الصفحة الرئيسية
 /  
ورقة د الرويلي عن كتاب الظل
 /  
رجوع

ورقة د الرويلي عن كتاب الظل



د/ ميجان الرويلي

 

كتاب الظل[1]: هبة الموت

 

"ثم رحت أجمع كل ما يتعلق بثيمة الظل أثناء قراءاتي المختلفة. وقد شدتني بقوة عبارة أوردها ابن منظور يقول فيها: إن المرء إذا مات أشمس وضحا ظله، وكانت العبارة تربط ربطا واضحا بين الظل والموت. ... ثم تتبعت الظل في الميثولوجيا ... حيث الظل يعادل الروح" (الظل، المقدمة، ص: 7)

 

       أريد في البداية أن أصر على أمر الذاكرة وأن نتذكر باستمرار ما نتذكره  ، أي أن تعود الذاكرةُ إلى نفسِها، وأن تكون البدايةُ عودةً، لأن "الابنَ" -كما أثبتت فاطمة الوهيبي في كتابها مرارًا وتكرارًا - "ظل الأب والمرأة ظل الرجل" (ص: 249) ! فنحن مع كتاب الظل هذا على صلة وطيدة بالذاكرة وبالعودة إلى البداية، العودة باستمرار على مسار الأب وتركته . ومن يكتب عن الظل لا شك أنه سيتبع هذا المسار، هكذا كان وضع (هملت) بطل رائعة (شكسبير) بالعنوان نفسه ، وهكذا قرأها (جاك دريدا ) في كتابه أطياف ماركس.[2] وعلى هذا المسار أيضًا لابد أن تمتد دلالات الظل إلى الأشباح والعالم غير المرئي، وإلى الصلة بين البقاء والفناء.

   وعلى عكس ما يعتري الظل في العرف السائد من خفة ومتعة وفكاهة ، فإن كتابُ الظل - الذي نحن بصدده- ثقيلٌ وكئيبٌ ، يعجُ بالأشباح والأموات العائدة إلى الحياة فجأةً من أماكنَ خفيةٍ وظاهرة ومن كلِ ثقافة . وهو باختصار كتابُ الحدادِ المستمر وبكاءِ الموتى ومديونيتِنا لهم وحقوقِهم على الأحياء ، وهذا هو الإرث الذي يصل الموتى بالأحياء ، أي هذه العودة المستمرة التي تقتضي دفعَ المديونيةِ كدًا وتطوافًا مستمرًا خلف الظل العائد، وتتبعه في الأرض والفضاء والماء.

   وقد تتبعت فاطمة الوهيبي الظل في كل هذه الفضاءات , وطافت معه مواقعه المختلفة في عرض أكاديمي يستثير الدهشة بقدر ما يرتكز على اجرائية أكاديمية صارمة ومنهجية لا تعتريها غفلة أو خروج عما رسمته من مسار , رغم أن الظل لا يقبل الحد والحدود . وامتد هذا التقصي الأكاديمي المنضبط من الأساطير في ثقافات مختلفة وأزمنة متباينة إلى الشعر العربي المعاصر مرورًا بمواقع الانثروبولوجيا والخطاب الديني وعلم النفس والأدب بكل صنوفه ، إضافة إلى موروث شعبي ثري .

     هذا الجهد الهائل لا يمكن ألا أن يستثير دهشة القارئ وإعجابه سواء على مستوى العرض وعمق الاستدلال أو على مستوى التقصي ولملمة أشتات الموضوع وجمعها في ترابط متسق . لست هنا بصدد عرض الكتاب أو كيل المديح والثناء ، بل سأقدم قراءة مبدئية لموضوعة الظل مبينًا أن الموضوعة نفسها عكست نفسها كما لو كانت في مرآة ، أو صورة داخل صورتها في تراجعية غير منتهية . هذه القراءة ستعتمد على حالات استثنائية خرج فيها الظل عن مساره رغم الضبط الأكاديمي الصارم .

     ولكي نتذكر البداية، سنعود بالذاكرة إلى ما أشرت إليه في البداية ، نعود إلى الأب كما يعود ظله إليه، أي كما يعود الابن إلى أبيه لأنه "ظل الأب." وبما أن مثل هذه العودة هي عودة إلى تركة وإرث فإنها أيضًا عودة إلى حداد ومديونية قلما يعترف بها الابن إلى الأب. وفاطمة الوهيبي، على عكس الكثير منا، لم تشأ أن تترك إرثَها، بل أصرت على تأكيد حقِها في التركة، بأن تدفعَ مديونيتَها التي لم يدفعْها الكثيرُ منا بعد، وربما لن ندفعَها لأسبابٍ جوهرية.

   في هذه البنية، بنية العودة والحداد والمديونية لابد أن يتجلى الظل ، لابد أن يظهر تمامًا سواء في كتاب أو في امتداد. لا أستطيع أن أكتب عن الظل دون أن أشعر بالمفارقة والحرج : لكن هذا ما أكدته الوهيبي في كتابها: تجلى الظل (إذا عادَنا طيف الذاكرة) بين الصدى والموت في آخر الكتاب مع أسطورة نرسيس : في الماء ، بين إيكو (Echo) وإرث نرسيس , وهو إرث نمتلكه نحن ولا زال معنا، دون أن نشعر بفقده أو أن نندبه؛  لكنه ليس مع إيكو معشوقته، فهي وحدها التي كان عليها أن تفقدَه وتندبَ موتَهُ ليكون الإرثَ المفقود التي لا زالت تتمسك به صدى (وهذا هو اسمها) مبتورًا غير مكتمل. وبنية الفقد هذه، بنية الصدى المبتور والظل المراوغ وهلامية الأشباح هي ما جهدت الوهيبي في وصلها وتكثيفها حتى تصبح أو تمسي مادةً ملموسةً فحاصرتها بين دفتي كتاب حتى لم يعد يشفْ أبدًا !

ومن غريب الصدف أو محاسنها (أو لعلها حتمية الظل وشبحيته) أن يعقد قسم اللغة العربية بكلية الآداب ندوة حول الكتاب نقلتها الكلية عبر الشبكة التلفزيونية المغلقة إلى القسم النسائي، حيث كتاب الظل وباحثته، فاجتمع الآباء في كلية الآداب لمناقشة الكتاب، كتاب الظل وانتقلوا أشباحًا عبر الأثير والشاشات ووسائط مرئية وغير مرئية (انتقلوا أحياء على الهواء كما يقال في مثل هذه المواقف) إلى كل فضاء وهم لم يبرحوا مواقعهم، امتدوا كما الظل وانتقلوا كما الأشباح ليس لمعالجة الظل أو للاعتراف بمديونية وإنما للحكم على الكتاب أو له، فأثنوا وشجعوا وامتدحوا. وهذا الموقف يجسد موقف الأب من ابنته لا موقف الأب من ابنه، فهذا الأخير ظل الأب وله حق التركة ، هو نفسه الظل ، فلا حاجة له بتتبع نفسه ، بل على غيره أن يتتبع الظل وعلى غيره أن يعترف بالمديونية ! فقانون التركة ، وهو قانون الظل ، يسري من الأب إلى الابن ، وليس إلى الابنة (هذا ما أكدته الوهيبي نفسُها في مقاربتها الموضوع).

    هذه هي تركةُ الظل الثقيلة على الابنة ، ولعل هذا هو المحرك الدافع لتقصيها مساقطَ الظل وحلولَه في فضاءات ليست لها ، إذ إن قانونه المخاتل المراوغ الوجودي يقول إن على الابنة أن تكون حيث لا يكون الظل: فهل تستكين وتترك حقَها في التركة والإرث وتتحلل من مديونيتها وواجبها تجاه الأب وتجاه الظل؟ شاءت الوهيبي ألا تتنازل عن حقها في التركة وفي الإرث، وأن تقتفي الظلَ لتؤكد هذا الحق بأن تكسر قانون الظل وتحتالَ على الاحتيال: فأي نجاح حققته وأي ظلٍ أدركته؟

     قانون الظل مبني على مفاجأة الاختفاء ، خاصة إذا استنرت بالشمس في بحثك عنه ، ومن البداية و"الظل" في كتاب الوهيبي بين "مشمس وضاح"، وهما المصطلحان التي ابتدأت كتابها بهما. فمن "ضحا ظله" في الموروث الشعبي يكون قد قضى ومضى ، لأن الظل هنا دليل الحياة ومرجع البقاء ، ولا نستغرب إذن إذا كان الابن ظل أبيه. ولإدارك أهمية هذه العبارة، على المرء أن يقرأ الإهداء في مقدمة الكتاب، وهي مقدمة لا بد أن نستعيدها أيضًا.

      وبالعودة إلى مفاجأة الاختفاء فإننا سنجدها تجسد قانون الظل العام ، أما إذا تعلق الأمرُ بالأنثى فالمفاجأة تتضاعف، فهي تختفي كما من "ضحا ظله" أو من "أشمس". ليس غريبًا إذن أن تختفي "الأم" (كما هي حالها في صيدلية أفلاطون)[3] وتستظل حتى لا يبقى لها ظل، لكي تظهر الصورة، التي لا يمكن لها أن تظهر بغير هذا الاختفاء والتظليل. كما هي حال المرآة التي لا تعكس الأشياء إلا إذا غطى الزئبق خلفيتها ليحول شفافية الزجاج إلى سطح عاكس. وقد وصلت الوهيبي إلى هذه الحقيقة حين قالت: "هكذا يبدو موقع الأب مثل موقع المرآة، الجسد يتضاعف عبرَها ، مثلما تقف الشمعةُ وتمتد عبر ظلالِها. لكن المرآة مثل الجسد لها ظلها الخاص، وظلها زئبقها المعتم الخلفي الذي يمنحها إمكانية المضاعفة، وبدون هذا الزئبق تمسي مجرد زجاج شفاف" (ص: 241). ولعل الوهيبي لم تعر هذه البنية اهتمامًا كبيرًا ، بل تركت المرآه وظلها، ولم تر أن هذه المرآة تخص الرجل/ الأب دون سواه، أو ربما الأب وابنه.

     إذن نستطيع أن نجد موقع الأب المتكثر وامتداداته ؛ لكن يبقى السؤال: أين الأم وموقعها؟ ليست المفاجأة في أن تتقصى الوهيبي صورة الأم وعلاقتَها بالظل، سواء في بداية الكتاب حيث تعالج لنا الظل الأصل، والكتابة والعلاقة بولادة الحياة في الموروث الديني والفلسفي والأدبي، بل المفاجأة أن يتحول كل هذا الجهد وهذا الوجود إلى إظهار "الأب" في الواجهة حتى لو لم يكن له ظل! وأنا أشير هنا إلى إهدائها كتابها إلى "أبيها"، وهو في النهاية كتاب الظل لا كتاب آخر، كتاب البقاء! هذه هي نهاية مطاف مديونية التركة: لعلنا نتذكر أن (انتغوني) في ثلاثية (أوديب )لم يكن لها غير هذا الدور: أن تكدح وتكد من أجل الأب ، ومع ذلك لم يقبل كريون (وهو الذي أوصاه أوديب خيرًا ببناته) إلا أن تكون قربانًا ! نحن هنا بصددِ هذه البنية، بنية الظل وجهد الابنة في تقصيه لتؤكد حقوقَها في التركة والإرث لتكون ظل الأب ، لكن قانون الظل يبقى بين الأب وابنه، وعلى الابنة أن تدفع مديونيتها فقط.

وفي كلية الآداب، كما أسلفت، اجتمع الآباء في منتداهم لاقتسام جهد الابنة، وتسجيل رضاهم أو وسخطهم (على الهواء مباشرة) وتأكيد دورهم ومديونية الابنة لهم. واعترفت فاطمة الوهيبي من البداية بهذه المديونية، وقضت ما عليها من حقوق رغم الإساءة والإهمال، إن لم يكن الاستبعاد، فظهر الآباء المنتدون أشباحًا ضمن أشباح موغلة في القدم والحداثة : فهي في الكتاب قد تتبعت الآباء الذين عالجوا أمر الظل وقضاياه وصلته بالأشباح والأموات ، وجهدت في توثيق كل تلك الأمور ، كما صورت لنا ما لقيته من عناء وإنكار، وكان حري بها أن تأخذ هذا الإنكار دليلاً.

   لقد صورت لنا بنية الإنكار هذه حين صورت لنا وضعها الذي سيتبدى فيما بعد صورة للظل داخل ظل إلى ما لا نهاية؛ لنقرأ ما تقول:

لقد كان الظل بنية زئبقية متحركة خصبة جوالة، مما اضطرني في كثير من الأحيان إلى الدخول في حبائلِ هذه البنية لأستدير من بعد للإحاطة بها قدر الإمكان ، وبقدر ما أتيح لي من جهد ووقت في ظل عجز المؤسسات الأكاديمية والثقافية هنا، في السعودية، عن دعمي وتوفير فرص التفرغ والبحث لإنجاز هذا البحث ؛ مما أدى إلى طول المدة التي أنجز فيها ، فبعضُ فصوله كتبت قبل عشر سنوات، ثم تتالت فصولُه الأخرى ، في تقطع مؤسف ، على مدى السنوات الماضية إلى أن استقر أخيرًا بين يدي القارئ . (ص: 9)

ها هو استقر بين أيادينا حقيقة لها ظلها، بين يدي القارئ وليس القارئة ، لقد كتبته لنا رغم اجحافنا كأوصياء مؤسسات وبنى أكاديمية وثقافية (وكلها مؤنثة) ، ولا بد أن يكون لهذه المؤسسات ظل وإن كان عجزًا ("في ظل عجز المؤسسات الأكاديمية والثقافية"). أمر طبيعي أن يكون للمؤسسات الأكاديمية والثقافية ظل، ولأنها جنوسيًا "مؤنثة" لابد أن يكون ظلها "عجزًا" لأن الظل في مبناه وأهدافه ليس باعثا على الحياة للأنثى! ليس مصادفة إذن أن يفتتح (دريدا )كتابه أطياف ماركس بمقولة مقتضبة تستشرف ظهور الشبح مفادها "أود أن أتعلم كيف أعيش أخيرًا" (ص: xvii)!

وجهد الوهيبي وما صاحبه من الكد والكدح والحفر بالأظافر لا يبوح إلا بالحداد المستمر، وإن كان كما تقول "في تقطع مؤسف" على أرض الواقع ، لكنه حداد مستمر بين دفتي الكتاب ، مستمر في الزمان والمكان، من العنوان حتى تمركز الظل وجوديًا في "أطياف الإدراك الإنساني" (ص: 203؛ آخر كلمات كتاب الظل قبل ملاحق الثبت الإضافية لأن الظل لا يقبل الثبت)! فما هي هذه المسافةُ المكانية والزمانية إن لم تكن مسافة الحقوق والواجبات التي على الابنة أن تقطعَها ظلاً دون مقابل ، دون تركة أو إرث: إنها ليست سوى الاعتراف بالمديونية , وقد أقرتها واعترفت بها مقدمًا وفي المقدمة : فهي تستدرك حق هؤلاء الأشباح ووجوب دفعها الدين والمديونية؛ فتستحضرهم بتعزيمة "التقدير والشكر" التي تكررها في نهاية الاعتراف؛ ولعلنا لا ننسى أن "التعزيم" مبني على التكرار. تقول أولاً:

وإن غاب الدعم من قبل المؤسسات الأكاديمية والثقافية فإن ذلك لم يغب من قبل الأساتذة والزملاء، الذين يسرني وأنا أحرر هذه المقدمة أن أخصهم بالتقدير والشكر. (ص: 9-10)

فركزت أهمية هؤلاء الأشباح على البدايات والمقدمات، إذ ظهر عندها من الآباء: الغذامي، والسماعيل، والبنكي، والبازعي، والسريحي، بل حتى أنا نفسي عددت ضمنها شبحًا من بين أشباح ظهرت زمانيًا ومكانيًا في المقدمة ليتبعني حسين الواد ومحسب ، والعاصم،  وهنا بالذات عند نهاية الاعتراف، يجب تكرار المديونية، إذ تقول مكررة "فله ولجميع من تقدم ذكرهم أبدي كل الشكر والتقدير." (ص: 10)

   دعونا نتذكر ما رصدناه للتو، فهي تقول "ويسرني وأنا أحرر هذه المقدمة"! نعم! لقد حررت مسرورة المقدمة بالاعتراف بالمديونية للآباء وكذلك حررتها من الأنثى ، ما عدا فاطمة الوهيبي التي ظهرت فقط ظلاً في نهاية المقدمة في الرياض مكانيًا وفي شوال واكتوبر زمانيًا ! هكذا اختتمت مقدمتها بأن رصدت اسمها خلف كل هؤلاء الأشباح ، وكأنها بهذا الموقع تحتل الطلاء أو الزئبق في خلفية زجاج المرآة لتجسد حال الأنثى في مشهد الأسرة من صيدلية أفلاطون إذ ظهرت الأم هناك في حديقة دايونسيس (وقد أحالت الوهيبي إلى هذه الحديقة أكثر من مرة) صورة غير مظهّرة، بدت في الخلفية عتمة أو شبحًا على أوراق أشجار الحديقة لتحقق مسرورة إضاءة المشهد الأسري الذي يكشف الأبناء والآباء، أما هي فبقيت هناك ظلاً في الظل بلا ظل!

هل هذه مفاجأة؟ ربما، لكنها لن تكون الوحيدة إن لم تكن بنية الظل الجوهرية. فهي تخبرنا في تمهيدها (في المهد) أن الظل لا يظهر إلا في فضاء بصري وبمصدر ضوئي ليتحقق التكاثر (التضاعف) والتناسل ومعه أمر الأصل والفرع (ص:13). هذا التكاثر والتضاعف والتناسل لا يعني المرأة لأن الامتداد من الأب إلى الابن، بل إن الوهيبي نفسها تقر بذلك وتستند إلى الدراسات الانثروبولوجية وتثبتها في شعر الملا. وهنا بالذات في شعر الملا، تذكروا، وعودوا بطيف الذاكرة إلى هذا الموقع، لأنه ليس كمثل أي موقع ولسبب ليس كأي سبب. تذكروا أن الوهيبي قطعت سلسلة مقاربتها للظل في الشعر، لتستظل بالنثر لأنها بعد 240 صفحة، وفي تعبير عفوي مألوف، تود "أن تبدأ" "قبل أن تتوقف"! فكيف لها أن تبدأ، وقد ابتدأت زمانيً ومكانيًا منذ مدة ليست بالقصيرة؛ بل حتى على مستوى العبارة، كيف للمرء أن "يبدأ قبل أن يتوقف"؟ أعلم أنني اجتزئ المفردات من سياقها، لكن كيف للمرء أن يتدبر مثل هذا التعبير، الذي لن يستوقف أحدًا لولا موقعه وموضوعه وبنيته التي تجسد بنية الظل: الذي يعود قبل أن يذهب؟ كيف له أن يتوقف ليبدأ. أليس التوقف يأتي بعد الابتداء ؟ لنقرأ

وقبل أن أتوقف عند عدد من قصائد أحمد الملا أود أن أبدأ بنص نثري تتكثف فيه تلك الرؤى عن الموت والظل، وهو نص بعنوان (متخذًا ذريعة ما، يلهج بمن غفل عنه) مهدى إلى أبيه، يصور فيه أحمد الملا رفقتَه لأبيه المريض وهو يعاني شبح الموت. (ص: 240)

    النثر إذن بداية، وأي بداية يصمت فيها الشاعر عن شعره والباحثة عن وصل موضوع الشعر، والتوقف ليس لسبب غير الأب والابن والموت: هذا هو المشهد الأسري الذي على الأنثى أن تتوقف في مفارقة عجيبة، تتوقف لتبدأ وقد ابتدأت منذ سنين إن لم يكن منذ 240 صفحة. إذا أطلنا النظر في هذا الموقف نجد السبب جليًا، فهي تتوقف لتظهر امتداد الظل من الأب إلى الابن دون أن يكون لها دورٌ غير بروزه في فضاء بصري يتحقق في التكاثرُ والامتدادُ من الأصلِ إلى الفرع ، من الأبِ إلى الابن، وليس الابنة. بل إن الوهيبي تختم تعليقها على (ذريعة) الملا بقولها:

فمن البدهي، والشاعر يتحدث عن الأب في حضرة الموت، أن يحضر الأب وقد التبست صورتُه بصورة التضاعف المرآوية التي هي ظلٌ آخر وبموضوع الصيرورة والامتداد عبر الابن ، الذي هو صورةٌ أخرى للأب أو ظلٌ له (ص: 240)

    إذن، سببها في قطع موضوع الشعر والتحول إلى النثر هو هذا المشهد التأبيني الذي تسري فيه التركة أو الظل من الأب إلى الابن في حضرة الموت ، وعلى الابنة أن تستحضره وتضيئه، تمامًا كما اختفت الأم في حديقة دايونيسيس لتبرز صورة الأبناء والأب! لم تلفت الوهيبي إلى الدور الذي لعبته في وقفتها الابتدائية هذه ، بل مضت في إظهار صورة الأب وابنه. هل هذه مفاجأة أخرى؟

    دعونا نتذكر هنا أن نصَ الملا الذي ابتدأت بالوقوف مبتدئة به بعد البداية بـ240 صفحة هو نص تأبيني مهدى إلى أبيه، فهل هو الإهداء الوحيد الذي استوقف الباحثة أو الذي حفظ الذاكرة وحرسها ظلاً ؟  في تعليقها على رواية واسيني الأعرج (حارسة الظلال) تؤكد فاطمةُ قائلة: "لا غرو أن تُربط المرأةُ بعملية حراسة الذاكرة، مثلما تقوم الكتابةُ والابداع بوصفها ذاكرة أيضًا ، بمهمة الحراسة، حراسة الظل المعقودة صلته بالمرأة أصلا" (ص: 201). ثم تؤكد لنا أيضًا الارتباط بالموت والدمار والفقد المطلق والحداد:

حارسة الظلال سواء كانت أسطورة المرأة المذكورة في الرواية أم كانت نص الرواية الماثل المكتوب كلاهما محاولة حصار لتدارك الدمار والضياع مع توثيق لما يشبه الحداد والخراب والخسارة... قلما أمكن الحديث عن الذاكرة وحراستها دون ضم خيط الدمار ودمج لمعنى الرزء وما لا يمكن استرجاعه أبدًا. (ص: 203).

وهنا تحديدًا في مشهد الرزء والفقد المطلق تلتفت الوهيبي إلى إهداء واسيني الأعرج روايتَه حارسة الظلال إلى حبيبته "نجاة" واصفًا إياها "بالجرح الصامت." أما تعليق الوهيبي فيقول: "يمكننا أن نقرأ هذا الإهداء الذي يحمل، ربما مصادفة ، اسم الحبيبة نجاة رمزًا لما ينقذ ويبقى ، رمزًا لذاكرة تقاوم وتحرس وتتحول إلى جرح صامت!!" (ص: 204).

لكن الوهيبي تنسى أن الصمت من سمات الظلال، وأن واسيني يطلب باسمه العلم (واسيني) منها المواساة؛ أليس هو واسيني ؟  كيف لجرح صامت أن يواسي الأعرج ؟ إن بنية الإهداء نفسه تؤكد أن لا نجاة لنجاة، لأنها الظل الصامت ذلك الحرف الكتابي الذي يبقى ذكرى محفورة في صدر رواية عن حارسة الظلال! فهل قانون المصادفة يختلف عن قانون الظل؟ وهل جاء الإهداء "ربما مصادفة" كما تقول الوهيبي؟ إن كان كذلك، فإن تكرار المصادفة يلغي كونها كذلك، ولقد رأيناها أيضًا في نص الملا الذي استوجب صمت الشعر والابتداء بعد البداية. ولكي نعزز هذا القانون ، دعوني انقل لكم مصادفة أخرى تتبدى في كل إهداء أو هبة: الموت!

ألم يكتب (دريدا ) كتابًا  كاملا في هبة الموت[4]، تلك الهبة التي لا تخضع لاقتصاد التبادل أو العودة سواء كانت تبادل الهبات أم عودة الحياة ، خاصة بين حارسة الظلال، والذاكرة والشمس. وليس للابنة غير تأكيد حقها في التركة في تجسيدها الظل فحسب تحت قانون هبة الموت فقط . حارسة الظلال هي رواية واسيني الأعرج ، هكذا قالت الوهيبي التي هي نفسها أحق بهذا العنوان من الأعرج! فهي قد تقصت الظل وأشباحه وحفظته ذاكرة ناطقة . وقد تفاجأت الوهيبي بصدفة إهداء واسيني روايته إلى حبيبته نجاة التي تحرس الظل والذاكرة وتواسيه وهي جرح صامت، والوهيبي هنا أيضًا أحق ، فهي حتى في إهدائها الكتاب قد بزته، فجمعت، في آن، ما لا يجتمع ، حراسة الذاكرة والظل والشمس. فعلى صفحة الاهداء في صدر الكتاب تقول الوهيبي :"إلى أبي الذي ضحا ظلُه فتكورت شمسُه جمرة في الروح تحرس غيابه الطويل".

سيظن غير واحد أنني أخضعت الكتاب إلى قراءة انتخابيه، وقد يكون مصيبًا. لكنني أزعم أنني تتبعت الكتاب من البداية إلى النهاية حتى أعادني الكتاب نفسه إلى بدايته، إلى صفحة الاهداء تحديدًا. وهنا أجد أنني قد تتبعت مسار الظل وأشباحه الذين يأتون عائدين قبل أن يكونوا قد غادروا. فماذا وجدت في هذه العودة الأساسية ؟ إن ما وجدته في هذه العودة أمر جد بسيط ، وكان ينبغي أن أجده مباشرة : وجدت أن كتاب الظل هو ظل كثفته فاطمة الوهيبي ليبرز الأب في الصدارة ، وكأنها لا تريد للأب أن يزول ظله، فأسندته على كتاب الظل مثبتة أن للابنة أيضًا حقا في التركة.

 


[1] فاطمة عبدالله الوهيبي، الظل: أساطيرة وامتداداته المعرفية والابداعية (الرياض: الوهيبي،2008).

[2] Jacques Derrida, Specters of Marx: The State of the Debt, the Work of Mourning, & the New International, trans. Peggy Kamuf (New York and London: Routledge, 1994).

[3] Jacques Derrida, "The Heritage of the Pharmakon: Family Scene," in Dissemination, trans. Barbara Johnson (Chicago: the University of Chicago Press, 1982), p. 143.

[4] Jacques Derrida, The Gift of Death, trans. David Wills (Chicago: the University of Chicago Press, 1995).