الصفحة الرئيسية
 /  
تألق مي في طينها 1
 /  
رجوع

تألق مي في طينها 1


قرأت منذ بضعة أشهر نصًا جميلاً للكاتبة مي العتيبي بعنوان (حمأ) وظل النص ينتظر دوره ضمن سلسلة حلقات هذه الزاوية. وهو نص جميل ، فخار اللغة فيه يشي بأنامل مي البارعة إذ ظلت تدور بطين اللغة وتمزجه بطنين الروح ودوزنة أوتار شعرية عالية لم تشغل نفسها بتحديد نوع هذه الشعرية أشعر هي أم سرد أم مزيج منهما ، لأنها مشغولة بطين ينفلت ويتأرجح ويتماسك ويتشقق ، حالات الروح تصهده بشمس الوجع ليلاَ أو نهارًا وارتجافات الذكرى وأنامل أرشيف الروح تبللّه بما يحقق تمثال الطين القار على ورق الكتابة . تفتتح مي نصها بجملة النفي القاسية لكن نفيها يثبت وجعها البشري وتوهجها الشعري إذ تقول:


"لم أجف وكل مرة أغسل فيها يدي ينساب من بينهما وحل ، فأنشج وأبكي بمرارة مرعبة لا أدري من أين تجيء ، أبكي لكن بكائي يزيد طيني بللاً فينهار فخار وجهي تحت سيل دموعي ، وينتج عنها خيط موحل بطول خدي ، ومرارة الطين تزيد تحت لساني ... "

          هل لاحظ القارئ كيف سحبته جملة النفي إلى عالم استئناس الغرائبي واستقباله بتعاطف وحنان ، فثمة كائن بشري مازال هناك في مرحلة تخلقه البدئي إذ الطين الذي خُلق منه كل البشر وجف منذ الأزل مايزال يوحل وجه مي ويربكها وجوديًا !! كيف إذًا لا يستسلم القارئ لإغواء التعاطف مع فكرة الأصل في نقائها البدئي وطلاوتها الأولى ؟! غضاضة الطين وغضاضة الروح تبدوان هنا متلازمتين ، من حيث الإشارة إلى نضج البشر وجفافهم وبقاء صوت مي في النص يجأر في استثنائيته الوجودية الغرائبية تقول : " أعرف أن الطالبات يتهامسن من ورائي ، وألحظ علامات التعجب الطولية تقفز من عيون زميلاتي الأكاديميات ، لكني لا أستطيع أن أعترف أني لم أجف بعد ، أنا دونًا عن الجميع لم أجف ."

          ولعل مي بعد أن أرخت مصيدتها الجميلة للقارئ ، وأدركت أنها استدرجته إلى الاستماع إلى غرائبية الحالة أخذت ، وهي تعلن أنها دونًا عن الناس أجمعين وحدها لم تجف في السرد والحكايـة ، وراح السرد يتخذ طابع السيرة حيث تشكو من ازدياد حالتها سوءًا في السنوات الأخيرة ، وإذ تكرر مرة ثانية أن لا أحد يصدق أنها لم تجف حتى طبيبتها والطب النفسي الذي لم يدرس حالتها اتخذت لنفسها لا إراديًا موقع التصالح مع الطين ، تقول :

" تصالحت مع طينيتي ورحت أخبئ ملابسي المتربة بعد يوم من العمل المنهك أنفضها جيدَا قبل أن أضعها في سلة الغسيل ، مر العمر وأنا مثل محطة بنزين استقبل الناس في كل وقت أمنحهم ما لدي من طاقة ، من حب ، يعبرني الجميع تمامًا مثلما تعبر السيارات محطة البنزين ، السيارات الجديدة والقديمة ، السيارات الفارهة والأخرى المهترئة وتقدم لهم نفس الخدمات "

          وتبدو جملة تصالحت مع طينيتي مفصلية في سياق السرد حيث يتخذ البوح والسرد معًا مسار المكاشفة ، وتبلغ المكاشفة ذروتها إذ تشارف الندم والألم تقول :

"لم أفرق أبدًا بين الناس كنت أتعاطف مع الخاطئين ... قبل أن أتعاطف مع أهل الصلاح كنت امرأة الطين المثالية ، حتى بدأت تظهر هذه التشققات اللعينة على وجهي وأسفل ذقني على راحة يدي تحت عيني في المكان الذي تنسرب منه الدموع تمامًا هناك حيث الدموع والكثير من التشققات اليابسة ، حتى بدأ يذوب الطين في فمي وتحت لساني وبين ضلوعي ، حتى بدأت تغزوني المرارة الفادحة !"