خـــلاصة:
تنقسم هذه الدراسة إلى جزأين. في الجزء الأول النظري أربط بين الشعر والفلك والبروج والموسيقى والغناء، وأبدأ بإيضاح علاقة الأفلاك والبروج بالموسيقى، ومن ثم أربط الموسيقى بالشعر وبالتالي بالفلك والتنجيم. وفي هذا الفصل أسلط الضوء على العلاقة القوية بين الشعر والموسيقى، وأوضح ارتباط الشعر بالسحر والكهانة، حيث أثر الشعر المشابه لأثر الموسيقى المقارب لأثر التعزيم السحري وما يسميه العامة (الاستنـزال). وهذا الربط بين هذه الأطراف الموسيقى والبروج والشعر والسحر التي قد تبدو متباعدة هو ما هدف المدخل النظري إلى تحقيقه كتمهيد للجزء التطبيقي، الذي أتناول فيه عدداً من النصوص الشعرية في ضوء العلاقات المشار إليها حسبما تتجلى في القصائد بطريقتها الشعرية الخاصة.
دراسة بعنوان ( الشعر و البروج : قلق الهوية و معراج القصيدة ) نشرت في مجلة العلوم الإنسانية في جامعة البحرين في العدد 8 صيف 2004 م .
الشعر والموسيقى والغناء:
تبدو العلاقة بين الشعر والموسيقى علاقة سطحية كلما كان المراد من الموسيقى مجرد الوزن والإيقاع الشعري ولكن العلاقة تبدو أعمق كلما استبطنا التجارب الممتعة التي استمعنا فيها للإنشاد الشعري؛ حيث الصوت البشري يضيف متعة بموسيقاه، وتبدو العلاقة أوثق كلما أضيفت إلى موسيقى الشعر وموسيقى الصوت الموسيقى واللحن المنبعثان من آلة موسيقية مصاحبة.
وهذه العلاقة تتراءى في بعد غائر لا نتبين غوره، فثمة شيء سحيق بعيد يربط هذا الثالوث: إبداع الشعر وإبداع الصوت وإبداع اللحن والآلة. شيء ينسرب ويتراءى في وحدة تبدو ملحة وجلية حينما نتوقف عند المتصوفة الذين ربطوا حالات وجدهم وتوحدهم بالموسيقى أيضاً. وتبدو المسألة أكثر غوراً وتعقيداً كلما تذكرنا أن جانب الموسيقى في الشعر (الوزن والقافية والسجع أيضاً في النثر) عند العرب قديماً قد ارتبط بالكهانة والسحر والتعاويذ والرقى والتعزيم السحري، وارتبط بالتالي بالفلك والنجوم وأحياناً بقوى غيبية ما ورائية. فقد ارتبط الشعر والنثر منذ القديم عند العرب بضروب الإنشاد واللحن والغناء، وقديماً سمي الأعشى صناجة العرب، وكان الشعر يُغنى ومنه تنبه النابغة لما في شعره من إقواء. واستمرت هذه العلاقة بين الشعر والألحان والغناء قوية حتى عصرنا.
وقد تحدث أبو نصر الفارابي (ت 339هـ) في كتاب الموسيقى الكبير عن علاقة الأقاويل الشعرية بالألحان، وأكد أن الألحان مشتركة مع الأقاويل في التخييل وفي إثارة الانفعالات. ويرى أن الموسيقى وصناعة الشعر ما هما إلا جزءان من صناعة المنطق وأنهما لذلك يشتركان في أشياء كثيرة، وهذا يذكر بحلم سقراط الذي سأعود إليه لاحقاً. يقول الفارابي في أثناء حديثه عن المبادئ النظرية في صناعة الموسيقى: " وقد يتبين إذا أمعن في القول أنها تشارك أصحاب علم اللغة من أهل كل لسان وصناعة البلاغة وصناعة الشعر اللتين هما جزءان من صناعة المنطق في أشياء كثيرة، وقد تبين أنها جزء من علم التعاليم". (1)
وفي وسائل إخوان الصفا تدخل الموسيقى في القسم الرياضي وقد بحثوا في صناعتها وأصلها وفي "امتزاج الأصوات وتنافرها وفي أصول الألحان وقوانينها ولم يغفلوا عن ربطها بالأجسام الطبيعية، وأن يجعلوا لها صلة بنغمات الأفلاك متأثرين أقوال الفلاسفة اليونانيين والإسكندريين…"(2)
وإذا كانت العلاقة بين الشعر والموسيقى علاقة قديمة وواضحة فلنتأمل في الطرف الآخر في علاقة الموسيقى بالفلك والبروج لنصل إلى علاقة الشعر بالفلك والبروج.
الشعر والموسيقى والفلك والسحر:
في البحث عن أصول الموسيقى العربية يحيل بعض الدارسين إلى أصول وتقاليد سامية، ويشيرون إلى نصوص توراتية يشرحون بواسطتها أصول الإنشاد والموسيقى. وهذه النصوص – حسب الروايات – " تنتمي إلى أصل متناقل مشترك بين شعوب الشرق الأدنى. وتبدأ هذه الأساطير بأصول لفظة موسيقى ذاتها: اتصل موسى بالله في صحراء سيناء فجاء جبرائيل وقال له: اضرب الصخر بعصاك ففجر اثنتى عشرة بئر ماء أحدثت كل منها صوتاً عذباً مختلفاً وكانت أساس المقامات التقليدية الاثنى عشر. فأمر جبرائيل أن يُعطى الإسرائيليون ماءً قائلاً: "يا موسى اسق" وجمعت الكلمتان فنتج عنهما تسمية الفن الذي انزل الله: موسيقى" . (3)
وتقول التقاليد السامية أيضاً أن لكل من المقامات السبعة نبياً يُعرف به "وهكذا غنى آدم مقام الرست، وموسى مقام العشاق، ويوسف مقام العراق، ويونان مقام الحجازي، وغنى إسماعيل أخيراً مقام النوى. وانبثقت عن هذه المقامات الأساسية السبعة خمسةُ أخرى فارتفع المجموع إلى اثنى عشر مقاماً مماثلة لصور البروج الفلكية."(4)
ولافت للنظر فيما سلف البحث في أصل كلمة موسيقى وإعادتها في أصلها إلى موسى عليه السلام؛ فموسى-عليه السلام- ارتبطت معجزته بالسحر والعصا وهذا أمر مهم أود التنبيه إليه في سياق ارتباط الموسيقى بالفلك وارتباط الشعر بالموسيقى وبالتالي ارتباط الشعر بكل من السحر والفلك والبروج…، وفي تاريخ العرب وصراعهم مع النبيe حول القرآن ما يؤكد هذه العلاقة حيث اعتقادهم بأنه شاعر وكاهن وساحر. وقديماً ربط الرسولe بين أثر البيان وأثر السحر حيث قال:" إن من البيان لسحراً"، حيث يؤثر القول البليغ المبدع أثراً يشبه أثر التعزيم والسحر.
والخلط منذ القدم بين الشاعر والكاهن والساحر والعراف يعود إلى الاعتقاد بالارتباط بقوى غيبية ما ورائية. وقد تبنى عدد من الشعراء المحدثين صورة النبي والمخلص وتخلّلت رموز الكاهن والعراف نصوصاً غير قليلة من شعرنا الحديث.
ومع الساحر والكاهن والعراف تأتي منظومة النبوءات والأبراج والفلك، ومع تداخل صورة الشاعر بصورة هؤلاء تسلّلت إلى الشعر مفردات الأفلاك والبروج وتداخل السحر والفلك والموسيقى بالشعر.
وقد مر بنا قبل قليل استناد إخوان الصفا إلى موروث فلسفي يوناني في ربطهم للموسيقى بنظام الأبراج وبموسيقى كونية. ويبدو أن فيثاغورس مسؤول بالدرجة الأولى عن إشاعة فكرة الموسيقى الكونية، فقد عُرف عنه أنه منشئ العلم الموسيقي عند اليونان وأنه في محاولته الكشف عن أسرار الكون " أسس الاعتقاد الميتافيزيقي بأن الأعداد هي الحقائق الأصلية، ثم ازداد تلاميذه غلواً في التصوف، وأضافوا إلى ذلك أن الأعداد هي الماهيات الحقيقية التي تكون قوام الطبيعة كلها وتحكمها، ولما كان الإنسان جزءاً من الطبيعة فإنه تجسيد لمجموعة من الأعداد، وهو يرتبط عددياً بالطبيعة ارتباط الجزء بالكل. والذي يجعل الإنسان على ما هو عليه مكوناته العددية. أما في الطبيعة كما في الفنون التي يخلقها الإنسان للوفاء بحاجاته، فإن التناسب والتماثل والانسجام والتنافر ينشأ عن علاقات رياضية، وعلى ذلك فالموسيقى وحدة تتألف من علاقات عددية"(5).
وهكذا بدأ فيثاغورس ينشر بين تلاميذه فكرة أن الموسيقى البشرية ما هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي للأفلاك. أما الفيثاغوريون المتأخرون فقد "اعتقدوا أن السموات تنبعث عنها موسيقى بالفعل: فخلال حركة هذه الأجرام السماوية في السماء تؤدي السرعة التي تتحرك بها إلى بعث أصوات منسجمة كأنها مجموعة غنائية تنشد في السماء: وترتبط سلسلة الأصوات التي تصدرها هذه الأجرام السماوية بعضها ببعض كما ترتبط أنغام السلم الموسيقي أما السبب الذي لا نسمعها من أجله فهو أننا اعتدناها على الدوام" (6).
أما سقراط فقد أثر عنه في أخريات أيامه روايته لحلم طاف به مراراً وسجله تلميذه أفلاطون في محاورة فيدون حيث قال: "طالما أتاني الوحي في الأحلام خلال حياتي بأن أؤلف موسيقى. وكان نفس الحلم تارة بصورة وتارة بصورة أخرى، ولكنه دائماً يقول لي نفس الكلمات أو ما يماثلها: ارع الموسيقى والفها. وكنت أتصور حتى الآن كل ما هو مقصود بهذا هو حثي وتشجيعي على دراسة الفلسفة التي كانت هدف حياتي والتي هي أسمى أنواع الموسيقى وأفضلها". وهنا يعرب سقراط عن شكه في اعتقادٍ أصبح يتخذ مبدأ تعليمياً بين أتباع دامون، وهو أن دراسة الموسيقى لا ينبغي أن ينتفع منها إلا بوصفها مبحثاً رياضياً يعد المرء لدراسة أرفع هي الفلسفة. كذلك قال فريدرش نيتشه في كتابه (ميلاد المأساة من روح الموسيقى اليونانية). إن هذا الحلم ينطوي ضمناً على اعتراف هو أن سقراط قد أيقن، وهو يواجه شبح الموت، بأن للديالكتيك، والمنطق والعقل حدودها التي لا تتعداها في اكتساب المعرفة والسعي إلى تحقيق الحياة الطيبة، فللموسيقى قدرة تفوق قدرة العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية، إذ إن الموسيقى تتيح لنا الوصول إلى وحدة متوافقة مع الطبيعة"(7).
وقد أورد التوحيدي قولاً منسوباً لسقراط ، وعلق عليه تعليقات لافتة، يقول: "قيل لسُقراط فيما ترجمه أبو عثمان الدمشقي. لم طرب الإنسان على الغناء والضرب؟ فقال: لأنّ نفسه مشغولةٌ بتدبير الزمان من داخل ومن خارج، وبهذا الشغل هي محجوبة عن خاص مالها. فإذا سمعت الغناء انكشف عنها بعضُ ذلك الحجاب، فحنت إلى خاص مالها من المثالات الشريفة والسعادات الروحانية من بعد ذلك العالم، لأن ذلك وطنها بالحق.
فأما هذا العالم فإنها غريبة فيه، والإنسان تابع لنفسه، وليست النفس تابعة للإنسان، لأن الإنسان بالنفس إنسان، وليست النفس نفساً بالإنسان، فإذا طربت النفس – أعني حنّت ولحظت الروح الذي لها – تحركت وخفت فارتاحت واهتزت.
ولهذا يطرح الإنسان ثوبه عنه، وربما مـزّقه كأنه يريد أن ينسل من إهابه الذي لصق به، أو يُفلت من حصاره الذي حبُس فيه، ويهرول إلى حبيبه الذي قد تجلى له وبرز إليه، إلا أن هذا المعنى على هذا التنضيد إنّما هو للفلاسفة الذين لهم عناية بالنفس والإنسان وأحوالهما. وأمّا غيرهم فطربُهم شبيه بما يعتري الطير وغيرها"(8)
وإجمالاً فقد حاول الفيلسوف اليوناني إرجاع أصل الموسيقى إلى مصدر علوي، و رأى أن الإيقاع واللحن إنما هما محاكاة لحركات الأجرام السماوية التي تصدر عنها أثناء حركتها في السماء موسيقى إلهية حتى إن واحداً مثل ديمقريطس كان يرى "أن الشاعر الموسيقار يحمل قبساً من الروح الإلهية وكان…يؤمن مع الفيثاغوريين بأن الفنان يحتل موقعاً وسطاً بين الإلهة والإنسان وأن الرسالة الإلهية للفنان الملهم تحتم عليه أن يساعد الإنسان على بعث التوافق بين نفسه وبين النفس الكلية عن طريق إيقاع الموسيقى ورشاقتها… وكان سقراط يرى… أن من الممكن تشكيل المجتمع تبعاً لأنموذج في السماء ويعتقد بأن الموسيقى تستطيع ضبط أوتار النفس بحيث تنسجم مع نفس الأنموذج المتغلغل في سلوك الأجرام السماوية وفاعليتها." (9)
وهي نظرة في الإنسان والكون وتكوين المجتمع يمكننا أن نلمس آثارها عند ييتس في كتابه " رؤيا" وهو ما سأعود للإشارة إليه لاحقاً. ولكن قبل الحديث عن نص ييتس تجدر الإشارة إلى أن هذه الفكرة استمرت قوية حتى بعد بداية عصر الكشوف العلمية في أوربا في القرن السابع عشر، فقد ربط يوهان كبلر Kepler (1571-1630) بين الأنغام والمسافات الموسيقية وبين حركات الكواكب " بطريقة مشابهة للطريقة التي استخدمها أفلاطون في وصف نظرية انسجام الأفلاك الفيثاغورية، كما أحتفظ رينيه ديكارت Descartes (1596-1650) بالفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضية في أساسها وينبغي أن تستخدم مبحثاً يمهد لدراسة الفلسفة… وبالمثل وصف جوتفر فلهلم ليبنتس Leibniz (1646 – 1716) الموسيقى بأنها مظهر للإيقاع الكوني تتألف ماهيته الباطنة من عدد ونسبة." (10)
وفي القرن السابع عشر وضع المؤلف الموسيقي الألماني (بوكستهود) قطعة موسيقية حاول خلالها تصوير الصفات الشخصية للكواكب السبعة ثم تأثر بها من بعده (جوستاف هولت) فعمل على صياغة معزوفة أوركسترالية تحت مسمى موسيقى الكواكب السيارة.
وقد استخدمت بعض الشعوب الآسيوية أيضاً كالصين واليابان والهند تسَميات الكواكب والبروج وربطتها بالموسيقى والمقامات "فكوكب عطارد يرمز إلى لقب إمبراطور ويرادف الدرجة الأساسية في السلم الخماسي المستعمل في موسيقاهم التقليدية وهي درجة (دو) أما كوكب المشتري (Jupiter) فيمثل لقب وزير ويرادف درجة (ري) وكوكب زحل يرمز للشعب ويرادف درجة (مي) وكوكب الزهرة يرمز إلى شؤون الدولة ويرادف درجة (صول).."(11)
وفي الموسيقى العربية ثمة اصطلاح مأخوذ من الفلك والبروج، فالسنبلة تلك الكوكبة التي تقع في البرج السادس يستخدمها التراث الموسيقي للدلالة على "النغمة الثالثة الصغرى في المنطقة الحادة وهي التي تسمع من وسطى الوتر الخامس في العود على نسبة 27/32 من مطلقه.." (12)
ويبدو أن هذا الربط وصل إلى العرب عن طريق التقاليد الهندية والفارسية، حيث تقابل المقامات الاثنى عشر صور البروج الفلكية. ومن هذا ينشأ الاتصال مع العناصر، وكذلك مع الأرقام وحروف الأبجدية في تعبير رمزي صوفي(13). يقول عبد المؤمن البلخي: "اعلم أن مزاج مقام الرست النار وبرجه الحمل ووقته قينوس في دائرة يوم الجمعة الثالثة وإن مزاج مقام العشاق الماء وبرجه الجوزاء ووقته عطارد في دائرة يوم الأربعاء الثانية.." (14)
وفي التراث الصوفي ربط واضح للأرقام والحروف بالفلك، ولعل أشهر من فصّل الحديث في هذه المسائل هو ابن عربي؛ حيث جعل الحروف عالماً مخصوصاً وربطها بالفلك والأبراج. وقد كنت توقفت وقفة خاصة عند ذلك في دراسة سابقة(15).
والأساس الذي يصدر عنه ابن عربي في نظرته لمراتب الوجود وموازاتها بالحروف يعود إلى أنه يرى أن هذه المراتب والوجود إجمالاً إنما تتحقق من انبثاث النفس الرحماني وعن كلمة الله: كن.
وأود في هذا السياق أن أشير إلى نص يرتبط بعالم الخلق والروح والموسيقى مثلما يرتبط بالموسيقى الإلهية التي تحدثت النصوص السالفة عن انبثاثها في السموات والأفلاك. ففي أحد النصوص المتعلقة بخلق آدم في الموروثات السامية والتوراتية نقرأ ما يلي: " بعد أن صنع الله آدم من طين أراد أن يبث فيه الروح لتحركه، ولكن الروح رفضت لأنها سماوية وآدم مادي، فأمر الله بملاك فأدخله في التمثال وتغنى الملك في مقام العزال فطربت الروح ودخلت بدورها في الجسد فلما استقرت فيه خرج الملاك، فلما صمت الملاك حاولت الروح الخروج من الجسد ولكن آدم بدأ يغني من خلالها فطربت واستقرت نهائياً في الجسد." (16)
وسأرجئ التعليق على هذه الروح أو الموسيقى التي تسكن الجسد في موضع لاحق، ولكن سأختم بالحديث عن نص ييتس الذي قصدت تأخيره لمضارعته بمجمل النصوص السالفة، ولأهميته الخاصة في هذا السياق. لقد كان ييتس " على ارتباط مباشر بالأفكار التي كان يبحثها كل من ارنولد توينبي واوزولد سينجلر… ألا وهي محاولة رؤية نمط موحد جامع في التاريخ. أي أن تطور النفس البشرية وتطور التاريخ إنما جعل ليناظر مراحل القمر الثماني والعشرين (ونحن نجد هذا النظام ملخصاً بصورة مناسبة ولو كانت غامضة في قصيدة بهذا العنوان) وكان مما يتفق مع أسلوب ييتس وبالرغم من ادعائه وجود سلطة فوق طبيعية تسند نظامه، أن ينهي مقدمة القصيدة فيجعلها (رؤيا) وهو اسم القصيدة التي شرح فيها نظامه، يعترف فيها بأنه يعتبر الأدوار ترتيبات أسلوبية للتجربة يمكن مقارنتها بالمكعبات في رسوم ويندهام ليويس." (17)
ليس مجرد ربط تطور النفس والتاريخ وبالتالي المجتمع بمراحل القمر الثماني والعشرين هو أهم ما في نص ييتس السالف، ولكن أيضاً موازاة ييتس ذلك بأدوار نمو المبدع نفسه ونمو القصيدة وتشكلها الأسلوبي.
إن ربط الإبداع وخاصة الشعري منه بمراحل النمو القمري (الأهلة البدور والأفول والعود من جديد) أمر يتجاوز مجرد التشبيه والمجاز، ويضرب بجذوره إلى العلاقة القديمة سواء في الرؤية البدائية أو في الرؤية الصوفية والفلسفية إلى عالم الفلك وعالم الماوراء، ويتجاوز ذلك إلى التنظير كما يعكسه كتاب رؤيا Avision لييتس .
وأتذكر بإلحاح الآن وأنا أتحدث عن رؤيا ييتس عنواناً للفرنسي كلود سيمون وهو (الجوزاء العمياء) المنشور 1970 هذا العنوان الذي قال عنه مفسراً: " إن الكاتب صورة الجوزاء العمياء التي تتجمع خلال غابة من الإشارات وتتجه نحو ضوء الشمس الصاعد ومن المهم أن تلاحظ أن الجوزاء هي كتلة من النجوم وفي اللحظة التي تشرق فيها الشمس سوف تختفي" (18)
وسنرى استدعاءات رموز الأهلة والأبراج وأجوائها وظلالها في قصائد الشاعرين السعوديين الثبيتي والدميني..، وستتجلى بشكل واضح في قصيدة (هلالات)، لشاكر لعيبي العراقي تلك الرموز التي لا تشير فقط إلى مراحل التشكيل الشعري ونمو القصيدة كما في رؤية ييتس ، بل تتجاوز ذلك إلى أبعاد رمزية وإشكاليات وجودية بعضها يمس الهوية الحضارية وبعضها يمس المطلق!
ترى أهو قلق الأفول؟ أهي الشمس التي تكسف بالنجوم كما في بيان كلود سيمون؟ أهو الكاتب/الجوزاء التي تدور في العماء ومن نفسه تنبثق اللغة كما ينبثق عن النفس الرحماني الوجود كما في الرؤية الصوفية القائمة على الانسجام والوحدة، أو كما هو في الرؤية الفلسفة اليونانية للفنان، حيث يحتل مرتبة وسطى بين الإنسان والإله، ويساعد على بعث التوافق بين نفسه والوجود وبين النفس الكلية عن طريق إيقاع الموسيقى والإبداع الذي يحاكي حركات الأجرام السماوية والموسيقى الكونية الإلهية.؟
الهلال والكلام:
استضاءة بالأفكار السالفة يمكن الحديث عن جزء من النمو القمري (الهلال) كمدخل أساسي للتوقف عند هذه الرموز الفلكية في بعض النصوص الشعرية التي سأتناولها بالدارسة التطبيقية.
الهلال مرتبط باللغة والكلام؛ وليس هذا القول من باب المجاز أو التأويل، ففي مادته اللغوية المعجمية يمكننا أن نعثر على هذه العلاقة المشبعة بجو ديني طقوسي؛ فتحت مادة "هلّل" نقرأ ما يلي:
" هل المطر والهلال الدفعة منه.. والإهلال الميقات الذي يحرمون منه.. والإهلال بالحج رفع الصوت بالتلبية. و كل متكلم رفع صوته أو خفضه فقد أهل واستهل.. والإهلال التلبية…. والهلال غرة القمر حيث يُهلُّه الناس في غرة الشهر…قال أبو العباس : وسمي الهلال هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه… والتهليل قول لا إله إلا الله، قال الأزهري: ولا أراه مأخوذاً إلا من رفع قائله به صوته.. الهلل نسج العنكبوت.. وشعر هلهل: رقيق ومهلهل اسم شاعر…."(19)
والربط بين الهلال واللغة أبين في هذا الجذر اللغوي من أن يحتاج إلى مزيد تعليق، والذي أود التأكيد عليه هو هذا الجانب الطقوسي للتهليل واحتمال أنه احتفظ به في الشعر، وتم تحويله إلى نوع من الرقى والتعاويذ والتمتمات كما سنرى في نصوص مقبلة وخاصة في نص "هلالات" لشاكر لعيبي.
الهلال والموسيقى/ البُهم الليالي قبل الهلال:
من اللافت للنظر أيضاً أن المعاجم العربية تسمي الليالي الثلاث التي لا يطلع فيها القمر البُهم، وتضيف: وصوت بهيم لا ترجيع فيه(20). وهذا أمر لافت لعلاقة ما حول معنى البهيمة في مقابل الإنسان؛ حيث الصوت الذي لا ترجيع فيه صوت بهيم. فالترجيع سمة موسيقية لحنية تطريبية جمالية، والترجيع هو الترديد(21) والتكرار الذي يحول اللغة والصوت إلى نغم موقع، فكأنما في الموسقة والترجيع ظل إنسانية في مقابل البهيمية. إنك إذا ربطت ذلك بالمعنى الحسي للظلمة المرافقة ضمناً لمعنى البهم، وجدت في الإنسانية والموسيقى بعداً نورانياً خفياً يذكر بنص توراتي – سلف ذكره – حول قصة خلق آدم واستقرار الروح في الجسد المادي لآدم عليه السلام وعلاقة هذه الروح بعالم الموسيقى والموسيقى الكونية والإلهية المنبثة في السموات والأجرام.
إنه إذا ما ربطنا كون الموسيقى – كما عكست النصوص النظرية السالفة- تساعد على إيجاد التناغم وسط فوضى الكون الداخلي وما يبدو من فوضى في الكون الخارجي بالمعنى الحسي للظلمة وبما يوحي به من عماء وتخبط بمعنى الليالي البهم والبهيمية - وجدت في الإنسانية بعداً دلالياً يتحرك في فاعلية الكشف ونزع القشرة عما يبدو من فوضى وغموض وعدم انسجام وتشظٍ في العالم الصغير (الإنسان) والعالم الأكبر حسب التعبير الصوفي. وهل أشف من الموسيقى والشعرية لترهف وترهف بحثاً عن حالة التوحد والانسجام؟ سنرى ذلك واضحاً في نص للشاعر السعودي جاسم الصحيح، وسنرى كيف سيحشد فيه هذا الاشتباك المعقد.
مع الشاعر ومنذ القديم لم تعد النجوم والقمر والكواكب مجرد أسماء وأشياء تدخل عالم الخبرة والمعرفة المباشرة، ولم تعد النجوم مجرد وسيلة للاهتداء بها أثناء السفر والتجوال في ظلمات الصحاري بل تحولت مع الرؤية الشعرية إلى رموز ومجازات واصطبغت برؤى الشاعر. ولم يعد الافتتان بالقمر والنجوم مجرد بدعة رومنتيكية في الشعر الحديث، فقد صار للقمر والنجوم مع كونها ظواهر فلكية، ومع ما تحمله من حمولات حضارية ومعرفية من عرافة وقيافة – صار لها قدرة خصبة على الإيحاء للشاعر الحديث بحيث قام بتوسيع الصورة وتحويل المعتقد والعادة إلى أجواء مجازية، وتحولت معه إلى رموز أحالت ظلمة الصحراء إلى ظلمة مجازية لتيه أكبر وأخطر. لقد أمكن للشاعر أن يستقطر الرموز الميثيولوجية والدينية ويسكبها في مجرة شعرية كما سنرى في النصوص التالية.
المتصدع / قلق الأفول قلق الهوية:
" بكفي هاتين أرفع ظل الحمامة
بكفي البريئتين هاتين
أداعب هذا النابت في جبهة الظبي
هذا النحاسي المستلقي على خشب الباب
المتأرجح في غرة الصبي
المتصدع صدعتين اثنتين
المتمرغ في السحاب
المهاجر بقرنين بينهما فضاءان
النائم في استبرق الله" (22)
بهذا المقطع يبتدئ شاكر لعيبي قصيدته الطويلة جداً المعنونة بـ(هلالات)( ينظر نص القصيدة في آخر البحث) والتي تقوم معظم مقاطعها على استدناء هذا المتعالي بتعويذة الشعر، المتعالي البعيد الذي يحدثنا عنه الشاعر خطاب الغائب الحاضر مستخدماً في معظم المقاطع اسم الإشارة (هذا) أو (هذه) حينما يُلّعب صوره في دائرة التأنيث التي تعود بالهلال إلى الاستدارة والقمرية، وهو ما يفسر التأرجح بين الصدعتين، الفضاءين..الخ إنه التأرجح بين الثنائية أو الازدواج إجمالاً الذي يحيل إلى قلق ستوالي القصيدة في تناميها التنويع عليه.
إن القارئ لقصيدة (هلالات) يشعر بهذا الامتداد الطويل لتعاطفات متوالية مع الإشارة إلى هذا الهلال/القمر إلى أن يصل في مرحلة القصيدة إلى رسم الأبيات والكلمات في فضاء الورقة على شكل هلالين متقابلين يمكن أن يشكلا دائرة( ينظر نص القصيدة الملحقة في آخر الدراسة)،هكذا يرسم صدعين متقابلين هجس بهما في أول القصيدة !! .
وقد استخدم لرسم الهلالين ( أو الهلالات / الكلمات التي تشكل جسد الهلال) أسماء منازل الهلال، ووظف طوال النص كل ما يمكن أن يخطر ببال شاعر عن تشكلات نمو الهلال وتحوله، وما يمكن أن يوحي به من صور وتشبيهات، وما يسوق إليه من تداعيات ودلالات متنامية ومتداخلة ومتناقضة أيضاً، حيث الهلال رمز الهوية العربية الإسلامية(23). وحيث الهلال في الوجدان الديني ظل مصاحباً للتاريخ الديني ورمزاً للمطلق، وكلا المستويين في رمز الهلال ( الرمز الديني والرمز الحضاري للهوية العربية الإسلامية) يحيلان في النص إلى قلق لا يمكن إخفاؤه بهالات الضوء القمري المتداخلة والمغرية بحالات استرخاء، حيث الهلال مؤشر للقلق، قلق الاكتمال وقلق الاضمحلال والتحول والأفول، وفي الوقت نفسه هو رمز انبعاث وامتداد جديد؛ إنه جدلية سيرورة ديناميكية حية. واللافت للنظر أن هذا الرمز يمكن أن نمد إليه بعداً ثالثاً، إذا يسير رمز الهلال في نموه متوازياً مع نمو القصيدة أو نمو التجربة الشعرية ( ويلاحظ هنا حضور فكرة ييتس حضوراً قوياً ) (24) سواء على مستوى القصيدة ذاتها (هلالات) أو مستوى تطور تجربة الشاعر إجمالاً.
إن القصيدة بما تحمله من امتداد طويل طويل لتعاطفات أسماء الإشارة والنداء للبعيد، وبما تحمله من تعويض مسرفٍ في التكرار لصفات هذا المشار إليه وحالاته – تبدو بشكل ابتهالي يذكر باستحضار الأسماء الحسنى وتعدادها الطويل في الأدعية والابتهالات، وهذا ما يربطها بأحد مستويات رمز الهلال في إحالته إلى المطلق، هذا المطلق الذي يشير إليه الشاعر في أقصى حالات الوضوح في خاتمة القصيدة حيث يناديه بـ (أيل) وأييل تعني الله في السريانية:
" احرس أيها النور ليالينا
تساقط… تساقط
يا قمر الفواجع العجوز
يا قمر النعامات المسبلات رقابها في ضيائك
النائمات على بيضتك السرمدية
يا بيضة الكون
اجمح أيها الوعل جموح وعل يحد حوافره في حجارتك
اجمح جموح مهرة ضوئية
اجمح جمحة تطيح بهذا الأفق
يا أيل السرمدية".
والقصيدة بعد كل هذا التعداد المسرف في استعراض أسماء القمر والهلال وحالاتهما بعد هذا التعداد الابتهالي تنتهي بهذا الطلب: الإطاحة بالأفق تماماً مثلما يفعل أي متبتل يسرف في التقرب إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى وصفاته قبل أن يعلن حاجته بين يدي الله.
إن القصيدة التي تتحول إلى ما يشبه الجملة التي يتأجل ركنها الثاني، حيث ركنها الأول الذي تحتشد فيه الصور والمجازات وتتوالى فيه التعاطفات وترادف الأسماء والصفات للهلال والقمر تبدو كابتهال طويل أو رقية وتعويذة تنشد للهلال (بل سلسلة الهلالات التي توالدت عبر مرور الزمن) ليكتمل، وللقول ليقول، وللقول أن يفعل (الإطاحة بالأفق). ويبدو الهلال، رمز الحضارة الإسلامية ورمز الهوية أيضاً مشروع تصاعد وفعل تغيير أو محرضاً على التغيير كما أنه – كرمز مادي ومؤشر لحركة الزمن – يتوحد مع كونه رمزاً للهوية وبالتالي تأخذ الهوية المتصدعة (ينظر المقطع الأول خاصة) كل احتمالات الرمز الزمني وهو المشغل الوجودي القلق الذي ينتاب الشاعر فيصاعد تعويذته وطلسماته لـ (الهلال) لعله يكتمل ويخصب وينتج ما يدفع خطر الاضمحلال:
" بيدي القصيرتين هاتين أهبط إلى عليائه
سأداعب غرته
وأقلب طرته
سأقوده كما يقاد صبي غر
عازقاً الفضاء به
ممرغاً جبهته بالوحول
طار من فسحة ومرق
في الأنين
وانتهى أن يميل
راية للمغول
طار من عشه واحترق
في الهواء العليل
وهوى
في اصطفاق الفصول
بيدي هاتين أيها المأمول
أيها القيثارة التي سنعزف لها بغيرها
أيها الكوكب الدري المتقلب في دريته
أيها المنفي
أيها المتطلع بعين واحدة ، آه ، حزينة
إلى الأملاح التي تمنح الرغيف طعم البحر
إلى الصدوع التي تعلقها الحملان في البراري
إلى الأمم التي تهز عصيها بوجهك
يا هلالاً ناحلاً ينثر الأعياد كالحلوى
يا خيمة العربي
يا هلال بني هاشم
أيها المنقوش على حيطان بابل
المرفوف فوق قلاع الترك"
وتتواصل النداءات والابتهالات إلى هذا الناحل:
" أيها البدري
سأهز القرون
لتتساقط قرناً قرناً
على راحتي
سأهز الزمن
وامتطي قرنك الحرون
أيها المتطلع لبيك
بجسدي كله أتوجه إليك
لبيك لبيك يا حجر اليأس
إلى أن يقول :
" تساقط تساقط
في بقاع العماء لتخصب العيون
…………….
……………..
تساقط على الحديد
من أجل الرنين النفيري
تسقاط على المنافي
لكي تزهر وردة الأخوة.
……….
………..
واشهر تروسك تروسك المرفوعة دون ضجيج
أمام رباعيات السنة الأربعة
من أجل اكتمالك الذي لا يكتمل" .
هذا الاعوجاج الذي لا يُرجى شفاؤه والاكتمال الذي لا يكتمل، هذا الهلال الناحل المعوج مع كل الدلالات والتداعيات المحتشدة الممتزجة برمز الهلال / الهوية ورمز الهلال الديني يؤكد القلق المشار إليه؛ فالأهلة رمز لمرحلة شك وعبور، وقد عبر عنها القرآن كأزمة روحية وجودية ومعرفية للإنسان إزاء المطلق، وها هو الهلال سيبدو مجرد راية مرفوعة في بهو الله.
" تساقط تساقط
أيها الراية المرفوعة في بهو الله
يا منجل الساحر الذي سيحصد المألوف
ابذر الغرابة الخفاقة في نطفة الغرابة
واطلق الجنح العاثر والجانح المكسور
واصعق بمعدنك الساطع عين الحيوان الهارب في السهل"
هذا الحيوان الهارب في السهل هو ( العقرب المستوحد الداب في السهل) الذي كان الهلال منذ قليل ينظر إليه بعين واحدة حزينة، هذا الحيوان رمز المستعمر أو الآخر المستبد يدب في الأرض والعين طائشة طائرة في السماء تبحث في قلق روحي ووجودي عن بصمة الحقيقة وحقيقة الوجود على أرضها، لذلك تبدو القصيدة كأغنية وكتعويذة لهذا الناحل الشارد المشرد عن أرضه، تعويذة إلى الرمز العربي الحضاري/ الهلال المشرد في الفضاء كهلال ناحل، تعويذة لهذا المعوج ليشفى من اعوجاجه ومن مشروع اكتماله الذي لا يكتمل. وبذلك تتحول القصيدة إلى رقية وتعويذة تود – كما قال صاحبها في هامش ختامي – أن تلامس كلماتها وأشكالها "أشكال الطلسمات والرقى والتعاويذ العربية التي يحوم عملها أساساً حول الكتابات والتي تستمد من الكتابات أشكالاً وقدرة)(25) وبذلك تصبح القصيدة نفسها بتحولاتها وأشكالها صنواً للهلال في تقلباته وقلقة ومشروع اكتماله الذي لا يكتمل، والقول الذي يحلم بفاعلية القول في زمن – ربما – لم يعد للقول فيه أي تأثير يذكر !! فلا غرو أن تتجه فاعلية القول إلى حلم الرقى والتعاويذ وتدخل طوعاً – مثل القمر – في قدر الاضمحلال الجبري، وبذلك تقول القصيدة مقولتها اليائسة، أو تنقل فجيعة المثقف بإحساسه المتفاقم بأنه ليس السياسي فحسب الذي لم يفلح بشفاء اعوجاج هذا المعوج من كينونتنا الحضارية، ولكن المثقف أيضًا يقف قذفاً إلى الحلم!!.
ابتهالات الكاهن:
القصيدة الابتهالية السالفة المزجاة للأهلة لتلاحق الحيوان الداب في السهل وتطيح بالأفق، وتطلق الجانح المكسور تشبه في ابتهاليتها واعتمادها مفردات البروج والفلك والأهلة جملة مقاطع ونصوص للسعودي محمد الثبيتي نشرها قبل نص هلالات لشاكر لعيبي، نشرها في ديوانه ( التضاريس) وتبدو القصيدة الطويلة المعنونة بـ( تغريبة القوافل والمطر) كابتهال طويل موجه إلى كاهن الحي المرتبط بالفلك والنجوم والأقمار، والمرتبط أيضاً بالنبوءات وحلم التغيير وقراءة أسارير البلاد والغيب المخبأ والمستقبل المنتظر. التغريبة التي يبدأها بربط الفلك بالزمن وبالوطن والعرافة والكهانة والتراتيل:
" ادر مهجة الصبح
صب لنا وطناً في الكؤوس
يدير الرؤوس" (26)
إلى أن يقول:
" ألا قمراً يحمرّ في غرة الدجى
ويهمي على الصحراء غيثا وأنجما
…………..
…………..
ألا أيها المخبوء بين خيامنا
أدمت مطال الرمل حتى تورما
أدمت مطال الرمل فاصنع له يدا
ومدّ له في حانة الوقت موسماً
……….
أيا كاهن الحي
هل في كتابك من نبأ القوم إذ عطلوا
البيد واتبعوا نجمة الصبح
………..
……….
نظروا نظرة
فامتطي علس التيه ظعنهم
……….
يا نخل أدرك نبأ أول الليل
ها نحن في كبد التيه نقضي النوافل
ها نحن نكتب تحت الثرى
مطراً وقوافل
يا كاهن الحي
طال النوى
كلما هلّ نجم ثنينا رقاب المطي
لتقرأ يا كاهن الحي
فرتل علينا هزيعاً من الليل والوطن المنتظر"
علس التيه هذا الذي يؤرق الشاعر فيبدو – وهو مُطِلُّ على شقائه – وكأنه أول الرائين له ؛ يقول في قصيدته ( البشير) وكأنه النذير:
" أنا آخر الموت
أول طفل تسوّر قامته
فرأى فلك التيه
والزمن المتحجر فيه
رأى بلداً من ضباب
وصحراء طاعنة في السراب" (27)
ويصعب على قارئ ديوان ( التضاريس) أن يعثر على قصيدة ليست مشبعة بجو الابتهالات والتراتيل، وهو جو يستند في معجمه وتراكيبه على مفردات الفلك والبروج والكهنة والعرافين وجو الرقى والتعاويذ وما تولده من صور وتداعيات، يقول في قصيدة الأجنة:
" وعلى مسافات الردى بدو وحانات
وأرصفة تموج
وخيول ليل أمطرت شبقاً على البيداء
فأحمرت نبوءات البروج
………
………
يا نجمة قامت على أبوابنا بالأمس
هذا الدم الحولي ميثاق من الصلوات
معقود على الرايات
شمس تستظل بها سحابة
قمر ترابي تدثر بالشعائر وانتمى للجوع
واعتنق الكتابة" (28)
هذا الدم الحولي المغمور في حركة الزمن ليس سوى وجه من وجوه قلق الهوية في فلك التيه، وهو القلق نفسه الذي رأيناه في محاق أهلة شاكر لعيبي في هلالاته ، القمر الذي ينتمي للاضمحلال والجوع، لكنه لابد أن يتوهج في حلم الشاعر، ويحمر في الدجى، ألم يصح به الشاعر قبل قليل: ( ألا قمراً يحمرّ في غرة الدجى)؟ أليس هو الدم المنتظر الذي يناديه في أول قصيدة في الديوان تلك المعنونة بـ ( ترتيلة البدء)؟ إذ يقول في مقطعها الأخير:
" من شفاهي تقطر الشمس
وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد
هذه أولى القراءات وهذا
وجه ذي القرنين عاد
……….
……….
يا دماً يدخل أبراج الفتوحات
وصدراً ينبت الأقمار والخبز الخرافي
وشامات البياض" (29)
وألفت النظر إلى هذا الربط الواضح بين الفلك والبروج وبين جو الكهانة والعرافة والسحر وبين القراءة وفعل الشعر وجمالياته، حيث تتداخل الصور بقوة وتستدعي تذكير القارئ ليربط ما قلته في المقدمات الاستهلالية حول علاقة الهلال والأهلة باللغة والأثر التعزيمي للشعر وبين ما تضمره النصوص في تشكلاتها المجازية.
وفي هذا السياق أيضاً استحضر مقطعاً من قصيدة (المغني) التي تعد نصاً لافتاً في العلاقة بين الغناء والبروج، بين الشعر والسحر والتنبؤ والخلاص . يقول:
" ابتداءً من الشيب حتى هديل الأباريق
تسترسل اللغة الحجرية
بيضاء كالقار
نافرة كعروق الزجاجة
قال المعني:
يعاقرني كل يوم غياب القوافل
قلت يؤرقك الزمن المتقابل
……….
……….
وجهك منتجع للغات
ابتكر للطفولة شكلاً
كتاباً تطارحه الخوف
تقرأ فيه محاق الكواكب
تكتب فيه حروف الندم
ابتكر للطفولة عرساً تعلق فيه التمائم
واللعب الورقية…والأغنيات"(30)
والكاهن المرتبط دائماً بالرؤية والقراءة هو العراف الذي يتوحد به الشاعر الذي يمكنه أن يواصل القراءة ويبقي النار العجيبة مشتعلة. ويبدو الشاعر حينها كمجرة لا تكف عن الحركة والفوران وكمجرة تلتهب فيها النار العجيبة، ولست بحاجة للإشارة إلى الجو الأسطوري الذي يربط النار بالشاعر، يقول:
" جئت عرافاً لهذا الرمل
استقصي احتمالات السواد
جئت ابتاع أساطير
ووقتاً ورماد
بين عيني وبين السبت طقس ومدينة
خدر ينساب من ثدي السفينة
هذه أولى القراءات
وهذا ورق التين يبوح
قل هو الرعد يعري جسد الموت
ويستثني تضاريس الخصوبة
قل هي النار العجيبة
تستوي خلف المدار الحر تنيناً جميلاً
وبكاره " (31)
وفي قصيدة ( الفرس) المثقلة بالمعجم البروجي الفلكي تبدو الفرس وكأنها القصيدة التي تناصب صاحبها الغوايات، حيث يبدو تمرغ التجربة الشعرية في التجريب كتقلب الهلال يقول:
" ناجيتها:
صدئت لياليك القديمة فاحرقي خبث
النحاس
واشرعي زمن الصهيل
مذ أهدرتك موانئ البحر القديم
وأرمدت عينيك منزلة الهلال
………..
……….
………..
إن قام ماء البحر
يأتي وجهك النامي على شفق البلاد
يأتي طليقاً
موثقاً بالريح والريحان والصوت المدجج بالجياد
إن قام ماء البحر
صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاء
مهراً عيطموساً فاتحاً
من قمة الأعراف ممتد
إلى ذات العماد" (32)
جوزاء الذات:
هذه الجوزاء المرتبطة بالتجدد والخلق والإبداع في قصيدة الثبيتي تذكر بـ (ما نفست) كلود سيمون الذي أشرت إليه فيما سلف، ومثلها تبدو الجوزاء دائرة في هذا الفلك من الدلالات في ديوان محمد عبيد الحربي المعنون بـ(الجوزاء) ففي القصيدة المعنونة بعنوان الديوان نفسه يبدأ الحربي القصيدة بالمقطع الأول الذي يسميه (أفق) لتبزغ فيه نجمة منذ البداية، وتبدو النجمة (مثل فرس الثبيتي) متماهية مع القصيدة في الأفق الشعري . يقول:
" لي نجمة
تمنح زينتها لزمردة في الناس
وتزدان بهم
تجئ بهذا الوله الشجري
فصبي لي قهوتي
ومدي ذراعك النخلي لتتوسده قليلاً
أو لتلبسه وتمضي حاضنة وهج البلاد" (33)
إلى أن يقول في القسم الرابع من القصيدة مصعداً هذا التماهي في نفس صوفي :
" للكون علامات
تتابعها الروح
الجوزاء / دليلتي
والأرض/ عصفورتي وغديري"
إلى أن يقول في بداية المقطع الأخير:
" الجوزاء نافذة تسوق الغيم إلى قلبي
فلتدن عصفورتي من سدرة دمي
ولتوزع صوتها على بهجة أبناء الفجر على أضلاعي
أضلاعي مفاتيح فضية
أطوف بها على الأقفال
أحصد جمرة تنبثق منها لغة تلد جمرة شافية
أنا ابن الجمر الفجري
فلتخط الأرض نحوي
الجوزاء نجمتي وأول قولي."
تبدو هذه النجمة المشعة في الصبح التي تلد الشاعر من جمرها الفجري وكأنها نجمة الصبح أو كوكب الزهرة، التي ارتبطت منذ القديم بالجمال والغواية حيث أطلق العرب عليها اسم العزى، وكان لهم صنم يتعبدونه بهذا الاسم، وأطلق عليها الأغريق اسم أفروديت، أما الرومان فجعلوها آلهة للحرب والجمال وسموها فينوس.
بروج القصيدة:
ويبدو الاشتغال على الجو البروجي الفلكي أكثر وضوحاً وقصدّية عند علي الدميني، حيث تتوغل هذه المفردات وهذا الجو في بناء القصيدة. فقصيدة (البروج) يقسمها إلى عدة أقسام أو مقاطع تحمل هذه العناوين الفرعية: برج الغبار، وبرج السرطان، وبرج العذراء، وبرج الأطفال، ورقصة أولى، وبرج حواء، ورقصة تالية، ويختمها ببرج القوس، ويبني القصيدة متدرجاً من برج الغبار – كما سماه – لينتهي من الغبار – أو هكذا يأمل- في آخر أبراجه برج القوس حيث يقول خاتماً القصيدة بقوس أخير:
" عساي اجتبيك في أخرياتي ويا هل عسى
لنا أن نبادل هذا الغبار جريرته
: فرساً فرسا" . (34)
هذا الغبار الذي إحدى جرائره أن يعشي البصر، ولكنه منذر بالعواصف وله الهيمنة الاولى التي تجعل الشاعر يبدأ به أبراجه قائلاً:
" للغبار منازله
والبروج قبائلها
فإذا ما عشي بصري
لامستني أوائلها
ليلة في يدي حامل
وأنا لست فاعلها
هو لي إن أتى ولدًا
وهي إن انجبت فتنة فلها
ثلة من حقائب مترعة بالغبار
وانثى المدائن في خدرها تستريب النهار"
إنه من الطبيعي حينما يعشى البصر أن يعتمد الشاعر على يده، ولكن أيضاً في سياق الرموز الفلكية التي سبق أن أشرت إليها، والتي قلما جاءت إلا مرتبطة بالإبداع والخصب ومتماهية بالقصيدة والشعر الخلاق والشاعر الذي يقوم بدور العراف والكاهن والذي يرى ما لا يرى وينذر البشر -في سياق تلك الرموز يمكن أن ينظر إلى اليد كرمز القدرة والفاعلية والخلق والكتابة، ولأن اليد كذلك يعقب الشاعر برج الغبار ببرج السرطان، وهو برج مائي، علّه يغسل عشى العينين من الغبار والنهار الملتبس المريب، ويجلو الجهل في اليد الحامل بما تجهله ، فيتحول الجهل بما تجنّه اليد إلى معرفة مخبأة بالسلالات والأقداح الفائحة بالبروج، هذه الأقداح التي تحمل سائلها (مثل مائية برج السرطان ) إلى الحياة، حيث سر الكائن الحي يبدأ من الماء، بل سر الوجود أقيم بدءاً على الماء ومن الماء، يقول:
" تبت ألا أقاوم أغنية تستبيح الندى بظفائرها وتبيح
مطراً قلبه قمرة وسبايا
وأغصان ريح
شئت ألا أعلم طفلي أن الخليقة اثنان: امرأة و (رجل).
رجل و (امرأة )
وسلالات من قدح عبها الخلق فائحة بالبروج
فانت حدائق من أسورة
شئت ألا أحدث اثنين حتى أرى
مدناً في القرى
وتوابيت من فضة تستباح ولا تشترى
شئت ألا أرى ما يرى
في منام الشجي من المعصيات
وما بين ألفين من منكر
تبت ألا أقاوم عاشقتي أن تصيح
لا يصح وقد آذنتنا العواصف بالحرب إلا الصحيح" (35)
وذلك الذي أغضى في برجه الأول عن (أنثى المدائن في خدرها تستريب النهار) ها هو يتعامى عن المعاصي والمنكرات في برجه الثاني، وها هو يواصل في برج العذراء مآثمه، فعلى حين تتسع عباءة الموتى تأتي العاشقة/ المرأة/ القصيدة رمز حياة وبعث وتجدد مقاومة للغبار والهباء والموت؛ يقول جادلاً علاقة جميلة بين الشعر والموسيقى والبروج مُداخلاً بين مفرداتها ودلالاتها دون أن يغيب عن البال أن قرنفلة الصباح تحيل إلى نجمة الصبح، أو كوكب الزهرة (فينوس) آلهة الحرب والجمال، الحرب التي ختم بها قبل قليل برجه السابق:
" قالت قرنفلة الصباح لجارها: يا سيد الزمن النباتي
اعطني الحبل والعصا والدنان المحزمة
نصعد الأفق إن عصى نرتقي فيه سلمه
أنا يا سدرة الهوى ريح ناي مسوّمة
بعضها صار كوكباً بعضها صار أوسمة
اجترحني صبية واقترفني كمأثمه
وسع الزمان عباءة الموتى وما اتسخت ( عباتي)
أرفو جدائلها على رسن الخيول والتقي فيها ( النواتي)
تلقى البلاد تمائم الأعياد في حجري فارضعها
واطلقها
وأرفض في ولادتها مماتي"
وفي البرج الثالث في القسم الثالث من القصيدة يواصل التعامي والرفض ومع أنه يبدأ برجه الرابع (برج الأطفال) بالصمت المعلق في قوس المدينة إلا أنه يقول مشيراً إلى نذير الحرب:
ماء يطل
وامرأة لا تهل
وأطفال في سرر النوم بين الكراريس والحبر
ينتظرون شحوب الخميس ووجه الخبر
أنا والغبار اقتتلنا على الموج
أرخي ليمضي
وأمضي ليغضي
ولكنه فوق فاكهتي يستقر" (36)
هذا النذير الذي قد يرن في شحوب الخميس، هذا الغبار الذي يستقر على فاكهة الشاعر فيستفز صبره ومهادنته فيجعله يعلن أولى الرقصات التي هي أشبه برقصات الحرب أو دقات طبول الحرب. ويبدأ تلك الرقصات بمقطع يسميه ( رقصة أولى) (37) ويعقبه (ببرج حواء) التي يعرف – وإن بدا متسائلاً أنه لن يصطفيها إلا مجلّللة بالبيادق(38) . أما في ( الرقصة التالية) فيخاطب سهيلاً، حيث تشرح لنا هذه الرقصة قصة الدم في (الرقصة الأولى)؛ فيبدو أن الدم الذي شربه وريد الوطن لم يكن سوى دم القصيدة الفوار من فم الشعر الذي هو حربه الممكنة، لذلك يهنئ نفسه هذه المرة قائلاً:
" يا سهيل اليمني
أنت قد عللتني
بارتشاف الوسن
والرغيف الممكن
فانهل الآن فماً
ناضجاً من وطني
يا هنيا لك ( هني)
يا هنيا لي ( هني) " (39)
وما دامت رقصات الحرب قد آذنت بها فمن الطبيعي أن يجهز الشاعر لهذه الحرب قوسه ويريش سهمه، لذا يأتي آخر قسم من القصيدة معنوناً بـ ( القوس) مطلقاً سهم الكلام متخذاً إيقاعاً مغايراً لإيقاع الرقصات السابق السريع الخفيف(40)، يقول:
" أعد المخافر في ساعديك واستقطر الصمت أن ينبت
أعد الولائم للضاعنين وارفع من صهوة الريح: ما، ومتى
تضج القوارير في الروح من فرط هيبتها
ويعوم المسا
عساي اجتبيتك في آخر العمر قوساً نبياً
وصافنة مثل أنثى
تدق المحار بعسجدها
فتسيل البيوت بهودجها ويصم الغناء الأسى
عساي اجتنبتك في آخرياتي ويا هل عسى
لنا أن نبادل هذا الغبار جريرته
فرساً فرسا " (41)
ها هو ذا سهم الكلام يطلق أحلامه وأمانيه، ويبدو الشاعر مصطفياً قوساً يرتل وحيه وصافنه تذكر بصافنات النبي سليمان مما يجعل الغبار أو (برج الغبار) الذي بدا من أول القصيدة شيئاً كالنوم والموت، الذي ظل الشاعر طوال أبراجه السالفة يحاول تفاديه ومبادلة أساه بالشعر والغناء حتى لا يأكل الدود منسأته، لذلك ما إن تكتمل القصيدة التي بدأت بمنازل (برج الغبار) حتى تأخذ الأبراج ( الأفراس ) تجلو الأفق مما يعشي الرؤية والرؤيا، وتبدو الأبراج/ الأفراس كمنازل تشكلُّ الرؤيا الشعرية التي يدور الشاعر في مجرتها متكئاً من خلال رموزه الفلكية على تيمة بعث وولادة، استندت في تنويعاتها على تأنيث معظم الرموز ممثلة في الأرض/ حواء/ العذراء/ الفرس/ القوس، وأخيراً الليلة/ القصيدة التي تنجب فتنتها، القصيدة تلك الليلة الحامل التي حاول أن يتبرأ في أول الحمل من إثمها، ولكنه بعد أن حملت أقسامها الثمانية، وعلى خاتمة شهرها الثامن لا يخفي أبداً أمانيه بأن تلدها قصيدة خصبة.
الاتحاد بالنغم وصعود السلم:
ينجح الشعر في تكثيفه لرموز الأفلاك والبروج ممزوجة بستارتها الخلفية التي يتوارى دائماً وراءها الكاهن أو العراف بقدرته على الاختراق والرؤية، ذلك الذي يتماهى به غالباً الشاعر معتّداً بألفه وبعطائه وبأمله أن يبتكر القصيدة التي تسحر كما يسحر الكاهن، وتؤثر، وتخترق، وتتجاوز، وتعيد تشكيل الكون باحثة عن التناغم والوحدة، وربما أحياناً عبر التشظي والبدد. وتعدّ قصيدة جاسم الصحيح ( رقصة عرفانية) والتي يحمل الديوان اسمها نموذجاً لهذه الشبكة المعقدة من التداخلات، وكأنما الشاعر بحديثه عن كونه الداخلي (العالم الاصغر حسب الإرث الصوفي) يشرح رقصة الروح وسعيها للالتحاق بالسلم النغمي الكوني. وهذا ما يعلل لنا لماذا يفتتح الشاعر القصيدة بتفتيشه بريد الروح وما تستقبله هذه الروح من إشارات. يقول:
" حين فتشنا بريد الروح في أعماقنا الأولى
وجدنا دعوة من عاشق جاءت بلا عنوان
وادعينا حينها أن الهوى عنوان
فانطلقنا خارج الأجساد
في غيبوبة ممتدة السلطان"(42)
لذلك سيغدو الهدهد رمزاً لبريد يُجرَح ويشوه، ويحيل المصير بالتالي إلى اختلال ما، يقول:
" كم جرحنا هدهداً بالشك
حين اختلت النجوى وشيبت خمرة العرفان" (43)
وسيواصل على مدى صفحات شرح مدى هذا الاختلال وأساه، إلى أن يقول:
" لم أزل أركض في منعرجات الناي
صوتاً حافياً عريان
هارباً بالقلب من فلسفة المغزى
ألبي فطرة الرعيان
أسأل الآفاق عما خلفها من سرّي الفتّان
عد لأعماقك يا هارب
فتش قيعة الذات
وإياك وأن تبحث عن معناك في السطح
فمفتاح المعاني مودع في أسفل القيعان
أيها الهارب.. واطفئ ضوء عينيك
لكي تبصر ما يعصى على الضوء وما تعنوله العينان
وانفرط من قيد اذنيك
فقد غنى لك الغيب وعقت سمعك الأذنان" (44)
ويعجز الشاعر وسط هذا الالتباس والاختلاط عن التقاط النغم العلوي وموسيقى الإشارات الكونية؛ ولذا تبدو النجمة دليلاً ساطعاً وسط التيه، رمزاً لقطب يجذب ويهدي:
"جذبتني نجمة الأوراد من قلبي
فما أنفك بالنشوة فيها مغرماً
زلتي أني أدعيت البعد
عمن خطوة واحدة تكفي لأن تسكبني فيه
تحررت من الأرض وجاوزت إليه الأنجما…"(45)
ويبدأ الشاعر رحلة التيه والسفر للالتحاق بالوحدة الكبرى للأشياء وللوجود. يقول:
" غبت في كينونة الأشياء
حتى لم يعد يبصرني الكون
فما أجملني الآن
دخلت الوحدة الكبرى
وعانقت الجمال الأعظما
كل شيء صار مثلي
في حساب العشق صفراً
وتجمعنا فكنا واحداً
ما أعجب العشق!!
حساب يعدم الأرقام بالشوق ويحصى العدما
وتجلى الكون حولي
حفلة علوية البوح
أقامت للأغاني موسما
الأغاني تملاً الكل
وهذا دفتها القدسي يجتاح دمائي
وهجا مسنجما
كل شيء في المدى
قيثارة دوزنها الغيب
فما تبعث لحناً لم تدندنه السما
وأنا القيثارة الكبرى
أنا عزافها الأكبر…"(46)
ولست أريد أن أتوقف عند النفس الصوفي الواضح فهذا بين في النص، ولكني أريد أن أتوقف تحديداً عند جانب الصوفية المرتبط بالسماع والرقص، حيث يتم تحويل الرقص والعزف الجسدي إلى لغة شعرية تقرر مصير الروح والجسد في لعبة الذات والكون المخضبة دوماً بالصراع والفوضى والقلق والنشاز. يقول بعد أن يقرر أنه دخل الحفلة العلوية والتحم بالسُلّم الموسيقي للكون، وهو ما يتوافق بشكل واضح مع مقولة الموسيقى الكونية:
" أنا عزافها الأكبر
يا للبؤس
لم أفهم طقوس العزف
حين ارتجت الأوتار في كفّي بالفوضى
وراحت تتشظى سأماً
أنا شوشت خطوط النغم الكوني
ما أعوجني كفأ وأغواني فما
هكذا أسلمني الكون لموسيقاه
فاستسلمت للأنغام
واشتاقت إلى رقصتها روحي
فهل تتسع الأجساد للرقص
وما الرقص سوى الإيمان باللحن
إذا اجتاح الدّما" (47)
لقد حول الصوفيون نشوة الرقص ونشوة الجنس لا إلى معبر للتجلي فحسب بل للاتحاد، وكل ذلك يمزجه الشاعر عبر مجاز رهيف يحول نشوة الجسد إلى رقص يوحد الروح والجسد، ويؤهل الاثنين معاً في لحظة الاستماع إلى اللحن إذا اجتاح الدماء إلى صعود السلم الموسيقي الكوني لفض حجب الغيب، يقول:
" تأبطت فتاة الشدو ما بين ذراعي
وأومأت إلى الروح
ارقصي …ارقصي
فالكافر الكافر من لا يحسن الرقص
إذا غنى له الكون
ولا يعبد فيه النغما
أجوف كل يقين
يملأ الروح ويعيا أن يهز الأعظما
ارقصي بي نقترب أكثر من سقف السماوات
فما الخصران إلا سلم المعراج للأعلى
متى اهتزا فضضنا حجب الغيب قليلا
وصعدنا السلما"(48).
الهوامش
شاكـــر لعيبي
هـلالات
بكفي هاتين أرفع ظل الحمامة
بكفي البريئتين هاتين
أداعب هذا النابت في جبهة الظبي
هذا النحاسي المستلقي على خشب الباب
المتأرجح في غرة الصبي
المتصدع صدعتين اثنين
المتمرغ في السحاب
المهاجر بقرنين بينهما فضاءان
النائم في استبرق الله
على ركبتي أهدهده
هذا المنحوت من صخرة حبشية
بيدي هاتين أمسد خصلته
أدور فصه في أصبعي كخاتم
هذا الغريب الباسط كفه منذ الأزل
هذه الحدوة المعلقة في الحديقة
هذا الغصين المنحني على الصليب
هذه الخرزة الزرقاء النواسة على الحائط
هذا اليتيم في أفق الأحجار الكريمة
هذه الثمرة ذات الفلقتين
هذا العاري في احتفال الكواكب
نواة التمر الشقراء المفطورة
سبط الحجر
نون القيامة
كعب الغزال
القيدوم الذي يشق موج العلامة
اللسان الذي يلحس العدم
القوس الناشب أظفاره في العتمة
الشراع المسافر في الرماد
حافر الأبد في صحراء العزلات
هذا لمحراث الذي يعزق المجرة
هذه الإسوارة المرصعة بالنظرات
هذا الخزف الملثوم
هذه الوردة العارية الكتفين بيد الملاك
هذه البذرة النشوانة في الفضاء
هذه اللفتة الأخوية التي تتأبد
ذنب الكلب وعينه في آن
هذه الإشارة الفضية في معراج الدخان
عسل المشاهد المسائية
جذيلة الصبية التي قوستها الرياح
طوق الحمامة في قدم الزمان
عصا راعي النجوم
الأنشودة المخرومة الوسط
هذا الحاجب الذي لا يغمز لأحد
هذا الحرف الترابي في أبجدية الشعوب
هذه المظلة التي لا تقي
قضيب البان المنحني على الأنين الخافت
الفراشة الخافقة بعينيها البنفسجيتين
عود البخور في احتفالات الأزلي
هذا الرغيف المأكولة أرباعه الثلاثة
هذا الخليج المالح في الأفق الحلو
تلويحة الكف المتعبة
ميناء ساعة السرمدي
هذه الستارة المسدولة على الصباح
مخدة الإله
هذا الغياب المستدير في الحضور المربع
هذا الحجر الطافي في الطلسم
علامة الاستفهام المبلولة بالغيوم
هذه الانحناءة الأمومية على الفصول
هذه الصرخة المؤبدة التي تطل
قطرة الندى الموشكة على السقوط في قلب الكائن
القطرة التي تصل الأبد بالأبد
صدى خفقة القبرة المختفية في غابة الليل
هذه الورقة التي سقطت من كوكب آخر
هذا الصدر العاري لسيدة القطب
خاصرة النبي
حلمة القديسة
هذه الشوكة الثنائية التي لا تؤذي المساء
هذه الياقة التي تكشف عن رقبة المطلق
هذه القلادة التي يعلقها الجني في جيده
هذه القبعة التي ترتديها الأشجار
هذا الفم الطفولي المندى بالضياء
هذه المقصورة الطالعة في العدم
هذا الدبوس الذي يخيط الهواء
هذه الكوة التي تطلع منها شمس الغامض
إكرة باب الشيطان
هذا الفرجال الذي يقيس الأبدية
دائرة السحرة التي سيكملها الرمل
هذا المنديل الذي لبسته العذراء
هذا القمر الذي أكلته الرعود
هذا الخلخال النوراني
هذه الضفيرة المحلولة بماء رمادي
هذا الوتر المشدود في الأغنية البيضاء
هذا القرص المرمي في ساحة الأرباب
هذا الساحل الصخري الذي يستقبل الوداعات
هذا الأخدود الملكي الذي لا يسبر غوره
هذا السنام الذي تمتطيه الذكرى
هذا الطل البالي الذي سيسقط
هذه الجهشة التي أطلقها النور
هذا الفرع الذي لا يزهر
هذه الحافة التي تقود إلى الحافة
هذا الوتد المغروس في وادي الظلمات
هذا الحافر الذي يخبّ في الماضي
هذه الصارية التي تمخر التاريخ
هذا الجندول الطافي دون خدم
خوذة المحارب المتروكة في مشهد بدء الخليقة
هذا السرج الذي هرب جواده
هذه الفاختة المغنية، النواحة.. النواحة في أيكة الليالي
هذا التاج المفصص بالنجوم
هذه المدية التي تنتهب دم الهواء
هذه الشبكة التي تصطاد الأحلام
هذه الخشبة الجافة التي ستلتهب
هذا البرج الفضائي الذي يقود العصافير
هذه السمكة المتطلعة إلى ذنبها
هذا لسوط الذي يسوط النهارات
هذه العروة الوثقى التي يتضرع إليها الأحياء
عروة السماور الذي يغلي بالشهوات
عروة الجرة الشرقية
بيدي هاتين أمسد شقرته
أقوده من قرنيه الوعلين إلى حظيرة اكتماله
بأناملي هاته أعلقه في مكانه كقرط
بأناملي أجسه كما يجس المريض
أزيل الغبار عنه
وأدله هلاليته
وأناجي فضائيته
وألم بقايا زرقته
هذا الحصن الآيل للسقوط
هذا السماط المفروش في مائدة الآلام الكونية
هذا الشيخ المتقوس على ندمه
هذه القبلة الطالعة من فم الكينونة
هذا النول الذي ينسج عليه الغرباء
هذه الفارزة الوحيدة في كتابة المجهول
هذا الغل الذي تقاس به السنة
هذا المقود الذي يقود اللا أحد
هذه الغلطة العرجاء في منعطفات اليقين
هذا الكسول المتجول في منازله:
البطين |
الرشا |
الثريا |
فرع المؤخر |
الدبران |
فرع المقدم |
الهقعة |
الأخبية |
الهنعة |
سعد السعود |
الذراع |
سعد بلع |
النثرة |
الذابح |
الطرفة |
البلدة |
الجهة |
النعايم |
الزبرة |
الشولة |
الصرفة |
القلب |
العواء |
الإكليل |
السماك |
الزبانيا |
بيدي القصيرتين هاتين أهبط إلى عليائه
سأداعب غرته
وأقلب طرته
سأقوده كما يقاد صبي غر
عازقاً الفضاء به
ممرغاً جبهته بالوحول
طار من فسحة ومرق
في الأنين
وانتهى أن يميل
راية للمغول
طار من عشه واحترق
في الهواء العليل
وهوى
في اصطفاق الفصول
بيدي هاتين أيها المأمول
أيها القيثارة التي سنعزف لها بغيرها
أيها الكوكب الدري المتقلب في دريته
أيها المنفي
أيها المتطلع بعين واحدة، آه ، حزينة
إلى العقرب المستوحد الداب في السهل
إلى الأملاح التي تمنح الرغيف طعم البحر
إلى الصدوع التي تلعقها الحملان في البراري
إلى الأمم التي تهز عصيها بوجهك
يا هلالا ناحلا ينثر الأعياد كالحلوى
يا خيمة العربي
يا هلال بني هاشم
أيها المنقوش على حيطان بابل
المرفوف فوق قلاع الترك
أيها البدوي سأهز القرون
لتتساقط قرناً قرناً
على راحتي
سأهزُّ الزمن
وأمتطي قرنك الحرون
أيها المتطلع لبيك
بجسدي كله أتوجه إليك
لبيك لبيك يا حجر اليأس
أيها الاعوجاج التي لا يرجى شفاؤه
إننا الواقفون تحت شرفتك الامبراطورية
بانتظار أن تحيينا
إننا الماشون في ضيائك العبقري
عسى أن نصل
إننا المحتفلون تحت غصنيك
عسى أن يميدا بنا
المعشيّون بضوء فتيلك
عساه يشعل الجوانح
المتلفعون بعباءتك
رجاء أن نباغت البهجات
تساقط .. تساقط
في بقاع العماء لتخصب العيون
تساقط في المبازل من أجل بهجة الملوحة
تساقط .. على البوار
من أجل فرح العاقول
تساقط على الحديد
من أجل الرنين النفيري
تساقط على المنافي
لكي تزهر وردة الأخوة
تساقط في حديقة الموت لكي لا يقلد أحد أحداً
في الأرياف التي تخفق في الرياح لتظل تخفق في الرياح
في البساتين المخضبة بالطين لكي تخضب المدن
تساقط .. تساقط
أيها النشاب
إرم بسهامك الفضية في فروة الشتاء
إغمد نبالك المريشة في جلدة الصيف
واشهر تروسك، تروسك المرفوعة دون ضجيج
أمام رباعيات السنة الأربع
من أجل اكتمالك الذي لا يكتمل
تساقط .. تساقط
حتى آخر حجر مؤتلق سيمجد العصاة في الجبل
والآبقين في السهول
سيفجر آخرة الدموع وأول الشموس
سيخصّب الشجرة ويخترع المداحين اللاهجين ببهائك
سيرفع الظل إلى مجد النور
تساقط .. تساقط
إليها الراية المرفوعة في بهو الله
يا منجل الساحر الذي سيحصد المألوف
إبذر الغرابة الخفاقة في نطفة الغرابة
واطلق الجنح العاثر والجانح المكسور
واصعق بمعدنك الساطع عين الحيوان الهارب في السهل
وابذر بذرة الفحل في الحقل
وابذر الأصل في يبوسة الروح
تساقط .. تساقط
يا عمومة النار
ويا عمود النور
إنشر شجرة نسبك في حيطاننا المبقعة بالرطوبة
تسلق بأغصانها دوالي قلوبنا التي تتسلق أجسادنا
أنت يا عموداً مقدوداً من الجمر ، أنت يا مطلاًّ علينا
من الهاوية قدنا إلى الأبد
احرس بجسدك المطحون في رحى المقدس
أسرة العاشقات الخائفات
إحرس شبابيك الأمهات اللواتي ينتظرن مواسم الريحان
إبق، بأيديك المعصومة ، ساكناً أمام الأضرحة
في الشواطئ مؤتلقاً في ذرى الأمواج
احط شفاه موتانا ببريقك
احرس ، أيها النور، ليالينا
تساقط .. تساقط
يا قمر الفواجع العجوز
يا قمر النعامات المسبلات رقابها في ضيائك
النائمات على بيضتك السرمدية
يا بيضة الكون
اجمح، أيها الوعل، جموح وعل يحد حوافره في حجارتك
اجمح جموح مهرة ضوئية
اجمح جمحة تطيح بهذا الأفق
يا أيل السرمدية
شاكر لعيبي
( جنيف ، 1-8-1989)