تناولت في المقالة الماضية رؤية هارولد بلوم للتأثر , وتوقفت عند ما قرره بلوم من عقدة القدوم المتأخر ومخاوف التكرار لدى الشاعر اللاحق في علاقته بالسلف . وكشفت عن علاقة ذلك عند بلوم بما سماه ( التنقيحية ) التي هي أبرز آليات تعامل الشاعر اللاحق مع السلف والتي تمثل نقطة الانحراف المهمة التي يمكن أن تحقق - من وجهة نظر اللاحق - هبة الروح كما يسميها بليك .
لكن هذه الهبة تقود بلوم إلى التركيز على كيفية تحققها وكيفية النفاذ إلى نقطة الانحراف تلك , وذلك عبر ما يسميه القراءة الضالة . وهي من وجهة نظره قراءة لاواعية في الغالب . يقول : " التأثر الشعري – عندما يتعلق الآمر بشاعرين قويين وحقيقيين – دائمًا ينبثق من مقروئية ضالة للسلف السابق ، وهذا فعل تصحيح مبتكر ما هو بالحقيقة وبالضرورة سوى فعل تأويل ضال . تاريخ التأثر الشعري المثمر ، باعتباره التقليد الرئيسي للشعر الغربي منذ عصر النهضة ، هو تاريخ القلق وكاريكاتورية خلاص الذات ، تاريخ التشويه ، والتنقيحية المقصودة والشاذة والتي بدونها يصعب على الشعر الحديث كما هو الآن أن ينوجد . " ( )
ولا شك أن قلق التكرار وحلم هبة الروح ونقطة الانحراف كلها أمور ذات علاقة مباشرة بقضية المحاكاة ، محاكاة النص أو محاكاة الحالة . وقد دخل عدد من كبار الأدباء الانجليز في حالة إنكار لقضية التأثر . مثل إمرسون الذي كان من وصاياه " احذر المحاكاة " و" ركز على ذاتك " و " ليس من الممكن أن تقبل الروح تكرار ذاتها " الخ
ولكن بلوم يلفت النظر إلى مقولة مهمة ينقلها عن ليتشنبرغ ومن خلالها يمضي لسك مصطلح آخر هو ( شعر الخسارة ) . يقول ليتشنبرغ : " أجل أنا أيضًا أحب أن انبهر بالرجال العظماء ولكن فقط بأولئك الذين لا أفهم أعمالهم ... أن أفعل العكس فهذا يعني شكلا من أشكال المحاكاة ، وتعريف المحاكاة يجب أن يتضمن بالضرورة النوعين معًا . "
ويعلق بلوم على القول السابق , ويشرحه بقوله إن التأثر الشعري ذاتي الدلالة وإن الحب الرومانسي هو أقرب نظير للتأثر الشعري " إذ هو بمثابة شذوذ وانحراف سحري آخر للروح بالرغم من أنه يتحرك تحديدًا باتجاه معاكس . الشاعر الذي يواجه سلفه الأصيل والعظيم يجب أن يخترع ثغرة فيه ليست موجودة ، وفي عمق شامل يتأتى عبر تخييل أسمى . فالعاشق يُسحب إلى أتون الخسارة لكنه ينوجد إذ يعثر داخل ذلك الوهم المتبادل على القصيدة التي ليست هناك . " ( )
واللافت أن بلوم يربط هذه الحالة الشعرية بحالة الحب الرومنسي ولكن في حالة بلوغ الحب وهم التماهي أو التوحد حيث تحدث – كما نستنتج – نقطة الانحراف والانفصال . وليوضح ذلك يستشهد بقول كيركيغارد : " عندما يقع اثنان في الحب .. ويبدآن يشعران أنهما خلقا من أجل بعضهما عندئذ يكون قد حان الوقت لأن ينفصلا , ذلك أنه في استمراريتهما ثمة كل شيء ليخسرانه ولا شيء ليربحانه . " ( ) لكن ما معنى الربح والخسارة في سياق الشعر والحب ؟ ذلك موضوع يحتاج إلى بحث مستقل .