، وكأنما يؤكد بذلك عليها ، ويؤكد استمرارها ، فضلاً عن أنه سمى كتابه (كتاب الصناعتين : الكتابة والشعر) ([10]).

          أما في القرن الخامس فيمكن أن أشير إلى المرزوقي الذي ينصّ في مقدمته لشرح ديوان حماسة أبي تمام على أن " نظام البلاغة يتساوى في أكثره المنظوم والمنثور. " ([11])

          وتستمر هذه النظرة أيضًا في القرن السادس كما هي عند الكلاعي مثلاً في كتابه إحكام صنعة الكلام ، وفي القرن السابع كما هي عند ابن الأثير ، ضياء الدين في كتابه المثل السائر ... الخ .

          وكلها نصوص تشير إلى اتجاه أصحابها إلى الجمع بين الأنواع الأدبية شعرًا ونثرًا تحت سقف بلاغة مشتركة ، وخصائص فنية مشتركة ، مع ملاحظتهم اختلاف نسبة حضورها في نوع دون آخر,  ولكن المهم هنا هو استمرار هذا الاتجاه عبر هذه القرون إلى إرساء مفهوم البلاغة الواحدة المشتركة ، على الرغم من وجود اتجاهات أخرى كانت تحاول وضع حدود صارمة بين أنواع الخطاب الأدبي .

          وسأتناول فيما يلي عددًا من النصوص في عدد من المؤلفات المستقلة التي حملت محاولات تنظيرية ، كان أصحابها يعون مسعاهم نحو التنظير ، وكانوا يهجسون باستخلاص قوانين عامة للخطاب الأدبي .

 

ب - في نظرية البيان عند الجاحظ :

          أظنني لا أبالغ إذا قلت إن الجاحظ في محاولاته المتكررة في كتبه للحديث عن البلاغة والبيان خاصة إنما كان يحاول الدوران حول مفهوم الأدبية ، وربما كان هاجسه وإن لم يقع تمامًا على الحدود الاصطلاحية لهذا المفهوم . فنظرية البيان عند الجاحظ التي تناثرت في كتبه ولا سيما كتاب ( البيان والتبيين ) في مجمل مضامينها تقارب وتناوش جوانب هذا المفهوم ([12]). ولن أتوقف عند مجمل هذه النظرية وعمومياتها ، ولكني هنا سأنتخب نصوصًا بعينها من كتابه البيان والتبيين أجد لها أهمية خاصة في هذا المقام .

          يقول الجاحظ متحدثًا عن البيان : " والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى ، وهتك الحجاب دون الضمير ، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان ، ومن أي جنس كان الدليل ؛ لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام ، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى ، فذلك هو البيان في ذلك الموضع . ثم اعلم _ حفظك الله _ أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية ، وممتدة إلى غير نهاية ، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ، ومحصلة محدودة . وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد : أولها اللفظ ، ثم الإشارة ، ثم العقد ، ثم الخط ثم الحال التي تسمى نصبة . والنّصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ، ولا تقصر عن تلك الدلالات . ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صور صاحبتها ، وحلية مخالفة لحلية أختها ، وهي التي تكشف لك عن أعين المعاني في الجملة ، ثم عن حقائقها في التفسير ، وعن أجناسها وأقدارها ، وعن خاصها وعامها ، وعن طبقاتها في السار والضار ، وعما يكون منها لغوًا بهرجًا وساقطًا مطرحًا ."([13])

          ومن المهم ملاحظة عدة أمور في نص الجاحظ السابق ؛ من المهم أن نلاحظ تأكيد الجاحظ على أن ما يهجس به ، وما يسميه البيان هو اسم جامع ينتظم كل شيء يهتك قناع المعنى . كما أنه من المهم ملاحظة تصنيف الجاحظ لأنواع الدلالات البيانية . وهي خمسة كما عددها :  اللفظ ، والإشارة ، والعقد ، والخط ، والنصبة . وهو مدرك أن تلك الأصناف الدلالية ، وإن اختلفت في صورها إلا أنها تتفق في غايتها ووظيفتها . وهذا ملمح مهم يشير إلى مسعاه نحو تنضيد قانون كُلي هو البيان . ويشير الجاحظ في الوقت نفسه _ إلى أن هذه الوظيفة هي الكشف ، لكنه كشف عن  (أعيان المعاني بالجملة ، ثم عن حقائقها في التفسير ) إنه _ إذًا _ كشف عن أعيان المعاني فقط . وهذا أمر مهم جدًا , إذ إن ذلك يقرر _ ضمنًا _ رأي الجاحظ في أن الأدبية أو البيان تكمن هنا بالضبط في إحراز أكبر قدر من الكشف عن أعيان المعاني . وهذا يعني أنه يهجس بتلك ا لجوانب التي تبقى غائبة من هذه المعاني ، وأن السعي وراء هذه الغائبة سعي وراء الكشف الذي هو قمة البلاغة والبيان .

          ولا أظن أن معنى الكشف هنا يمكن أن يفسر بأنه الوضوح كما قد يتبادر إلى الذهن . فقد أشار في أول نصه هذا إلى أن للمعاني أقنعة ، وأنها محتجبة في الضمائر مكنونة فيها . وأظن أن مفهوم الكشف هنا مفهوم متقدم جدًا يتجاوز كشف المعاني فقط . فليس المراد هو هذه العلاقة الثنائية المتواشجة بين اللفظ والمعنى فحسب في مستواهما النفعي فقط ، وإنما يتجاوز ذلك إلى دلالة النص إجمالاًً . وربما كان يهجس بتواشجهما في مستواه الأدبي , فأصناف الدلالات لا تقدم كشفًا للمعاني والحقائق في المستوى البسيط ، وإنما تقدم كشفًا باعتبارها كائنًا جديدًا متشكلاً يقدم في مادته الكون والإنسان ، يقدم الأثر الأدبي كواحد من أصناف الدلالات التي عددها . لذا أرى أن قصده بالكشف هو الكشف عن بنية العبارة والأثر المراد إيصاله إلى التلقي . فهو السبر الداخلي لبنية النص الأدبي لحظة تشكله لدى المبدع ولحظة تلقيه لدى السامع . فمدار الأمر _ كما قال _ والغاية التي يجري إليها كل من القائل والسامع هي السعي نحو الإدراك والفهم والإفهام . وهو فهم وإفهام يظل في فلك السعي نحو الكشف ، ذلك الكشف الذي يتحول بالنص ( الكون والإنسان) عن طريق اللغة أو الدلالة إلى دليل على الخالق . ومن هنا يتقدم هدف الكشف المتجه أساسًا نحو المعرفة كشرط للوجود والكينونة والعلاقات القائمة المشتبكة .

          ولست أريد أن أحمل مصطلح الكشف لديه أكثر مما يحتمل ، ولكن يكفيني هنا أن أشير إلى هذه اللفتة البارعة عند الجاحظ في نظرية البيان ، وإلى هذا التصريح الواضح عنده بأهمية الجانب الوظيفي في أصناف الدلالات البيانية المختلفة ، التي عدَدَها والتي تتنوع ابتداء من اللفظ ومرورًا بمفهوم الإشارة ، والخط والكتابة ، والعقد ، وانتهاء بدلالة الحال أو ما سماه النصبة التي تقوم مقام تلك الدلالات أيضًا ، بل ولا تقصر عنها ! والحديث عن بيان النصبة والحال يذكر بحديث ابن المقفع المتقدم عن بلاغة السكوت وبلاغة الاستماع ، اللتين عدهما صنفين قائمين بذاتهما .

          ويلمح في إشارته إلى الجانب الوظيفي في جميع هذه الأصناف اهتمامه بالآخر ، بالمتلقي والكون الخارجي ، حيث ثمة علاقة تواشجيه تفرض نفسها ، لا على مستوى العلاقة المألوفة بينهما التي تنشأ بعد الانتهاء من العملية الإبداعية ، بل إنها علاقة تفرض نفسها بقوة وتكون حاضرة بإلحاح حين الإبداع ، ومن ثم تصبح تلك العلاقة مقياسًا في العملية النقدية التي تفحص مستوى الأدبية في النص انطلاقًا من هذا الجانب الوظيفي في مستوى الكشف المتضمن في أحد شقيه وظيفة الإفهام.([14]) ومستوى الكشف المتحقق في النص تقوم مسؤوليته الكبيرة على عاتق المبدع حين إنجاز النص . وسنجد أن مسألة الكشف هذه تبدو مرة أخرى عند الجرجاني من جهة أنها مهمة تقع مسؤوليتها على القارئ أو المتلقي الذي يقوم بعبئها الأكبر . وتجئ متعة هذا العبء من خلال متابعة القارئ لنص قد تحققت أدبيته من خلال المعاني المتأبية المراوغة أيضًا ، تلك المعاني التي لا تتجلى رويدًا رويدًا إلا بعد كد جميل !!

 

ج _ في معنى المعنى والوظيفة الجمالية عند الجرجاني :

          من الكلام المكرر أن أقول إن الدوافع الدينية للبحث في بلاغة القرآن وإعجازه كانت أول دوافع الجرجاني لتأليف كتابه دلائل الإعجاز . ولكن التذكير بهذا الأمر في هذا المقام مهم من حيث كون ذلك الدافع هو المنطلق بدءًا ، ومن حيث دلالته على أن ثمة شعورًا ملحًا بتحدي أدبية القرآن للأدبيات المعروفة لديهم . وذلك بالتالي ، فرض أن يكون موضوع الدراسة ومادة الكتاب من هذه الأدبيات مجتمعة ومختلطة ، في محاولة لاكتشاف سر الأدبية في عموم أنواع الخطاب الأدبي . وهذا ما أردت الإشارة إليه وهو أن الكتاب يسلك في هذا الاتجاه ، اتجاه السعي وراء استنباط قوانين كلية .

          والجرجاني _ كما هو معروف _ حاول الاستنباط وسبر النصوص في بنيتها العميقة وخرج بتنظيرات ولمحات بارعة . وأعتقد أن أفضل وأكمل مسعى من مساعي النصوص النقدية العربية نحو التنظير للأدبية تتبدى في محاولة الجرجاني في نظريته المتماسكة نظرية النظم . حيث نجد  في ( دلائل الإعجاز)نظرات ثاقبة لفحص النص الأدبي من الداخل، باعتباره كلاً واحدًا وبنية متصلة متآخذة.([15])  وقد أقام هذه النظرية على أساس أن التركيب النحوي للجملة يعطي دلالات خاصة ودقيقة لا يمكن أن تتماثل حتى مع التغييرات الطارئة الطفيفة ، إذ تحدث عندها تحولات المعاني تبعًا لتحولات التركيب والإسناد في الجملة .

          وقد كانت قضية المعنى في هذه النظرية قضية أساسية ، وكان أوسع باب فصّل فيه وأسهب باب التقديم والتأخير . ثم صال صولات وجولات واسعة في هذا الميدان . وتحدث عن الاستعارة والتشبيه والكناية في التركيب الأدبي ، وكيف تؤثر على جماليات الأسلوب والعبارة البليغة ، وانتهى إلى تلك اللفتات الذكية حول ما سماه المعنى ومعنى المعنى . وفيها إشارات رائدة إلى مستويات المعنى وطبقاته في العبارة الواحدة . ولفت الأنظار إلى أهمية أثر مسحة الغموض الضرورية التي توجد في النص ، فتستثير القارئ للبحث فيجد متعته في الكشف ، تلك متعة الكشف التي هي جزء من جمالية الأدب ذاته . وأعتقد أنه هنا بالضبط _ في مسألة المعنى ومعنى المعنى وما بينهما من  عوالم غنية بالدلالات وما فيها من مجالات خصبة لسعي كل من المبدع والقارئ _ تكمن أدبية النص كما يراها الجرجاني .

          وقد نثر أحاديثه عن المعنى ومعنى المعنى في تضاعيف كتابه ، ولكنه غالبًا ما يربط بين هذه المعاني المراوغة التي يسعى القارئ وراء طبقاتها الغنية القصية وبين الحيل الفنية الأدبية التي يعمد إليها الأديب _ ويركز بصفة خاصة _ على الاستعارة والكناية والتمثيل . يقول : " الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة ... وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يتضمنه موضوعه في اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثابتة تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكتابة والاستعارة والتمثيل ... وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول " المعنى" و " معنى المعنى " ، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ ، والذي تصل إليه بغير واسطة ، وبمعنى المعنى أن تحتمل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر. " ([16])

           ويقول في موضع آخر مشيرًا إلى أن هناك دائمًا مستويات وطبقات في المعنى ([17]):"وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز ، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة ، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر. " ([18])

          وواضح مما تقدم أنه في حديثه يتجاوز الخطاب العادي في وظيفته النفعية المباشرة ، ويركز على النص الأدبي ذاته ، وعلى الوظيفة الجمالية التي يمنحها للقارئ . والجرجاني يولي القارئ اهتمامًا بالغًا ، حتى إنه يصح أن نسمي جهده التنظيري في كثير من المواضع أنه تنظير للنقد والقراءة ومباحث في جماليات التلقي . يقول : " قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزّية وأنها من خير المعاني دون الألفاظ ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك ، بل حيث تنظر بقلبك ، وتستعين بفكرك ، وتعمل رويتك ، وتراجع عقلك ، وتستنجد في الجملة فهمك ، وبلغ القول في ذلك أقصاه ، وانتهى إلى مداه . وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزّية وبيان الجهات التي منها تعرض. وإنه لمرام صعب ، ومطلب عسير ولولا أنه على ذلك لما وجدت بين مفكر له من أصله ومتخيّل على غير وجهه ، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة ، ولا يملك في إلا الإشارة ... وأن معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير ... وأنه ليس للواصف لها إلا أن يلوّح ويشير ، أو يضرب مثلاً ينبئ عن حُسن قد عرفه على الجملة ، وفضيلة قد أحسّها ، من غير أن يتبع ذلك بيانًا ، ويقيم عليه برهانًا ، ويذكر له علّة ... وأنا  أنزل لك القول في ذلك ، وأدرجه شيئًا فشيئًا . " ([19])

          وقال في موضع آخر مشيرًا إلى الوظيفة الجمالية للنص التي يمنحها للقارئ فتجعله يحظى بمتعة الكشف واكتشاف النص : " إن المعنى إذا أتاك ممثلاً فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة ، وتحريك الخاطر له والهمة في طلبه . وما كان منه ألطف كان امتناعه عليك أكثر ، وإباؤه أظهر ، واحتجابه أشد . ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له ، والاشتياق إليه ، ومعاناة الحنين نحوه ، كان نيله أحلى ، وبالمزية أولى ، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف ، وكانت به أضنّ وأشغف . " ([20])

          وقال في موضع آخر ناصًا على مسألة الكشف هذه ، ومؤكدًا على ناحية مهمة ، وهي حسن التأني والبراعة من قبل القارئ ، إذ هو يتطلب قارئًا مميزًا : " إن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدق لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه ، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه ، ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه ، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه ، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة ويكون في ذلك  من أهل المعرفة ، كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له . " ([21])

          إذًا ، فالأدبية عند الجرجاني تكمن في معنى المعنى ، وفي الصياغة التي يتحقق بها معنى المعنى ، وعن طريق الاتساع في اللغة عن طريق المجاز والاستعارة والكناية والتمثيل ، ومن ثم تكمن في الوظيفة الجمالية للنص ، إذ يحقق المتعة الجمالية الممنوحة للقارئ . هذه هي القاعدة الكلية التي يستنبطها الجرجاني من تحليله للخطاب المعجز _ القرآن _ ومن تحليله لعدد من النماذج الأدبية ، المفعمة بالأدبية والتميز .

 

د- في القول الشعري والتخييل والمحاكاة عند الفارابي وابن سينا والقرطاجني والسجلماسي :

 

          إن أول وأشهر من أقف عنده ممن تحدثوا في أن جوهر الأدب شعرًا كان أم نثرًا هو المحاكاة ، الفارابي ، الذي كان يرى أن أدبية النص تكمن في هذه المحاكاة ، وأطلق على هذا الأدب مسمى  "القول الشعري" . وانتقل مصطلحه هذا وانتشر بين عدد من الفلاسفة والنقاد ، وامتد حتى وصل إلى المغرب العربي حيث يتردد في كتاب حازم القرطاجني في أواخر القرن السابع الهجري .

          يقول الفاربي : " والقول إذا كان مؤلفًا مما يحكي الشيء ، ولم يكن موزونًا بإيقاع فليس يعد شعرًا ، ولكن يقال هو قول شعري . فإذا وزن مع ذلك وقسم أجزاءً صار شعرًا . فقوام الشعر وجوهره عند القدماء هو أن يكون قولاً مؤلفًا مما يحاكي الأمر ، وأن يكون  مقسومًا بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية ، ثم سائر ما فيه فليس بضروري في قوام جوهره ؛ وإنما هي أشياء يصير بها الشعر أفضل . وأعظم حدين في قوام الشعر هو المحاكاة وعلم الأشياء التي بها المحاكاة ، وأصغرهما الوزن . والخطابة قد تستعمل شيئًا من المحاكاة يسير ، وهو ما كان قريبًا جدًا واضحًا مشهورًا عند الجميع . وربما غلط كثير من الخطباء الذين لهم من طبائعهم قوة على الأقاويل الشعرية فيستعمل المحاكاة أزيد مما شأن الخطابة أن تستعمله ، غير أنه لا يوثق به فيكون قوله ذلك عند كثير من الناس خطبة بالغة ، وإنما هو في الحقيقة قول شعري قد عدل به عن طريق الخطابة إلى طريق الشعر . وكثير من الشعراء الذين لهم أيضًا قوة على الأقاويل المقنعة يضعون الأقاويل المقنعة ويزينونها ، فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرًا ، وإنما هو قول خطبي عدل به عن منهاج الخطابة ، وكثير من الخطباء يجمع خطبته الأمرين جميعًا ، وكذلك كثير من الشعـراء ، وعلى هذا يوجد أكثر الشعر . "([22])

          ويستوقف الفكر مصطلحه " القول الشعري" الذي يقترب من مصطلح الشعرية ، فالقول الشعري عنده هو القول الذي يمكن أن يحقق الشعرية سواء أكان شعرًا أم غير شعر . ويحسن أن أتريث قليلاً عند شرحه المقتضب لهذا المصطلح لنقترب منه أكثر . الفارابي كما هو واضح من النص السابق ، يرى أن جوهر الأدب _ بما هو أدب _ هو المحاكاة ، والذي يفصل بين ما هو شعر وليس بشعر إنما هو شيء يتعلق بالنسبة فقط ، نسبة ما فيه من المحاكاة في المقام الأول . ويشرح هذه المحاكاة ويقسمها كذلك إلى نوعين : محاكاة بفعل ومحاكاة بقول . وهذه الثانية هي المختصة بالأقاويل الشعرية . ويقسمها كذلك إلى قسمين يقول : " والمحاكاة بقول هو أن يؤلف القول الذي يضعه أو يخاطب به من أمور تحاكي ذلك الشيء الذي فيه القول . وهو أن يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء ، ويلتمس بالقول المؤلف مما يحاكي الشيء تخييل ذلك الشيء ، إما تخييله في نفسه ، وإما تخييله في شيء  آخر ، فيكون القول الحاكي ضربين : ضرب يخيل الشيء نفسه ، وضرب يخيل وجود الشيء في شيء آخر ." ([23])

          ثم يفصل في مسألة التخييل هذه ويشير إلى قضية الواقع والمرآة ، والتباعد عن الحقيقة برتبتين في بعض حالات المحاكاة . ويختم رسالته هذه في الشعر بهذه الإضافة حيث يقول : " وكثير من الناس يجعلون محاكاة الشيء بالأمر الأبعد أتم وأفضل من محاكاته بالأمر الأقرب ، ويجعلون الصانع للأقاويل التي بهذه الحال أحق بالمحاكاة وأدخل في الصناعة ، وأجرى على مذهبها ." ([24])

          وهاهو _ إذًا _ يضيف إن القول الشعري يكون بمحاكاته للشيء الأبعد أدبيًا أكثر وأقرب إلى جوهر الأدبية ، أو _كما قال _ أدخل في الصناعة وأجرى على مذهبها . بل ويتحول نص هذه المحاكاة إلى مثال هو نفسه يُحاكى لفرط جودته !! وكأن هذا القول يناوش مقولة بعض المحدثين الآن في الحديث عن الواقع المُعطى والواقع المبني . أما حديثه عن محاكاة الأمر الأبعد فيذكّر أيضًا بما استحسنه الجرجاني أيضًا من أن أفضل الاستعارات ما جمعت أعناق المتنافرات والأشياء المتباعدة ، التي قد لا يخطر على الذهن الجمع بينهما .

          ويتواتر التراث النقدي من بعد الفارابي مصطلح القول الشعري وفكرة أن المحاكاة والتخييل هما جوهر العمل الأدبي ، فنجدها بمعظم تفصيلاتها عند ابن سينا . وكذلك توقف عندها حازم القرطاجني طويلاً في مواطن متفرقة من كتابه ، لكنه يضيف إليها دائمًا فكرة القصد والغاية في صناعة الشعر والخطابة ، ويضيف مزيدًا من التأكيد على الأثر النفسي الذي يجب أن يحدثه العمل الأدبي من تحسين أو تقبيح ، أو حث وترغيب أو ترهيب .

          ولن أتوقف عند نصوصهما لأن مجملها لا يخرج عما أشار إليه الفارابي من أن أدبية النص تقوم على نسبة ما فيه من محاكاة وتخييل . ولكني أود أن أتابع هذه الفكرة كما وصلت إلى ناقد مغربي في القرن الثامن الهجري هو السجلماسي ، وإن كان لا يضيف جديدًا من حيث كونها جوهر العمل الأدبي ، ولكني سأورد نصه هنا لما فيه من نص صريح على هذه الجوهرية من جهة ، ولما في عبارته من إدراك لأهمية التحديد ، ولما يتضح من كلامه من وعي بأهمية التنظير الدقيق . يقول تحت القسم الذي سماه " الجنس الثاني" ووضع له عنوانًا "التخييل" : " هذا الجنس من علم البيان يشتمل على أربعة أنواع تشترك فيه ، ويحمل عليها من طريق ما يحمل المتواطئ على ما تحته ، وهي أنواع التشبيه ، ونوع الاستعارة ، ونوع المماثلة _ وقوم يدعونه التمثيل _ ونوع المجاز . " ([25])

          والبيان عنده لا يختص بالشعر وحده . وكتابه قائم كله على أمثلة تطبيقية من النثر والشعر معًا . ومع أنه ينص على أن هذا الجنس الثاني من علم البيان وهو التخييل هو موضوع الصناعة الشعرية _ إلا أنه يقول موضحًا إن التخييل جوهر العمل الأدبي إجمالاً ، وإن كان أكثر اختصاصًا بالشعر _ يقول : " وكل معنى من هذه المعاني فله صناعة تنظر فيه إما بالتجزئة وإما بالكلية ، ولأن التخييل هو جوهريته والمشترك فيه للجميع ينبغي أن يكون موضوعها ومحل نظرها . ولما كان ذلك وجب في علم البيان من قبل عموم نظره للخطابة والشعر ، إذ كان نظره في العبارة البلاغية إعطاء القوانين العامة للخطابة والشعر ، من حيث العبارة البلاغية فقط _ ألاّ يُلتفت فيه إلى ما يخص الصناعة منهما إلا بعد القول فيما يعمّ منها أكثر من صنف واحد ، إذ كان ذلك هو التعليم المنتظم."([26])

            ثم يمضي شارحًا طبيعة التخييل في الأقاويل الشعرية ويتكئ أيضًا ،كما فعل حازم القرطاجني ,  على الهدف النفسي من التخييل .

          وواضح عند هؤلاء جميعًا أنهم يسلطون الضوء بقوة على أهم ما يمنح النص أدبيته . وهو عندهم عنصر التخييل والمحاكاة .

 

هـ - علم الأدب عن السكاكي :

 

          إنه ليس مجرد ترتيب زمني أن يأتي دور السكاكي هنا أخيرًا ، وليس مصادفة _ فيما أظن _ أن يظهر مصطلحه " علم الأدب" في هذا الوقت المتأخر ، فقد جاء تتويجًا طبيعيًا لحركة هذا الاتجاه الساعي لإرساء قوانين بلاغة عامة . إن ظهور هذا المصطلح لأول مرة([27]) في تاريخ التراث النقدي والبلاغي بهذا المعنى والمفهوم الذي البحث بصدده ([28]) يشير إلى نضج الاتجاه المشار إليه ووصوله كمرحلة أخيرة إلى ضرورة إيجاد علم للأدب .

          وقد توقفت  عند مصطلحه علم الأدب الذي ظهر في مقدمة كتابه " مفتاح العلوم " . وفيما كنت أحاول استجلاء أبعاد هذا المصطلح لديه وجدت بحثًا قيمًا للدكتور سعد مصلوح ، جلّى فيه عن منهج السكاكي في كتابه ، ووضح المنظومة الفكرية التي أقام عليها السكاكي بناء الكتاب بأسره. ومع أن الغاية التي سعى لتحقيقها الباحث مختلفة عما أتغيّاه إلا أن بحثه هذا كان مفيدًا جدًا لي ، ووفر كثيرًا من الوقت في تتبع منظومة العلوم التي بنى عليها السكاكي كتابه ، والتي تشكل عنده مصطلح "علم الأدب" ([29]) .

          يقول السكاكي في مقدمته : " وقد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب دون نوع اللغة ما رأيته لابد منه . وهي عدة أنواع متآخذة . فأودعته علم الصرف بتمامه ، وأنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق المتنوع إلى أنواعه الثلاثة ، وقد كشفت عنها القناع . وأوردت علم النحو بتمامه ، وتمامه بعلمي المعاني والبيان ... ولقد قضيت _ بتوفيق الله _ منهما الوطر . ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال لم أر بدًا من التسمح بهما . وحين كان التدرب في علميّ المعاني والبيان موقوفًا على ممارسة باب النظم وباب النثر ورأيت صاحب النظم يفتقر إلى علميّ العروض والقوافي فثنيت عنان القلم إلى إيرادهما ." ([30])

          ويتضح من كلام السكاكي مسعاه نحو التنظير . كما يتضح أنه كان ينظر للأدب عامة دون تخصيص ، لذا ألجأته الحاجة للضبط المنهجي أن يقدم للشاعر خاصة علميّ العروض والقوافي . وهذا الاهتمام بالتنظير لأنواع الأدب عامة يسوقه للتفكير في مصطلح "علم الأدب". يقول في المقدمة أيضًا: " وأعلم أن علم الأدب متى كان الحامل على الخوض  فيه مجرد الوقوف على بعض الأوضاع ، وشيء من الاصطلاحات فهو لديك على طرف التمام ، أما إذا  خضت فيه لهمة تبعثك على الاحتراز عن الخطأ في العربية ، وسلوك جادة الصواب فيها ، اعترض دونك منه أنواع تلقى لأدناها عرق القربة ، لاسيما إذا انظم إلى همتك الشغف بالتلقي لمراد الله _ تعالى _ من كلامه ... فهناك يستقبلك منها ما لا يبعد أن يرجعك القهقرى . وكأني بك وليس معك من هذا العلم إلا ذكر النحو واللغة . قد ذهب بك الوهم إلى أن ما قرع سمعك هو شيء قد اخترعته عصبية الصناعة لا تحقيق له . وإلا فمن لصاحب علم الأدب بأنواع تعظم تلك العظمة ، لكنك إذا اطلعت على ما نحن مستودعوه كتابنا هذا مشيرين فيه إلى ما تجب الإشارة إليه . ولن يتم لك ذلك إلا بعد أن تركب له من التأمل كل صعب وذلول _علمت إذ ذاك أن صوغ الحديث ليس إلا من عين التحقيق وجوهر السداد."([31])

          إذًا فالأقسام الثلاثة لكتابه التي أدارها حول علوم ثلاثة هي علم الصرف ، ثم علم النحو ثم علميّ المعاني والبيان هي التي تشكل نظرته إلى أنواع الأدب , ومن ثم ينهض على أساسها العلم به ، (العلم بالأدب) . فالسكاكي لم يهدف في كتابه إلى " إيراد حقائق الصرف والنحو ، ثم المعاني والبيان ووجوه التحسين ، ثم الاستدلال والشعر ، لما هي فيه ، بل عالجها جميعًا بوصفها بنية منهجية متماسكة ، تصلح في حال انتظامها لما لا تصلح له حال تفرقها وانفراط عقدها ، وبذلك تستحيل المكونات إلى عناصر في منظومة منهجية ، تشكل متضافرة ملامح علم يسميه الإمام صراحة علم الأدب . "([32])

         وهذا يعني أنه كان يريد من هذه المنظومة أن تكوّن متنًا متصلاً يمثل مدخلاً لابد منه للمشتغلين بالأدب وعمله . وبما أن هذا المتن متضافر هرميًا بحيث يقع علم الصرف في قاعدته وعلم المعاني والبيان في قمته _ فإن إحكام الأدب وجودته تأتي أولاً من هذا التضافر من جهة , وتأتي من ثم من حسن  التمثل لعلميّ البيان والمعاني بما يحويانه من أسرار التراكيب الأدبية الجميلة .

          ولبناء هذه المنظومة من العلوم الثلاثة التي تشكل عنده مجتمعة علم الأدب يعرض عددًا وافرًا من النصوص والنماذج الأدبية المدروسة التي يتخذها أمثلة يشرح من خلالها القوانين التي تضبط الكلام ، ويستنبطها أيضًا منها .

          ومن الملاحظ في عمل السكاكي أنه عمل يتوجه إلى المشتغل بالأدب عمومًا ، مبدعًا كان أم ناقدًا ؛ فهذا العمل المنهجي المتكامل وهذا المصطلح لا يتوجه إلى تنظير نقد فقط أو تنظير إبداع فقط  إنه عمل للأديب والناقد معًا . وهذا التواشج بين الاثنين ظاهر بوضوح في مقدمة الكتاب . وتنبه السكاكي إلى هذه التواشجية مهم ، من حيث إن موضوع كتابه ومادة عمله الذي يقيم عليه مصطلح علم الأدب هو الأدب نفسه ، فهو المادة التي يستنبط منها قوانينه . وهذا أمر فوق أن ضروري فهو منطقي تمامًا ، إذ يستحيل أن نتحدث عن علم للأدب دون أن يكون الأدب موضوعه.  وتردّد المحدثين في هذا بيّن ، فمثلاً أكد الشكلانيون الروس على أن موضوع علم الأدب ليس الأدب بل الأدبية ، وكان هذا المبدأ مرتكزًا أساسيًا  في محاولاتهم النقدية ([33]) , لكنهم أيضًا لا يخفون عجزهم عن تحقيق ذلك مطلقًا . فتودوروف القائل في كتابه " علم الشعر " إن علم الأدب لا يعنى بالآثار المتحققة بقدر ما يعنى بالممكنة منها ، أي بالسمات المجردة التي تخص الأدب ، أو ما يسمونه أدبية الأدب _ هو نفسه _ لم يستطيع في منهجه ودراسته إلا أن يكون واحدًا من أولئك النقاد الذي يؤلفون في النقد النظري الذي يدرس البناء في ضوء الواقع الأدبي المتحقق فعلاً  ([34]).

          وأود مادام الحديث عن التنظير للمتحقق والممكن أن أختم هذا الحديث بهذا النص المبكر الذي يومىء إلى هذه الإشكالية في التراث النقدي . جاء عن ابن عبد ربه قوله : " قال أحمد بن يوسف الكاتب دخلنا  على المأمون وبيده كتاب لعمرو ابن مسعدة ، وهو يصعّد في ذراه ، ويقوم مرة ويقعد أخرى ، ففعل ذلك مرارًا ، ثم التفت إليّ فقال : أحسبك مفكرًا فيما رأيت ؟ قلت : نعم ، وقى الله  - عز وجل _ أمير المؤمنين المكاره . فقال : ليس بمكروه ، ولكن قرأت كلامًا نظير خبر خبرني به الرشيد . سمعته يقول : إن البلاغة لتقارب من المعنى البعيد ، وتباعد من حشو الكلام ، ودلالة بالقليل على الكثير . فلم أتوهم أن هذا الكلام يستتب على هذه الصنعة حتى قرأت هذا الكتاب ، فكان استعطافًا على الجند وهو : كتابي إلى أمير المؤمنين _ أيده الله _ ومن قِبلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلّت أحوالهم . "  ([35])

          فالمأمون يدهش من جمال النص الماثل أمامه والذي لم يكن يتوقع أن يتحقق فعلاً في نص أدبي ، فقد كان يظن أن ذاك نوع من التنظير التجريدي المجرد ، ولما تطابق التجريد مع الواقع حصلت له تلك المتعة الجمالية بكل قوتها ودهشتها .

          إن أهمية هذا النص لا تكمن في فحواه المباشرة بقدر ما تكمن في الدلائل في تضاعيفه ومن خلفه ، فهو يشير إلى بعض ما وقر في الأذهان من أن ثمة محاولات تنظيرية باحثة في الممكن من الأدب البليغ كانت تجري ، ولكن يتضمن أيضًا سوء ظن بتلك المحاولات التي يُعتقد بأنها تنظير لأمور تجريدية بعيدة عن التحقيق .

          لقد أردت أن أختم بهذا النص للإشارات السابقة فيه ، ولأن فيه هذه الحيرة الدائبة التي طالما رافقت أي نظر في الأدب  . لقد كانت ومازالت الوقفة أمام الأدبية وقفة قلقة بسؤالين دؤبين : ما هو الأدب ؟ وما سر جماله ؟ إنها الوقفة التي تشير إلى صعوبة محاصرة الأدبية ، وصعوبة تطويقها ، لأن النسبية فيها _ إبداعًا ونقدًا _ صارت قدرًا يرافق أي مسعى يحاول الدوران حولها فضلاً عن اقتحام عوالمها الحميمة التي تبدو على الدوام أبية مراوغة .

           وبعد ، أعتقد أن المسعى نحو العلمية في الأدبية غير ممكن تمامًا نظريًا وعمليًا ، كما أن الاستمرار في خلع القداسة على الأدبية والتراجع عن تنضيد خصائص أساسية وقوانين عامة مسعى لا أؤمن عليه ، فثمة أمر أساسي هنا يتمثل في أن التنظير هو دائمًا نزوع نحو الاستقرار وتنضيد قوانين كلية ، وأن الأدب والإبداع في أفضل تحققاته هو نزوع نحو التفرد والخصوصية ، والجمع بين هذين المتناقضين إشكالية أساسية يجب دائمًا أخذها بعين الاعتبار .

 

4- خاتمة :

          وماذا بعد متابعة هذه النصوص في معرض واحد ؟ إن تجميعها في معرض واحد فيه تنضيد لوجهات نظر متعددة يمكن الاستصفاء منها مجتمعة مفهومًا متماسكًا في الأدبية . فنص ابن المقفع يقول بالإيجاز وإشارية اللغة . ونص بشر ابن المعتمر يسير أيضًا في اتجاه السيطرة على اللغة ، فالأدبية عنده تتجلى في قدرة الأديب على السيطرة على اللغة لإدماج خطاب الخاصة مع خطاب العامة ، للمساهمة في كسر النخبوية والطبقية . وفي جهد ابن المقفع وبشر اهتمام بالمتلقي وبالسياق الذي يصب فيه النص . وفي نفس الاتجاه أيضًا من الاهتمام بالمتلقي يقف الجاحظ في نظرية البيان , حيث تكمن أدبية النص عنده في الجانب الوظيفي لأصناف الدلالات التي عددها ، وبالضبط تكمن في مستوى الكشف المتحقق في النص . أما الجرجاني فيركز على الوظيفة الجمالية ، وتكمن الأدبية عنده في معنى المعنى الذي تحقق عن طريق الاتساع في اللغة وعن طريق الاستعارة والمجاز والكناية والتمثيل ، ومن ثم تكمن الوظيفة الجمالية والمتعة التي يحققها النص ويمنحها للقارئ ، متمثلة في متعة الكشف عن طبقات المعاني الماثلة في النص . والأدبية عند الفارابي وابن سينا وحازم القرطاجني والسجلماسي تكمن في عنصر التخييل حيث التركيز على أهمـيته ، وأهمية البراعة في تخييل الأشياء البعيدة التي إذا ما تحققت في النص فهي جوهر أدبيته . وهذه النظرات حول التخييل والمحاكاة ترافقت مع المصطلح المبكر الذي حول مفهوم الأدبية ، وهو مصطلح القول الشعري ، الذي يعني أن كل قول يتضمن القدرة على إنتاج الشعرية هو قول شعري بغض النظر عن نوعه ، وأن تلك القدرة فيه هي جذوة أدبيته .

          إذًا فهذه النصوص مجتمعة تعمل على محاور إذا تضافرت اجتمعت من خلالها خصائص الأدبية . فثمة اتفاق على أن الأدبية تكمن في الخطاب في مستواه الجمالي لا مستواه النفعي العادي . ومع ذلك فثمة تأكيد أيضًا على الجانب الوظيفي للخطاب الأدبي . ويتمثل في كسر النخبوية كما هو عند بشر مثلاً ، ويتمثل في الكشف عن حقائق الكون والمعاني المضمرة كما هو عند الجاحظ ، كما يتمثل في الجانب الوظيفي الجمالي الصرف المتحقق في متعة التلقي ، وهو الجانب الذي أكد عليه الجرجاني . وهذا الجانب الوظيفي الجمالي يتأتى من عنصر التصوير والتخييل ، الذي تواتر كثيرون في التأكيد عليه . وهذه جوانب متآخذة _ كما يُرى _ متماسكة عند هؤلاء للتنظير لذاك الشيء أو لتلك الأشياء التي تهب النص أدبيته .

ولعل من البديهي القول إن النظر في الأدبية هو بالضرورة نظر في اللغة باعتبارها إحدى الظواهر الوجودية ولذا من المهم أيضًا هنا الإشارة إلى الأساس المعرفي ( الإبستمولوجي ) الذي ينظلق منه ويستند إليه مثل ذلك النظـر .

          إن المتأمل في ما مضى من نصوص يستطيع أن يلحظ الموقف إزاء اللغة والكون ، فالنصوص تنطلق من رؤية تقول بقدرة الإنسان على السيطرة على ظاهرة اللغة بوصفها إحدى الظواهر الوجودية المرتبطة به . ويتمثل ذلك في تأكيد النصوص على السيطرة على المعنى ، فابن المقفع يؤكد أهمية الإيجاز والتكثيف ، وبشر يلح على هذه السيطرة بالتأكيد على أهمية تقريب المسافات بين معاني الخاصة والعامة . والبيان عند الجاحظ هو في السعي نحو الكشف عن حقائق الكون والمعاني المضمرة,  وعند الجرجاني ثمة هاجس يعدو وراء المعاني الغائرة ووراء اقتناص لحظة التواشج عند تقاطع المتنافرات.  وفي النصوص التي تحدثت عن المحاكاة والتخييل ثمة اهتمام بتخييل الأشياء البعيدة وإن ذاك هو مكمن البراعة والأدبية .

          فمن وراء هذا كله حنين واحد ورؤية مشتركة تقوم على همّ استدناء البعيد المتعالي ولَمّ المتنافر عند اشتباك العلائق في علاقة متواشجة متحدة . وهذه محصلة تناقض في جانب منها جانبًا من رأي شائع ، تناقضه في إحدى تفصيلاته في ذلك الجانب القائل بأن الرؤية التي تكرسها النظرية البيانية للمعرفة رؤية تقوم على الانفصال وليس الاتصال . ([36]) وليس هنا موضع مناقشة هذا الاختلاف,  ولكن كان لابد من هذه الإشارة في هذا السياق ، وثمة بحث في طور الإعداد حول نزعة التوحد هذه أبسطُ فيه أفكاري حول هذه الرؤية .

          لقد عكست النصوص المعالجة في هذه الدراسة وجهة نظر تعتقد بقدرة الإنسان على السيطرة ، وهو موقف شبيه إلى درجة كبيرة _ ومع الفارق الإبيستمولوجي الجذري أيضًا _ ببعض الاتجاهات الغربية الحديثة التي نظرت للأدبية . ولعل نصوص الجاحظ السالفة حول البيان أبرز النصوص ، ذلك البيان الذي هو عنده ليس إلا استراتيجية الدلالة الكونية واستراتيجة الإنسان إذ يشتبكان في علاقة الكشف والمعرفة ، تلك العلاقة التي يتحول الهدف عندها إلى هدف معرفي في الإنسان وفي الكون ، فيهما وبهما معًا . كما أنهما ( أي الرؤية الحديثة والقديمة ) يتقاطعان أيضًا من حيث الرؤية التي تنحو نحو نزع القداسة عن اللغة . فليس ثمة موقف تقديس أمام اللغة الأدبية . ومع أن بعض المحدثين اليوم يقفون موقفًا تقديسيًا أمام اللغة الأدبية ، موقفًا يرهب ويهرب من الجزم والحديث بجرأة لما يعتقد أنه سر الأدب و جوهريته و خصوصيته ، ففي الوقت نفسه هناك بعض الاتجاهات الحديثة التي سعت إلى كسر هذه القدسية ، وإخضاع لغة الأدب للدخول إلى حقل المعامل والتجريب الإمبيريقي . ولقد عكست النصوص العربية القديمة المعالجة هنا موقفًا للمنظرين مندفعًا ومقتحمًا لتلك الهالة المقدسة التي يشعشعها الأدب والإبداع حول نفسه ، لتحديد أسرار جماله وضبط قوانين خطابه .

          إنه إذا كان هذا التقاطع _ مع المفارقات والفروق الجذرية بينهما _ يستند عند العرب القدامى على ذلك الموقف المعرفي إزاء الكون ، ويستند إلى المنظور الإيماني الذي لا يخلع القداسة على شيء سوى الله فإنه _ بالدرجة الأولى _ عند هؤلاء المحدثين يأتي من اعتقادهم بإمكانية سيطرة الإنسان على ظواهر الوجود ، ومن إيمانهم بمناهجهم وثقتهم برهافة الأدوات والآليات التي تهيأت لها لسبر الخطاب الأدبي والنظر فيه متحررين من ذلك الضاغط الذي دفع بأولئك العرب الأوائل ،  الذين وقفوا أمام الكلام الإلهي الذي جاء يتحداهم ، فراحوا يستعينون بما لديهم من قدرات إبداعية ، وقدرات نقدية تنظيرية وتفسيرية وتأصيلية ، ليقفوا على أسرار إعجاز التنزيل وليقتفوا أثر الخطاب الإلهي مقلدين محاولين بالإبداع والتفسير والتأصيل والنقد والتنظير أن يصلوا عن طريق اللغة إلى إدراك الحقيقة الوجودية في محاولة للتخطي _ عن طريق السيطرة على اللغة _ إلى عتبات الميتافيزيقا كشفًا ومعرفة . ومن هنا كانت اللغة محورًا أساسيًا ومرتكزًا معرفيًا في تكوين الفكر العربي عمومًا وليس في تكوين الفكر النقدي فحسب ، ومن هنا أيضًا كان الخطاب الأدبي والبحث في الأدبية انعكاسًا واضحًا لذلك المرتكز ولذاك التحدي ولذاك الهم الوجودي الكبير .

الهوامش :

 

المصادر والمراجع

 

  1. تودوروف   

نقد النقد . ترجمة سامي سويدان ، ( بغداد : دار الشؤون الثقافية ، ط 2  1986م )

  1. الجابري ، محمد عابد

بنية العقل العربي ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2  1987م )

  1. الجاحظ

البيان والتبيين ، تحقيق عبد السلام محمد هارون .( القاهرة ، مكتبة الخانجي ط4، 1975م )

  1. الجرجاني

دلائل الإعجاز ، تحقيق محمود شاكر ( القاهرة ، مكتبة الخانجي ، 1404هـ )

  1. ابن جعفر ، قدامة

نقد الشعر . بتصحيح س . أ . بونيباكر ( ليدن , مطبعة بريل ، 1956م )

  1. ابن خلدون

مقدمة ابن خلدون ( بيروت ، دار مكتبة الهلال ، ط4 1398 هـ /1948م )

  1. الزيدي ، توفيق

مفهوم الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن الرابع الهجري ( تونس , منشورات دار سرا س ، 1985م )

  1. السجلماسي

المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع ، تحقيق علال الغازي  ( الرباط ، مكتبة المعارف ، ط1. 1401هـ /1980 )

  1. السكاكي

مفتاح العلوم . ضبطه نعيم زرزور ( بيروت : دار الكتب العلمية ، ط1 1403هـ/1983م )

  1. عبد القاهر الجرجاني

أسرار البلاغة ، تحقيق هـ. رتير  ( استانبول ، ط. مصورة 1954م )

  1. عبد الله الغذامي

الخطيئة والتكفير   ( جدة ، النادي الأدبي ، ط1، 1405هـ )

  1. ابن عبد ربه

العقد الفريد ، تحقيق محمد سعيد العريان ( دار الفكر سنة 1359هـ )

  1. القرطاجني ، حازم

منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ( بيروت : دار الغرب الإسلامي ط2  1981م )

  1. المبرد

البلاغة . تحقيق رمضان عبد التواب . ( القاهرة ، دار العروبة  ، ط10 ، 1965)

  1. المرزوقي

شرح ديوان حماسة أبي تمام ، نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون ، ( القاهرة ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، ط1 1371 هـ / 1951م  )

  1. أبو هلال ، العسكري

كتاب الصناعتين : الكتابة والشعر تحقيق د. مفيد قميحة (  بيروت : دار الكتب العلمية ، ط الأولى  1401هـ )

 

الدوريات :

  1. أبو نصر الفارابي

             " كتاب الشعر " تحقيق د. مهدي ،  (مجلة شعر . خريف 1959م ، جـ12 ، مج3)

  1. حمادي صمود

            " معجم لمصطلحات النقد الحديث " (حوليات الجامعة التونسية ، 1977م ع15)

  1. د.و. فوكيما والرود كون ابش

            " نظريات الأدب في القرن العشرين " (الثقافة الأجنبية ، عدد 3 ، 1981م )

  1. ستيفن نوردابل لاند

قراءة لرولان بارت مغامرة الدال  ، ترجمة أحمد المديني  ( الفكر العربي المعاصر عدد 18-19  سنة  1982م )

  1. شكري عياد

            " موقف من البنيوية "  ( فصول ، 1981 مج1 ، ع2 )

  1. فؤاد أبو منصور

            شارل مورون والنقد النفسي ، من الاستعارة الملحة إلى الأسطورة الشخصية " للدكتور  (الفكر العربي المعاصر عدد 23،          1983م )

  1. المهيري ، عبد القادر

" البلاغة العامة " ( حوليات الجامعة التونسية عدد 8 ، 1971م )

 

 


[1] -  تودوروف ، نقد النقد . ترجمة سامي سويدان ، ( بغداد : دار الشؤون الثقافية ، ط 2  1986م ) ص 23.

[2] - لتوفيق الزيدي كتاب بعنوان (مفهوم الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن الرابع الهجري) من ( تونس , منشورات دار سرا س ، 1985م ) وهذا البحث القيم وإن كان في صلب موضوع هذه الدراسة إلا أنه يتوقف أولاً عند نهاية القرن الرابع ، كما أن الباحث يستخلص هو بنفسه ما يراه كامنًا في النصوص حول مفهوم الأدبية ، أما ما تقدمه هذه الدراسة وكما يشير عنوانها بدقة ( في البحث عن الأدبية ) فهو أنها تعمد مباشرة إلى النصوص التي تنص صراحة على مسعى التنظير وتنضيد القوانين الكلية للخطاب الأدبي ، وهما _ كما يرى القارىء _ منحيان مختلفان .

[3] - ينظر مثلاً كتاب نقد النقد لتودوروف ، الفصول الثلاثة الأولى خاصة ، وينظر مقالة " قراءة لرولان بارت مغامرة الدال " لستيفن نوردابل لاند ، ترجمة أحمد المديني ، ( مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 18-19سنة 1982م ) ص  82-96 . وينظر مقالة " شارل مورون والنقد النفسي ، من الاستعارة الملحة إلى الأسطورة الشخصية " للدكتور فؤاد أبو منصور ، ( مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 23، 1983م ) ص  113-121 . وينظر مقالة " نظريات الأدب في القرن العشرين " لـ د.و. فوكيما و الرود كون ابش في مجلة  (الثقافة الأجنبية ، عدد 3 ، 1981م ) ، ص  234-242 . وينظر مقالة عن كتاب " البلاغة العامة " لمؤلفيه : دوبوا ، وادلين ، وكلنكنبارق ، وبير ، ومنقاي ، وترينو ، قدمه عبد القادر المهيري في  مجلة ( حوليات الجامعة التونسية عدد 8 ، 1971م ) ص 207-221 ... الخ.

[4] - ورد لفظ الشعرية عند حازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ( بيروت : دار الغرب الإسلامي ط2  1981م )  ص 117 في نص منقول عن ابن سينا ، كما ورد في المنهاج أيضًا ص 119 كذلك ، ولم يكن يعني بهذا اللفظ المصطلح بمفهومه الحالي؛ وإنما كانت الكلمة ترد في سياق الحديث عن الأقاويل الشعرية ، وكان حازمًا يتجوز أحيانًا خلال السياق بحذف كلمة الأقاويل وإبقاء الشعرية فسأتحدث عنه في موضوع لاحق من هذه الدراسة .

[5] - ينظر مثلاً نقد قدامة بن جعفر لها في نقد الشعر . بتصحيح س . أ . بونيباكر ( ليدن , مطبعة بريل ، 1956م )، ص 12 . وينظر نقد أبي هلال العسكري لها في كتاب الصناعتين الكتابة والشعر تحقيق د. مفيد قميحة (  بيروت : دار الكتب العلمية ، ط الأولى  1401هـ )، ص 73 , وينظر كذلك نقد عبد القاهر الجرجاني لها في أسرار البلاغة ، تحقيق هـ. رتير . ( استانبول ، ط. مصورة 1954م ) ، ص  21-23 . وفي دلائل الإعجاز ، تحقيق محمود شاكر ( القاهرة ، مكتبة الخانجي ، 1404هـ ) ، ص  74-76 .

[6] - الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ( القاهرة ، مكتبة الخانجي ط4، 1975م ) جـ1 ، ص  115-116 .

[7] - المصدر السابق ، جـ1 ، ص 136 .

[8] - المبرد ، البلاغة . تحقيق رمضان عبد التواب . ( القاهرة ، دار العروبة  ، ط10 ، 1965) ص 59 .

[9] - المصدر السابق ، ص  59-67 .

[10] - أبو هلال العسكري ، كتاب الصناعتين ، ينظر مثلاً التعريفات والآراء البلاغية ص  19-65 .

[11] - المرزوقي . شرح ديوان حماسة أبي تمام ، نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون ، ( القاهرة ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، ط1 1371هـ / 1951م  ) جـ1 ، المقدمة ، ص 5 .

[12] - ينظر بعض إشارات حول مفهوم البيان عمومًا وعلاقته بمفهوم الأدبية في كتاب الدكتور عبد الله الغذامي ، الخطيئة والتكفير  . ( جدة ، النادي الأدبي ، ط1، 1405هـ ) ص 16 . وقد سبقني إلى هذا القول أستاذي الدكتور الغذامي ؛ وأنا أتفق معه حول هذه المقولة .

[13] - الجاحظ ، البيان والتبيين . جـ1 . ص 76 .

[14] -  مما يؤكد هذه العلاقة المتواشجة ، ما يذكره بعض الدارسين من أن أصل عنوان كتاب الجاحظ هو البيان والتبين وليس البيان والتبيين ،حيث البيان من شأن المبدع والتبين من شأن السامع أو المتلقي ، وهي تواشجية واضحة في العنوان كذلك .

[15] - أقول إنه نظر إلى النص باعتباره كلاً واحدًا وبنية متآخذة على الرغم من أن حديثه كان منصبًا على الجملة ، وما ذاك إلا لأن حديثه لا يمكن أن يفهم منه أنه يقصد الجملة وحدها، ومن التطفيف لكامل جهده ورؤيته أن يُنظر إليها على هذا النحو الضيق ، وما ذا إلا لأن الجملة بالضرورة تشتبك مع الجملة السابقة واللاحقة في جملة علاقات ، هذه العلاقات هي التي تشكل بنية النص كاملاً .

[16] - دلائل الإعجاز ، ص 262-263 .

[17] - تحدث كثيرون عما لدى الجرجاني من لفتات مبكرة بارعة . وبعضهم حاول عكس مفاهيم حديثه على بعض نصوص الجرجاني . مثل : مسائل التصوير ، ومبدأ  إشارية اللغة ، والمعنى المرجأ . ومن أبرز تلك المحاولات محاولات د.كمال أبي ديب ، ود.الغذامي في عدد من مقالاتهما . وفيما يخص مسألة معنى المعنى أشار د. الغذامي إلى أن كلام الجرجاني يشبه إلى درجة كبيرة ما قاله دريدا عن المعنى المرجأ . ولست أتفق معه في هذا القول على إطلاقه ، ففي كلام الجرجاني فعلا شيء يناوش هذه الفكرة ويقاربها ، ولكن في كلامه أيضًا ما يكبح المضي مطلقًا وراء هذه المقـولة .

[18] - المصدر السابق ، ص 265.

[19] - المصدر السابق ، ص 64-65 .

[20] - أسرار البلاغة ص ، 126 .

[21] - المصدر السابق ، ص 128 .

[22] - أبو نصر الفارابي ، " كتاب الشعر " تحقيق د. مهدي ، مجلة شعر . خريف 1959م ، جـ12 ، مج3 ص 92-93 .

[23] - المصدر السابق ، ص 93 .

[24] - المصدر السابق ، ص 95 .

[25] - السجلماسي ، المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع ، تحقيق علال الغازي  ( الرباط ، مكتبة المعارف ، ط1. 1401هـ /1980 )، ص 218 .

[26] - المصدر السابق ، ص 218-219 .

[27] - استخدم ابن خلدون مصطلح علم الأدب بوصفه واحدًا من أربعة علوم من علوم العربية . وهو يخص النقد أو علم النقد . وكان بالإمكان أن يدرج هنا ضمن المحاولات للتنظير لعلم الأدب لولا أن ابن خلدون نص ، قبل حديثه عن هذا العلم ، نصًا صريحًا قاطعًا على أنه يرى أن بلاغة الشعر غير بلاغة النثر  . وبالتالي فإن علم كل منهما يختلف عن علم الآخر . ولذا فإن وضع تنظيره لعلم الأدب في نسق نصوص هذا البحث تلك الرامية إلى التنظير للبلاغة العامة يعتبر إدخالاً لنص غير متجانس مع بقية النصوص ، فضلاً عن أنه يعد اجتزاء مناقضًا لمفهوم ابن خلدون النقدي عمومًا . ينظر مقدمة ابن خلدون  ( بيروت ، دار مكتبة الهلال ، ط4 1398 هـ /1948م ) الفصل الذي خصصه لعلم الأدب ، ص 553، وما بعدها .

[28] - أعني بهذا المفهوم الدقيق المتخصص لمعنى مصطلح علم الأدب . وإلا فاستخدام " علم الأدب" مفرغًا من هذه الدلالة المتخصصة قد ظهر قبل ذلك بكثير ، فقد أورده الجاحظ في كلام نقله عن محمد بن عبدالله بن علي بن عبدالله بن عباس . وهو قوله : " كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله ، وكفاك من علم الأدب ، أن تروي الشاهد والمثل " . ينظر البيان والتبيين جـ1 ، ص 86 .

[29] - د. سعد مصلوح . شكل العلاقة بين البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية ، ضمن كتاب قراءة جديدة لتراثنا النقدي الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي في جدة في 1410هـ /1990 م ، مج 2 ، ص 819-868 .

[30] - السكاكي . مفتاح العلوم . ضبطه نعيم زرزور ( بيروت : دار الكتب العلمية ، ط1 1403هـ/1983م ) ص 6

[31] - المصدر السابق ، ص 7 .

[32] - د. سعد مصلوح . شكل العلاقة بين البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية ، ضمن كتاب قراءة جديدة لتراثنا النقدي ، مج2 ص 845 .

[33] - ينظر ما كتبه د. حمادي صمود حول المدرسة الشكلانية في " معجم لمصطلحات النقد الحديث " في حوليات الجامعة التونسية ، 1977م ع15، ص 133.

[34] - ينظر ما كتبه د. شكري عياد في مقالة له بعنوان " موقف من البنيوية " في مجلة فصول ، 1981 مج1 ، ع2 ص 195 .

[35] - ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، تحقيق محمد سعيد العريان  ( دار الفكر 1359هـ جـ2 ، ص 114 ).

[36] - محمد عابد الجابري ، بنية العقل العربي ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2  1987م ) ص 38 .