الصفحة الرئيسية
 /  
مغناطيس الكون
 /  
رجوع

مغناطيس الكون


عاشرت الصمت طويلاً حتى صرت أسمع ما توسوس به عروقه وما تقوله بلا لغة هسهسة نسغه ؛  فثمة صمت يتعلق بالشرود وتيه الروح ، وثمة صمت يتعلق بشرود الذهن وثمة صمت يتعلق بانحشار أحدهما في مأزق ما ، أو فكرة أو إحساس . ثمة صمت لأن بحة حزن طافح ترتفع فتسد مجرى الروح فيك فتصمت علها تهدأ وتعاود النزول إلى القاع دون أن يُفضح الصوت بارتجافة أو إجهاشة . وثمة صمت لأن لمعةً كاويًة هناك تلوح للروح في أحد منابعها القصية ، صمت يشبه اللسعة المفاجئة لتيار كهربائي يمنحك خوفًا مباغتًا ولكن مخنوق الصرخة , تكتم فرحة النفَس بالعودة مجددًا إلى الحياة فتصمت حمدًا على نعمة مُنِحْتها مجددًا . وثمة صمت تصمته أو تصامت به آخرك ,  صمت من أجله حتى لا تقول كلمة تجذبه لنعمتك فيفتن أكثر ، أو صمت من أجله حتى لا تقول كلمة تمس رهافة الجرح فيه !!


        ثمة صمت يشبه وقار الحداد وصمت يشبه الارتياب ، وصمت يشبه انحباس الأنفاس التي تنتظر فحسب حتى لا يجفل طائر حط لالتقاط حبة أو ارتشاف ندى شفيف . ثمة صمت نبيل ، وثمة صمت حكيم ، وثمة صمت يشبه المكيدة والمؤامرة ، وصمت له وجه اللامبالاة للواقف على هاوية , و ثمة صمت يشبه تردد المقبل على الانتحار!! وصمت يشبه وقار المصرّ عليه !!

        في كل صمت وجه تيه ، ولكن في كل صمت نية بوصلة . هذا الصمت الآن الذي يرن في الكتابة هو بوصلة الروح تبحث عن شمالها . هذا يعني أن لنا صمتًا مهيبًا نلج فيه كذرة في الكون ، نلج من لحظة شفيفة في السكون الذي يشبه الغيبوبة ، وندخل في مغناطيس الكون : نحو قطب الكون أو نحو شمال الروح أو نحو بهاء المعنى أوصفائه أونمائه لا فرق , في كل مغنطةٍ يبحث رملُك الإنساني الوجودي ورملُ نصك الشعري والإبداعي عما لايفهمه , ولكنه يتنعم فيه !!

        وفي البعيد البعيد , إن كان الصمت بوصلة ومغناطيسًا , فالصمت مصير . لكن الصمت مع ذلك خارج فكرة الزمن , الصمت اختراق نحو الأبدية . ومن هنا فإن هدأة الروح وبراعة القصيدة يفضيان بالإحساس إلى معنى يلمسان من خلاله سعادة لعلها ومضة هاربة من الخلود .

        هل لاحظ أحد أننا في الحلم لم نصادف لحظة صمت ؟ فحلم المنام خاطف وسريع , ولذلك لا مجال فيه للصمت . الحلم سريع حتى كأنما لا يقطع زمنًا . هل لاحظت الآن كيف يمكن أن يلتقي الصمت في اليقظة ، وفي الحلم . كلاهما ثقب في الزمن , ويفضيان بالروح إلى مهب القصيدة المرفرفة دائمًا فوق اللحظة المتعالية على زمن الصحو والحلم المتعالية على زمنها , هنا يمتزج الثالوث في اللغة التي تحلق في صحو أو في حلم أو في قصيدة من أجل أن تحط في صمتها الذي يقول وجوديتها كاملة مكونة كل معاني الصمت تيهًا ووصولاً لئلا تشير إبرتها إليها مثلما يشير شاهد القبر إلى صاحبه !!!