سر إن استطعت في الهواء |
|
رويدا لا اختيالا على رفات العباد |
حضر المعري بقوة وأنا أقرأ قصيدة دلال (وازدادوا تسعًا ) حيث تقول :
" تحت الدرج الطويل الملتوي لمنزلنا / تكثفت بقعة دم فوق بلاط أبيض / على هيئة دائرتين متصلتين حوافهما متقشرة / يصل بينهما سطح واحد أحمر وملتمع / منها ينط عصفور ويقف على كتفي / كلما أردت الصعود أو النزول / ثم بمنقاره اللزج يثقب الجلد ليلج في شراييني / هذا الدم ليس لي / فلماذا يحاول العودة . "
أرض المعري المكونة من أديم البشر وأجسادهم تبدو هنا متمثلة في الدرج الذي يتكثف فوق بلاطه دم , ينط منه عصفور ويقف على كتفها كلما حاولت الصعود أو النزول , ويحاول ثقب جلدها ويعود إلى شرايينها. ودلال إذ تختم هذا المقطع بالسؤال المستنكر : هذا الدم ليس لي فلماذا يحاول العودة ؟ تدفع القارىء أيضًا للتفكير بالأرض والبلاط والدم الذي يحاول العودة إلى جسد لم يأت منه . ويحضر بالضرورة هنا المعري الذي صور الأرض بجسد واحد تراكم من أجساد موتى مضوا , كما يحيل إلى إليوت وفكرته عن جسد النص المكون من أجساد نصوص أخر .
ومع أن سؤال دلال والموقف الغرائبي الذي تحاول تصويره يحيل إلى أديم الأرض الذي يوحد الأشياء والكائنات إلا أنها بعد ذلك تتابع في القصيدة تفحص الدم والبحث عن الجثة . وتسأل من رأى الجثة ؟ ولا يرد أحد . وهنا فإن القارىء الذي تلكأ في أول القصيدة في الانتباه إلى ظل المعري حول أديم الأرض وظل إليوت حول أديم أرض القصيدة سيملأ الفراغ بين السؤال والجواب الغائب , ليتعرف بنفسه على الجثة أو الجثث الخفية تحت أرض أو بلاط القصيدة . لذلك يبدو سؤال دلال في القصيدة عن الدم وعن (من رأى الجثة ) ليس سوى توسيع لفكرة المعري ؛ وما تفعله دلال هنا هو فتح للقبور المختفية في بيت المعري وإعادة مساءلتها ووضعها في جو المدينة المعاصرة .
وفكرة امتزاج الكائنات وتناميها من بعضها فكرة ملحة عند دلال , وتهتم بإعادة تدويرها في قصيدة أخرى بعنوان (على الطاولة ) إذ تقول :
" البرتقالة التي تدحرجت عن الصحن أمي
فتات الخبز فوق المفرش أبي
مقبض الكوب الخزفي إخوتي
المنديل المتسخ أنا "
هذه المرة تلفت دلال النظر إلى ما فوق الأرض , لن نبحث عن أديم متشكل خفي تحتها , لأنها تدعونا إلى مشهد مدني معاصر , ومسرح هذا المشهد تحديدًا فوق الطاولة !! وهل ثمة أمر مادي يومي متكرر أكثر من مشهد الطاولة والقوت اليومي ؟ إذًا لا بأس لو تدخلت دلال لتوضّح الأدوار ؛ ولتؤنسن الجمادات وتمنحها صلة دم وقرابة !!
فالبرتقالة المتدحرجة من صحن البرتقال أمها , وفتات الخبز فوق المفرش أبوها ، ومقبض الكوب الخزفي أخوتها . هذا التصوير الذي قد يصدم القارىء وقد يراه هزليًا أو عبثيًا يشبه كلام طفلة تلعب بأدوات المائدة وتمسرح الأدوار يمكن التفكير فيه في سياق فكرة تداخل الكائنات وامتزاجها ؛ فقد صاغت الفكرة والمشهد هنا بطريقة ساخرة , ولكنها السخرية المرة , التي تعلن موقفًا من حالة المدينة والمرور يوميًا في مصيدة الاستعمال والتشيؤ. ومع الوضوح الوهمي الذي يوحي به النص لطبيعة الأدوار وتقسيمها مجازيًا بين أفراد العائلة إلا أن هذه الأدوار والعلاقات تغرق من خلف هذا الوهم بضباب عبثي , ضباب من اضطر إلى التعامل مع واقع مسّ جلال ما لا يمس , وهو ألمٌ لم تقله صراحة , لكنها لمحت إليه بالمنديل المتسخ , لذلك لا غرو أن تبادر كف القصيدة بمسح هذا العبث والضباب , ولا غرو أن تعطي لنفسها دور منديل متسخ ! فالقصيدة كانت دومًا تقوم بدور تنطبع فيه التجارب وتنقل الخبرات , وإذا كانت التجربة الإنسانية والشعرية ( وفق إليوت ) مزيجًا ووحدة إذا فلا يمكن تخليص منديل الشعر من هذا ولا الفكاك من هذا الدور .