الشعر الجميل يوقفك على الاشياء البدهية موقف الدهشة، كما ان الشعر اذا استطاع ان ينقل لك الاشياء بعفويتها ونكهتها الطفولية الاولى فقد نجح في أن يهزك وخصف عليك ورق الطفولة من جديد، الطفولة التي تعانق الحياة دائما وفي كل مرة كأنما تراها للمرة الاولى، وتتعرف عليها حاسة الشم واللمس والذوق والالتصاق الحميم، وليس من مجرد معابر النظر والاكتشاف المحايث الخجول.
في الطفولة جرأة على الاجتياح و الاجتراح فوق ما نتصور، لكنه الاجتياح المحبب لا المخرب. في الشعر –إذًا – نحن نجرب ان نعود لذلك العناق الحميم بيننا وبين الاشياء نعود لذلك الاجتياح الجريء الودود والاكتشاف الاليف، نعود للسباحة في ينابيع التحامنا بالوجود وينابيعنا القصية وبئرنا العتيقة لنستخرج ملابسنا الاولى، ملابسنا اللائقة بنا من غيابة الجب لنلقيها على أعين و رؤانا نتشفى من كذبة الذئب التي اخترعها الكبار وفجيعة الصيرورة ونازع الفناء والعدم!!!
في الشعر – إذًا – نحن نجرب ان نعود لملابسنا الاولى البسيطة، إلى جلدنا الغض المتعري دون خجل أو وجل. في الشعر نعود – فيما نعود – إلى الطفل فينا إلى (...) و إلى (...) لنكتشف مرارا براعة الكذبات في الوجود وألق الدهشات المعتصر من كل القمصان الملقاة في الآبار تلك التي عرفتنا بنفسها وتلك التي يخفق في دمها دلو الشعر هابطا صاعدا، دلو الشعر السيار الذي لا يكف عن الكشف والسباحة في المخفي والمطمور والمغمور.
الشعر هو هذه المظاهرة اللغوية الجمالية للتنقيب في عدالة المحرمات وبراعة الكذبات ومساءلة المسلمات. ألسنا ندهش أحيانا ونفاجأ من سؤال طفل لنا قضية طال اقتناعنا بها وأنها محسومة منذ أمد بعيد؟ الشعر كالطفل اللجوج: سؤال ثائر محرج و لجوج . والشعر الحقيقي هو ذاتنا الاصيلة القديمة التي تملك دهشتها وتماسكها القديم ذاتنا الاصيلة القديمة قبل ان تتجرثم و تتعلثم!!
ومن هنا فالشاعر الذي لم يفقد ملكته الطفولية الاولى في اكتشاف العالم، الشاعر الذي امكنه ان يحتفظ بتلك الملكة الفذة في تقصي الاشياء والاستقصاء حولها واختراقها، ومحاورتها ومهادنتها وملاطفتها والتناغم معها وملامستها مثلما يفعل طفل لم يُدجّن أو يشوه فيمكن ان يستمع برهافة لصوت الينابيع المخبأة ويمكنه ان يغرف ويعرف!!!
أولسنا نرى الطفل في علاقته بالعالم إذا كان لم تفسده تدخلات و تدجينات و عصوات الكبار لا يخاف من أي شيء.. يمكنه ان يمس النار ويضع يده في فم الاسد أو حتى يقبّل أفعى في اندفاعة و اندفاقة جميلة نحو العالم وأشيائه، انها الذات الاولى المتدفقة نحو الدنيا قبل ن تُلْذع وتُقْضم وتُلْدغ ويقذف في كيانها السم تلك اللذعات واللدغات التي تلطخ الكيان وتشوه ذاك الدفق.
الطفل قبل أن تتسلط عليه عصا المربي وسلطة العيب و التابو يندفع في هذا العالم يقترب ويلمس ويكتشف، يتأمل ويلعب وأحيانا يخرّب لكنه دائما يخلق ويبدع. هذا الاندماج في العالم والتآلف فيه والتناغم معه والانصياع له أو تذليله وتطويقه لعنان اللعب والاكتشاف الحار الحر – هو الجذوة الرائعة التي ينقّب عنها كل شاعر حتى يستطيع ان يحرر الطفل الميت فيه ليتمكن من ان يكتب أو يقول أو حتى يحس بدفق الشعر فيه. فالشعر مثل الطفل إن كممته مات، وإن اكتفيت بخفق حركته وفرضت سطوتك عليه خرج كطفل مشوه. وترى كم من التشويهات النفسية نساهم في وسم الاطفال بها ونحن ندري أو لا ندري مع انواع السلطة و الهيمنات؟ وعليه كم من القصائد المشوهة التي تخرج إلينا بعاهاتها – أعني بشكل خاص آثار مختلف انواع السلطة والقمع – ولعل اولها وأخطرها أنا المبدع نفسه حينما يعلّي صوت الانسان الكبير المدجّن، الانسان المدعي المليء بالأباطيل والانتفاخ والزيف على صوت الطفل فيه، الطفل المنسي الملقى في قاع البئر.
¤¤¤"في منامي رأيت أنني أبدل أثوابي وأن بعضها معار، وبعضها ليس على مقاسي، فلم أبرح منامي"!!