في نص مي العتيبي (حمأ) يمتزج روح الشعر بالسرد بما يشبه السيرة الذاتية وخاصة في النصف الثاني من النص , وتبدو جملة (تصالحت مع طينيتي) مفصلية في هذا السياق , خاصة إذا ما تنبه القارئ إلى جملة عادية مررتها مي بنعومة حيث تقول : "ومر العمر وأنا مثل محطة بنزين" وإذا ما تأمل القارئ الجملتين معًا تكشّف له سبب تشققات الروح ؛ فالمفارقة هنا أن التصالح لم يتم , أو تحاجزته استنزافات البشر لطاقة الحب في المحطة , ومنعته عن أن يتم حيث جففت منابع الروح , وفاضت المرارة . المرارة الطافية في نص مي مشغولة بعناية , ولن انساق هنا للتعبير السائد فأوازي التشققات الظاهرة بالتجاعيد أو ما يشبه ذلك من مظاهر أو تحولات شكلية ، فما تنشغل به مي أبعد وأعمق غوصًا من الأبعاد المظهرية الشكلية ؛ إن المرارة إذ غزت الطين حولته إلى حمأ داكن ، وأذكّر القارئ أن مي في بدايات نصها كانت تستخدم مفردة الطين , ولكنها في منعطف النص وفي ذروة مرارته استبدلت الطين بمفردة (الحمأ) وهو الطين الأسود ، إنه الطين إذ يتحول . والشروحات اللغوية والتفسيرات لآيات سورة الحجر التي وردت فيها كلمة الحمأ تعطي دلالات متقاربة , لكن يتواتر منها معنيان في سياق شرح الآيات الثلاث التي ذكرت فيها قصة خلق آدم هما : أن الحمأ المسنون إما الطين المتغير إلى اليباس والصلابة ، وإما المُصّور , إذ الحمأ المسنون هو المصبوب على صورة . والآيات الثلاث هي قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون} الآية 26 ، وقوله : {إني خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون} الآية 28 ، وقوله : { قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} الآية 33.
وفي شروحات اللغويين والمفسرين أن الحمأ المسنون هو المحكوك ، ومن كلمة المسنون جاءت كلمة المسن الذي يحك عليه الحديد .. والملاحظ أنه في أول النص يبادرنا العنوان حمأ في الوقت الذي يبدأ النص بالإشارة إلى الطين وفخار الوجه ، ثم يؤول النص إلى الحمأ ، وهو ما يجعل العنوان هوية قارة أو هي هوية النص الأخيرة . وهذا ما يستدعي التفكير إنه إذا كانت مي تُفعّل دلالات خلق الإنسان من طين , وتضمر تلك الدلالات أيضًا بتجاهلها لصفة الحمأ بأنه مسنون فذلك ما يستدعي بإلحاح التفكير باستثنائية طين يستعصي على الجفاف من جهة ، ومن جهة ثانية لا ينفك عن طينيته التي لا يمكنها مفارقة طبيعة الطين الآيلة ضرورة ومصيرًا إلى الصلابة واليباس . وإعلان مي التصالح مع الطين ، وإعلان مرور العمر ، وإعلان استنزاف الطاقة ، وإعلان المرارة الفادحة بين الضلوع التي تنعكس شروخًا وتشققات - ذلك كله يستدعي التفكير بدرامية حرصت مي على أن تدسها بين شقوق نصها الطيني إذ تختمه بقولها : " إذ رأيتم التشققات تغزو وجوهكم والوحل ينسرب مع الماء في المغسلة بين أيديكم ، إذا أصرّ البائع في المتجر أو الصيدلية أن يبيعكم [كريمًا مرطبًا ] تظهر على غلافه ممثلة حسناء , وأخبركم أن هذا الكريم أقوى منتج لمقاومة التشققات الطينية ، فاعلموا أنه جاء الوقت الذي طالما هربتم منه ، جاء الوقت الذي يجب أن تتصالحوا فيه مع طينيتكم وخسائركم ومع المرارة تحت ألسنتكم . وبدأت محطة البنزين تفرغ من السيارات ، سيارةً خلف سيارةٍ خلف سيارة ، حتى أطفأت أنوارها الملونة , وأغلقت أبواب محلاتها ، وانتهى كل شيء موحلاً مُرًّا كما بدأ ."
هكذا إذًا يبدو طين النص وقد أنضجته التجربة ، التجربة في احتكاك الإنسان بالعالم من حوله وتشكيل خبرة الفرح والمرارة ، واحتكاك الوجدان والخبرة الشعورية إذ توالي الملكة الإبداعية الاحتكاك بها وصقلها عبر فخار اللغة ؛ ليمسي النص حمأ مسنونًا هو الآخر متغيرًا قهرًا وضرورة ومصورًا على صورة ما يسيل من سنّ اللغة وصقل التجربة ، ومحيلاً في جوهره إلى المَوْحل الوجودي بالمصطلح الهايدجري , فذات نص(حمأ) مشدودة بتوترها (تشققاتها) إلى الكشف عن شروعها في كينونة لا يمكنها الإفلات من مواجهة وعيها بذاتها ووعيها بالعالم المتمثل في آخرية لا يمكن أن تتحدد الذات إلا بمواجهتها . وهي المواجهة التي غالبًا ما تحجب حقيقة الذات وحقيقة العالم أيضًا فلا ترى الذات في الآخرين (زوار المحطة) إلا من خلال جفاف الطين الذي ينقص الذات تحديدًا على حين يتعذر على العالم رؤية الذات في انعكاساتها ! وهذا ببساطة لأن العالم ليس مرآة مصقولة ومنصفة , والحقيقة نسبية من وجهة نظر ذات منزاحة عن قطبها مُغرّبة عن طين حقيقي مُشتهى !