الصفحة الرئيسية
 /  
مومياء
 /  
رجوع

مومياء


"تمتمات غرزة الصولجان" نص أتعبني ذلك التعب الجميل الذي يعرفه ثلة من الناس، اتعبني حتى التم على الورق.. فقد كانت التمتمات أشبه بغمغمات محتضر، أشبه بالنفس الأخير الحار الذي يظل يلفح على الرغم من الموت !!

ولم تكن التمتمات سوى جزء من خطاب متصل للذات المفتون الملاحقة بالنفي والغياب، فيه دوزنت مقام الصحراء فالتمعت جنائن مختومة معلقة وشرعت تصعد سلم الروح، و دوزنت مقام الصحراء فأجهشت صناديق الرنين في غرف قلبي الأربع وأوتار الشرايين والأوردة، وراحت أصابعي تسور تلك الجنائن تظن أن بامكانها تطويق شساعة لا تحد، فراحت تحاول أن تتدارك على الأقل آلها وإيقاع رقص عطرها الهارب فتلتمّ هي على الورق إذ تتبدد الروح على شهقات الأوج!!

كان النص بيداء ورقة بيضاء وقفت فيه بدوية ملثمة حائرة في خباء اللغة لا تدري كيف تسند إلى عمودها عمود جثة غائرة ثائرة!! ثم راحت تغزل بابرتها المائية وإبرة الذاكرة و ايقاع الوشم والختم البدوي الحار، تطرز بتمتمات الغرز رداء مومياء النص، فيبدو مثل تابوت يضم جثة داخلية طال عومها، إذ لم يكن الورق إلا تابوتا لجثة الكلام، فقد تبدى لي جليا لحظتها كيف ان قول الأشياء وكتابتها قلما أدى إلى شيء سوى قتلها!!(1)

أينطفىء النفس ويموت الصوت ويلفظ أنفاسه إذًا إن تلفظنا به؟ وأين المفر إذًا؟ وهل ثمة لغة أخرى غير طوق نجاتنا الوحيد المكن ؟ ذلك مأزق انساني و ابداعي. وهو ما كانت تجابه به ذاتي القارئة ذاتي الكاتبة على مسافة ما من بعضها وبينهما هذا المسجى وذاك التابوت، ذلك الذي يحمل قضية اضمحلال الذات أمام اللغة، اشكالية الذات مع اللغة، عصف الذات وموتها مع هيمنة لاهوت اللغة ولاهوت المؤلف، حيث ثمة جثتان:جثة الكلام وذاك على هوله وألمه جزء يسير جدا من مراوغة اللغة والذات معا في جدلية القول والصمت.

وربما كان ذلك فعلا جزءا من البقاء، ذلك الذكاء الذي ليس لنا فضل فيه، ولا قدرة السيطرة عليه، أعني حرص اللغة على إبقاء المسافات البيض المحايدة وإبقائنا على مسافة من القول الكامل، ذلك الذي يجعلنا نبقى مرتعبين من الخروج من جسد الجثة، ومن خباء اللغة!!

 


(1) ذلك أني أرى أن موقفنا من اللغة وموقف اللغة منا ومن الكون والموجودات ينطوي على العنف و الاعتساف في أصل النشأة، وسيرد بشيء من التفصيل حديث عما أراه حول آلية العنف فينا وفي اللغة وحول الجثة التي تموت ولا تموت في المقالات اللاحقة!