الصفحة الرئيسية
 /  
رمان يضيء 2
 /  
رجوع

رمان يضيء 2


      في آخر المقالة السابقة أشرت الى قصيدة (رمانة ليل) التي يتداخل فيها صوتان : صوت الطفل المندس في الظلمة / قاع الذات البعيدة ، والرجل البالغ الذي يعرض على الطفل رمانة تضيء ما إن تلمسها الأصابع!!  ويبدو أن الشاعر يخبئ كنزًا من الرمان العجيب الذي لايصدق الطفل معجزته , فيقطف له واحدة لا يحسن التعامل معها  حيث يخيب ظن الشاعر فيأخذها من يد الطفل وهو ما يزال يملك إيمانه بأنها سوف تضئ ، وراح يقص تاجها مخبئًا إياه لوقت في نية الانتظار لكن الطفل يباغته بالسؤال : ماذا تنتظر ؟ وهو السؤال الذي يباغت الشاعر ويضيء على هوة وجودية درامية يبقى الكائن فيها معلقًا !!


          هذا الحوار الشرس بين الشاعر وما كانه أو بين الشاعر والطفل فيه لايقوم على الفكرة الرومنتيكة السائدة : خيرية الطفل وبراءته ، ولكنها تصف ببساطة واقعية الطفل وحسيته من جهة وشغفه ودهشته من جهة أخرى , حتى إننا نرى الصورة بالمقلوب ، الشاعر/ الرجل البالغ يحاول غرس الدهشة والإيمان بماهو غرائبي عبر مجاز( رمانة تضئ)  والتبرك بالتيجان التي يحتفظ بها كتعويذة تستجلب ما لا يجيء وتأتي بما ينتظر . لكن السؤال : ماذا تنتظر ؟ مباغت ومؤلم ببرودته الواقعية .

         ما الذي ينتظره الشاعر من تحفيز الطفل وإثارته بالحلم وبالغرائبي . الرمانة حسب الطفل هي موضوع للأكل ، لكنها من وجهة نظر الشاعر موضوع للخيال وللحلم ، لذا ينقذ ما يمكن إنقاذه منها من بين يدي الطفل ويستبقي تاجها . قصارى الشاعر أنه يحلم وأنه يحتفظ بحق المحاولة وبشرف محاولة الإبقاء على رمانة تشتعل وتضيئ ويتألق تاجها المخبوء . قصارى الشاعر أن يتحاشى الاستهلاكي المميت , أو قنوات الماء الجافة كما يقول في المشهد التالي من حواره مع الطفل :

"رائحة العشب الجائع تستبقيني .

أدرت محرك السيارة ، ببطء إلى

الخلف ، حاذرت قنوات الماء الجافة

عندما استوت السيارة على الأسفلت

أخذت أسوي ما تناثر مني وأحكم يدي

على عنق السيارة .

تلمست وجهي ، منتفخًا بما يكفي

تلفت ، لم يكن أحد بجانبي

ابتهلت ودخلت في الظلمة . "(1)

 

وآخر هذا النص يعيدنا إلى أوله المفتتح بطفل يقبع في الظلمة . هذه الاستدارة مرة أخرى لرؤية الطفل القصي ، والطفل الجائع ، والشاعر الذي يلمهما معًا وهو يتفقد نفسه, ويلم ما تناثر منه وقد راح يتفقد ما حوله ولم يجد بجواره أحد !!

         هذا النص الذي يتحول إلى موضوعه : جهاد الشعر وجهد التجريب يمثل وجهًا من وجوه الأزمة الوجودية والشعرية لشاعر يجابه التحولات ومآزق الطريق . وأحسب أن السفر في ديوانه (يفتح النافذة ويرحل ) أراد أن يوحي بفكرة تحرير التاج المخبوء وإطلاقه في الطريق . وقد عنون فعلاً واحدة من قصائد الديوان بعنوان (الطريق) وافتتحها باستشهاد من نص لصلاح فائق يقول فيه :

          "هذه الليلة

عاد جلجامش

حاملاً نبتة الخلود

قبل أن يدفع الباب

رمى النبتة إلى الطريق

ودخل  ".

 

      هكذا إذًا ندخل في المفارقة الوجودية والشعرية معًا ، ليس المهم نبتة الخلود وإنما متع الطريق إليها وأخطار الرحلة, أما مكاسبها ففي معاني الرحلة ذاتها لا في نتيجتها . مايفتح النافذة ويرحل هنا هو عصفور طليق ، أو رمانة قُص تاجها ، أو تاج مغادر بأحلامه كل ذلك لا يهم ، ما يهّم أن يتعلم الطفل ( لا الطفل في المدرسة فحسب ، وإنما الطفل القار فينا ، الطفل الباقي فيما يتناثر من الكائن) المهم أن يتعلم كيف يوقد ما يضيء وأن يتعلم كيف يتلعثم وحينما يتلعثم عليه أن يعرف كيف يصعّد نبضه كلما أضاءت رمانة بين أصابعه !!

 


1 - عبد الله السفر ، يفتح النافذة ويرحل ص 88-89.