ختمت مقالتي السابقة بالتأكيد على حضور فكرة التشكيك وعملية التشريح والغوص إلى ما تحت الظواهر عند دلال ، وأشرت إلى تكرر فكرة المكيدة والخديعة في الأشياء والأفكار . وكانت أتساءل ما وظيفة هذا الكشف والتشريح رؤيويًا وشعريًا وإيلام يحيل ؟
دلال تفخر بهذا التشريح وبممارسة صدم القارئ بهذه النزعة الشكوكية وإحباط ما تقوله ظواهر الأشياء . إنها تتعمد ذلك ، مشعرة القارئ أن دور الشعر أن يتماس مع الأشياء والأفكار وأن يتفاعل معها بتلك الطريقة ويتوغل بمبضعه لا من أجل التشريح بل من أجل أن يصل إلى منطق للوجود ومعنى لسرده ، ولكن بعد أن يجد ذلك المعنى يعمل الشعر عملاً آخر قد يبدو عبثيًا , وهو محو ما وجد وطمس المعنى ومحو الأثر . تقول في قصيدة بعنوان مهارات :
" يمكنني تقشير تفاحة / إلى خيط أحمر حلزوني طويل / وأنا أشاهد فيلما من شرق آسيا / بين المشهد الأول والثالث / أو في حالات خاصة / قبل أن يصبح للقصة معنى مؤكد / يمكنني تقشيرها بتمعن شديد / حتى يفقد اللب قيمته مقارنة بهذا الاستعراض – الرديء أصلاً م والقليل الأهمية . "
حيث يمسي تقشير التفاحة عملاً ذهنيًا وجماليًا وليس عملاً حسيًا , وحيث يمسي المشهد الفاقد للمعنى أو القليل الأهمية ليس مشهدًا في الفن أو السينما , وإنما أيضًا مشهدًا وجوديًا متكررًا ومؤلماً بهشاشته وعدم صموده تحت لحظة تمعن أو تقشير فكري !
إن تقشير التفاحة _ تفاحة الوجود _ والكشف عن معنى أو خبيئة والبحث عما هو مؤكد أو حقيقي مطلب مكرر في معظم قصائد الديوان ، وعنوان الديوان أنذر بهذا التشريح ، التشريح , الذي قد يفضي بالشعر إلى ما يبدو عبثيًا أو بلا معنى , لكن هذا التشريح ذاته هو الذي يجعل دلال تبدو مثل العرافة (سيِبْلِ) التي تعرف كل شيء ولكنها تعرف أن كل شيء عبث !!
وقد كان ت.س. إليوت في قصيدة الأرض الخراب يبدو كذلك . وكان يعرف أن التيه والخراب قدر مرافق , ولذلك قبل أن يبدأ قصيدته (الأرض الخراب) مهّد لها بتقديم باللغة اللاتينية واليونانية ونقوش فحواها ما يلي : " رأيت بأم عيني العرافة سيبل في كوماي تشنق في جرة . وعندما قال الأولاد لسيبل : ماذا تريدين ؟ أجابت : أتوق للموت . "
ولعل هذا ما أفضى بإليوت في مقطع جميل من قصيدته الطويلة الأرض الخراب إلى إبداع هذه الصورة الشعرية المذهلة :
" الكتابة متحف
تتساقط جدران خزائنه
والنفس في التصفح غبار شعاع "
وهو ما دعاه أيضًا ليقول :
"الخطيئة الإنكليزية
تستنسخ صفاتها في الروزنامة "
فإذا كانت الكتابة متحف تتساقط جدرانه ، وخطيئة تستنسخ صفاتها في الروزنامة بلا كلل فلا غرو إذا أن يقتل قلق التأثر أصحابه ، أو يقفون على حوافه مؤمنين بأهميته وبأهمية عبثية الموت من أجل الدخول في المتحف والتاريخ !!