الصفحة الرئيسية
 /  
العيش في الثقوب
 /  
رجوع

العيش في الثقوب


كنت أقرأ مقابلة ممتعة مع الفيلسوف الفرنسي  جيل ديلوز وسأشرك القارئ معي ببعض الأفكار المثيرة والممتعة . يقول جيل ديلوز في هذه المقابلة : " ألفت كتابي الأول باكرًا ثم لا شيء  لطيلة ثماني سنوات .  مع ذلك أعلم ماذا كنت أفعل ، أين وكيف أعيش خلال تلك السنوات . لكني أعلم ذلك على نحو تجريدي كما لو أن شخصًا آخر يقص علي ذكريات أصدقها , لكنني لا أملكها حقًا ، كما لو أنا هناك ثقبًا في حياتي ، ثقبًا بثماني سنوات . هذا ما يبدو لي مهمًا في حياة الأشخاص ، إنها الثقوب التي تحتوي عليها والثغرات المأساوية أحيانًا ، لكنها ليست كذلك أحيانًا أخرى . تحتوي حياة أغلب الناس على هذه التجمدات وعلى أنواع من السرنمة . ربما  في هذه الثقوب تتكون الحركة ؛  ذلك أن السؤال هو : كيف نصنع الحركة ؟ كيف نخترق الجدار كي نكف عن صدم رؤوسنا ؟ فإذا نحن لم نتحرك كثيرًا , ولم نتحدث كثيرًا , قد نتجنب الحركات الخاطئة ونقيم حيث لا توجد ذاكرة . هناك قصة جميلة لـ Fitzgerald  فيهـا شخص يتجول في المدينة بثقب عمـره ست سنوات " .


          هذا هو ديلوز المدهش الذي يُسمّى الفيلسوف المترحل على الرغم منه أنه يقول عن نفسه إنه لا يحب السفر فمن وجهة نظره ( التحرك يفزع الصيرورات ) هذا الذي هو ضد التحرك الكثير أو الترحل الكثير يستشهد بمقولة لتويني يقول فيها : " الرُحّل هم الذين لا يتحركون , ويصبحون رُحلاً لأنهم يرفضون الرحيل . " ديلوز هذا رغمًا عن ذلك سمي بالفيلسوف المترحل على الرغم من عيشه في الثقوب بلا ذاكرة ، تلك الثقوب التي تتحول إلى شرارة الحركة والتحول والاختراق كما قال .

          من عباراته الجميلة في هذه المقابلة والمرتبطة بالفكرة أعلاه ، التحرر من الذاكرة في السرنمة والتجمدات والثقوب يقول : " للمثقفين ثقافة مدهشة , فلهم رأي في كل شيء . ولست مثقفًا لأنني لا أملك ثقافة جاهزة ، ليس لي أي ذخيرة . ما عرفت شيئًا إلا لألبي ضرورة يمليها عمل راهن . وإذا ما عدت إلى نفس الأمر بعد سنوات عديدة يجب علي  أن أتعلم  كل شيء من جديد , إنه لأمر ممتع ألا تملك رأيًا ولا فكرة حول هذه النقطة أو تلك . "

          ولست أدري لماذا حضرت إلى ذهني صورة المعلبات الجاهزة وهو يتحدث عن الثقافة الجاهزة ، وتخيلت كم المثقفين وهم يتبرعون لك بآرائهم بمناسبة وبدون مناسبة في معظم الشؤون , وكأنهم يفتحون علب طعام جاهزة معدّة سلفًا ، بعضها يحتاج إلى تجهيز خفيف ، أو إنضاج ، أو تسخين ، وبعضها يصلح للرمي لأنه فاسد أو قد انتهت مدة صلاحيته ، وبعضها يصلح فقط للتسميد أو لتسميم التربة والمخلفات !!!