لقد تبنت دلال حازي في ديوانها (تشريح الأرنب الأبيض) كما أشرت في المقالات الماضية رؤية شعرية تحاول أن تزيح الغطاء عن الظواهر ، وتضع الأشياء والمسلمات في تجاورها أو امتزاجها تحت ضوء المخيلة. كما أنها بهذه المحاولة لإزاحة غطاء الظاهر تسعى لوضع الأشياء والأفكار داخل إطار نسبية أو شكوكية واضحة . ثمة مسعى حاد في الديوان لهز الصور والأفكار السائدة ، ومحاولة لرؤية الأمور من زاويتها الشعرية الخاصة ، وهي زاوية جديدة وصادمة أحيانًا . ولكن من الواضح أن هذا مطلب فكري وشعوري وشعري في الوقت نفسه حرصت على بثه في القصائد كلها ، وكأنما كانت رسالتها هي التشكيك وكشف خديعة الظواهر وعدم الثقة بالمعطيات الجاهزة سلفًا .
وقد عرضت في المقالة السابقة كيف نبشت دلال أديم الأرض ذلك الأديم الذي جاء في رؤية المعري لتبحث عن جثث خفية ، وكيف عركت قطرة دم على البلاط لتحولها إلى ريش عصفور كان يقف ملحًا يحاول ثقب جلدها. وأضيف إن عنوان ديوانها (تشريح الأرنب الأبيض ) يحمل كلمة تشريح ، والتشريح مسألة تتجاوز الجلد الظاهر لتغوص إلى النسيج الداخلي والأعضاء الخفية . التشريح يحتاج إلى مبضع أو شفرة ، لذا لا نستغرب إذ تقول في قصيدة بعنوان ( ما قلته للمارد ) :
" أريد اللغة التي هي نصل ...../ أريد اللغة التي ليست لها سماكة الشيء / لكنها تعبر تمامًا عنه فيكون ...../أريد لغة لها حكمة المحتضر والنسوة اللائي ينتظرن/ أريد لغة لها التفات الماء إلى مجراه /وسكون الحجر /لها المفاتيح والقوس واليد التي تهز الغصن / أريد اللغة /لكنها /تفلت . "
إن اللغة التي تقف على حد الاحتضار هنا هي اللغة التي تحلم من بدء التكوين إلى الحاضر وآخر العمر الذي على وشك أن ينتهي , وفي الوقت نفسه ينقذف إلى المستقبل .إنها الحلم بلغة شعرية تجمع الماضي والمستقبل (أذكّر القارئ بمقولة إليوت ورؤيته التي عرضتها في مقالة الأولى من هذه السلسلة ) حيث تصبح القصيدة ليست سوى (التفات الماء إلى مجراه ) تلك الالتفاتة ليست سوى عودة حتمية إلى الماضي , وهي لحظة تشريحية تعود إلى الأشياء والأفكار تقف عندها بمبضع المساءلة والتشكك .
والماء نفسه الذي التفت إلى مجراه في القصيدة السابقة هو نفسه الماء الذي سيرتاب في أمر نفسه في قصيدة بعنوان ( الأبدية الناقصة لأعمدة الكهرباء ) تقول :
" الماء متعب ولا طاقة له في أن يناورنا بطوفان جديد / ومع هذا نصنع بدأب زوارقنا الصغيرة المتهالكة /....ها نحن نسير متثاقلين تحت الرمادي في المدينة / لو أنك تكون ظلاً أيها الرمادي لنفهم أو نرتاح قليلاً / يا دخان الأخضر عندما كان عشبًا / يا دمًا في قاع المحيط / يا أيتها السحابة العالقة بين أعمدة الكهرباء والماء الذي يرتاب في أمره / يا أيها التفسير والتأويل والمتن والشواهد ."
هذه النزعة التي لا تثق بقشرة الأشياء وظواهرها هي التي تلاحق زوارقنا المتهالكة بحثًا عن نجاة من طوفان لن يحدث , هذه هي المخيلة الشعرية التي تلاحق حتى نية الماء و السحابة العالقة بين أعمدة الكهرباء , هذا الماء الذي التفتت هي لمجراه هذه المرة , ورأت سحب الارتياب فيه عالقة في كتب التفسير بين المتن والشواهد !