الصفحة الرئيسية
 /  
فسيفساء الذاكرة والمخيلة الشعرية 2
 /  
رجوع

فسيفساء الذاكرة والمخيلة الشعرية 2


          وإذا كان اليوت قد تأثر بالخيام والخيام قد تأثر بالمعري لا سيما في تردد فكرة أن أديم الأرض أجساد متراكمة فإن مثل هذا الصدى عند إليوت يمكن أن نراه في فكرة التضمينات ووحدة التجربة الإنسانية خاصة أن مفردة الأرض وتربة القصيدة مفردتان حاضرتان بقوة في الأرض الخراب ، ولعل التنويع انتقل من الأجساد التي تشكل أديم الأرض إلى القول إن أرض القصيدة وتربتها مزيج متراكم من خبرات البشر وهو ما يمثل وحدة التجربة الإنسانية .

       والشاعرة الكويتية دلال جازي في ديوانها المميز (تشريح الأرنب الأبيض) تستحضر في تجربتها الشعرية عددًا من الرموز الشعرية والأدبية عامة مثل كافكا , و ولاس ستيفز , وتوماس ترانسترومر, و إليوت . وتستحضر إليوت في قصيدة بعنوان (نزهة قصيرة مع ت.س إليوت) ومن الواضح فيها حضور فكرة الانتقال والتناسخ بين الأفكار والنصوص ونماذج الخبرة الشعرية والبشرية التي أشرت إليها في مقالتي السابقة بوصفها فكرة محورية في الأرض الخراب . تقول دلال :

 " الأرانب المسلوخة

تستعيد فراءها وتقفز أمامنا

من مكان عال

( تنتج المدن ما هو مضاد لزوالها)

قال وهو ينقّل قدميه بحذر

بين الخراب والقصيدة ,

لكن لا أحد يمكنه التحديق

لأكثر من ثلاث دقائق

ولو في كوب ماء,

دون أن يكتشف أن ثمة خديعة !"

       فها هي الأرانب المسلوخة ( القصائد المستنسخة ) تحيا من جديد , وتستعيد فراءها , وتقفز من جديد. وقد قالت دلال في مقابلة معها كلامًا يطابق ما قاله إليوت عن إيمانه باستحالة كتابة قصيدة دون حضور الآخرين من الشعراء فيها ، و تحيل إلى الفكرة نفسها لكن ليس عند إليوت  بل عند بورخيس تقول :"عندما أكتب يكون هناك سطوة لكل شيء : حالة الطقس في الخارج , صوت السيارات المارة , طعم التفاح في فمي , وربما تتغلب آخر عبارة قالتها لي أمي على آخر مقالة أو قصيدة قرأتها . فأحاول أن أغيب ثم أعود إلى نفسي , أتذكر أن بورخيس قال مرة :" أنا لست متأكدًا من أنني موجود , أنا كل الكتاب الذين قرأت لهم وكل النساء اللاتي أحببتهن وكل المدن التي زرتها "

          وعودًا إلى الأرانب المسلوخة في قصيدة دلال (نزهة قصيدة مع ت.س.إليوت) سيلحظ القارىء تأكيد الشاعرة  في أول القصيدة على أن الأرانب المسلوخة تستعيد فراءها ، يفضي أخيرًا إلى  التأكيد على أن أزمة المدن (أو أرض الشعر ) تنتج ما هو مضاد لزوالها , وهو ما يكرس الفكرة الرؤيوية باستحالة الفناء أو نفاد الصورة , وهذا فراء جديد مسلوخ من إليوت . ولذلك هي في قصيدة مجاورة لقصيدة (نزهة قصيدة مع ت.س.إليوت) بعنوان  (والس ستيفز) تستعيد على لسانه مقولة أن النجاة من هذا الفناء تكمن في قوة المخيلة , وفي القصيدة ذاتها تكريس لفكرة التناسل والتناسخ , تقول :

" يجلس على كرسي كان عصفورًا

في الشرفة التي كانت سيجارة

ويقول :

بقوة المخيلة سننجو سيدتي

بقوة المخيلة ! "  

   فالكرسي كان عصفورًا والشرفة كانت من قبل سيجارة ، والشاعر يتجدد عبر القصائد وعبر العصور ، المخيلة الشعرية تنمو بالتناسل ، والعالم لا يفنى لأنه يتجدد بالتحولات والصور تنمو بالتناسخ وتتحول. أليس هذا هو لبّ الفكرة النقدية والشعرية التي آمن بها إليوت مصبوبة في قالب فني غير مباشر ؟