الصفحة الرئيسية
 /  
نمنم.. نم ...نم!!
 /  
رجوع

نمنم.. نم ...نم!!


أستطيع أن أسترجع إحساسي بالرعب وأحلامي الصغيرة المروعة المفزعة كلما تذكرت ذاك الذي رُوعنا به ونحن صغار، ذاك المسمى (النمنم)، أتذكر الآن رعب طفلة الثامنة يوم جاءت الحجة عند باب البيت في الطائف تبيع (الدوم والحلوى) عندما مدت يدها لتأخذ القروش أمسكت يدي الصغيرة، لكنني –برعب ملأني مما كان يتناقله حديث الصغار وخيالهم عن النمنم، وعندما شعرت بخشونة يدها- رأيت فجأة – ولست أدري كيف – فجأة ظهرت حراشيف ومخالب لتلك المسكينة، أفلت وعدوت إلى مجلس ابي الكبير، الذي هو اقرب موئل من باب البيت، ورحت ابكي في حضن ابي –رحمة الله عليه- وأنا أصرخ: يبه، النمنم عند باب البيت، حاول أكلي، ولم رحت اقص قصتي، راح والدي، الذي التهمه نمنم مرعب بعد هذه الحادثة بسنتين، يؤمن خوفي، ويقول لي:" يا فتو، هذي حكاية يخوفون بها العيال الصغار عشان ما يرحون بعيد عن عتبة البيت أو الدكة، و بعدين هذي الحجة المسكينة ما هيب النمنم، وأنت كبيرة، والخوف والتخويف للصغار".

 

أذكر ما قالوه عن هذا الكائن العجيب، فقد قالوا: إنه ينزل من السماء دون ان يراه احد، ينزل فجأة حينما يجوع، يسير بين الناس ويتخير، شكله شكل انسان ووجه معتاد أليف، مثله مثل الناس، لكن إذا دققت فيه ستجد ان له ذيل قصيرا لا يستطيع ان يخفيه، لذلك هو دوما يسير حريصا على ألا يعطيك قفاه!! فيبدو شديد التهذيب لذالك هذه علامته الفارقة: ذيل قصير وهو يتودد إلى الناس فإذا اقتربوا منه التهمهم، وإذا ابتعدوا عنه لحقهم والتهمهم أيضًا، فجوعه لا يخطئ الضحية مطلقا.

النمنم منذ قديم وهو يلتهم الناس ومازال، لكنه مع الوقت بدأ يخفف من ذيله القصير لكن في الوقت نفسه صار نهمه يكبر ويكبر، مازال يفترسهم في كل وقت وفي كل منعطف يلتهمهم بهدوء وحنان بالتقسيط دون تحديد.

وليسمح لي القارئ في أن قصصت عليه مشاعر أو ذكريات لا تعنيه، ذكريات قصية لخيالات ومخاوف طفولة.. استدراجات و تماهيات لتشكلات النمنم الحديثة، لكن – وإن لم يسمع القارئ في صغره بأحاديث النمنم- فأنا أتوقع أنه بالضرورة عرف ومازال يعرف أشكالا من الرعب والخوف والتوجس، فكلنا كبشر أصحاء، وبعيدًا عما يسمى بالوساوس المرضية أو الأعراض المقلقة التي تصل إلى حد المرض – نحس بالخوف وتمر بنا لحظات مبهمة تعبر بإحساس غريب غامض خائف من شيء ما مترقب دون هوية أو تحديد، لحظات – وإن لم تطل- لكنها تحمل الاحساس المبهم بشيء يجعلك تتآكل، شيء ما ينهش. أهي أفعى داخلية لا تتجسد ولا تُرى ولا تلمس، أم نمنم يجر ذيله في تجاويف الفكر والوجدان ؟إنه هذا أيضًا ممن أصيبوا بالقلق المعرفي والقلق الوجودي فأنت بالتأكيد تشعر بنمنم تعرفه وحدك، واحد يخصك يلتهم أركان المعرفة وثوابتها لتعود تنبعث من جديد، وكذلك- بالتأكيد- تعرف أيضًا أن ثمة نمنمًا كونيًا كبيرًا مازال صنو الحياة، يدب يطفئ جوعه إلى أن يشاء الله، وهناك نمانم اخرى يحركها النمنم الكبير تجعلك فجأة لا تدري متى يقنصك ملتاث العقل وأنت في حديقة مدرسة، أو تتفجر بك بناية، أو تسقط بك مشتعلة من تلقاء نفسها أو بفعل فاعل طائرة.

لا فرق كلها نمانم مهذبة انقرض ذيلها القصير منذ زمن سحيق!! والويل لمن يحاول أن يتعدى حدود العتبة أو يبتلى بشهية الاكتشاف والركض فثمة قناص عند المنعطف شديد الأناقة والتهذيب، وغالبًا شفاف جدًا وغير منظور يتولى عن كل سلالة النمانم تأديب من تسول له نفسه أن يكبر!

 


.