تم ترشيح كتاب ( نقد النثر في القرنين الرابع و الخامس الهجريين ) لجائزة الملك فيصل العالمية سنة 1425هـ / 2004م وهو في الأصل رسالة ماجستير.
هذه بعض الأسئلة لا أظن أحدًا يستطيع الإجابة عنها إلاَّ تخمينًا ، أو يجيب عنها مما يمكن معرفته ـ معرفة ناقصة ـ مما يتحدّر من دراسة نقد الشعر . أما أن يجيب عنها أحد جازمًا بأمانة الباحث المنقِّب المدقق وثقته واطمئنانه فمطلب ـ فيما أظن ـ عزيز . ولذا فقد راق لي البحث في هذا الجانب ، وأدركت أهميته وحاجة المكتبة العربية إليه ، ولاسيما أن هذا الموضوع لم يدرس ـ فيما وصل إلى علمي ـ حتى الآن . فهناك دراسات كثيرة أرّخت ودرست جهود النقاد العرب القدماء في نقد الشعر ، ولكن ـ فيما أعلم ـ ليست هناك دراسة واحدة مماثلة استقلت بدراسة جهود النقاد العرب القدماء في نقد النثر ، مجلّية عن تصوراتهم ومقاييسهم واتجاهاتهم في نقد النثر ، حتى إننا نجد البحوث التي خصصت لدراسة النقد العربي القديم عامة يتوجه فيها الاهتمام ـ كل الاهتمام ـ إلى نقد الشعر فقط . أما النثر بأنواعه فيقع عليه الحيف البين . وتحرُّزًا من إطلاق القول بالحيف الذي لحق دراسة نقد النثر والإهمال من قبل الباحثين فإني لا أستثني إلا دراسة الدكتور أحمد بدوي في كتابه " أسس النقد الأدبي عند العرب ودراسة الدكتور عثمان موافي في كتابه "من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي القديم" . ودراسة الدكتور أحمد بدوي دراسة عامة ، ولكنه خصص الباب الرابع لنقد النثر ، وكان أهم ما جاء فيه مما له علاقة وثيقة بموضوعنا ماجاء في الفصل الثاني من الباب المسمى "النثر المثالي عند نقاد العرب" ، وكان حديث المؤلف فيه منصبًا على إنشاء الرسائل وما اشتراطه النُّقَّاد فيه ، ولم يكن لبقية الأنواع نصيب في تلك الإضاءة ، كما جعل الباب الخامس من كتابه المذكور لنقد الخطابة وما اشترطه النقاد في الخطبة والخطيب . وهو في كل ذلك ينقل جُلَّ نقولِهِ عن متأخرين كابن الأثير والقلقشندي ، وهما متأخران عن زمن الدراسة الذي حددته لبحثي كما سـيأتي ، وإن كان نقل في نقد الخطابة في بعض المواضع عن الجاحظ في "البيان والتبيين" وعن أبي هلال العسكري في "الصناعتين". أما دراسة الدكتور عثمان موافي فهي شركة بين الشعر والنثر ، ولكنه تناول طرفًا من الموضوع في مسألة تلمس مواطن الالتقاء والافتراق بين الشعر والنثر . وقد كانت هذه هي الغاية التي سعت إليها الدراسة كما صرح بذلك المؤلف في مقدمته . كما أنه تناول طرفًا أخر من الموضوع عندما تحدث عن الرسائل والخطب . والدراسة ـ مع إيجازها وتركيزهاـ دراسة عامة في الشعر والنثر معًا ، كما أنها دراسة لا تختص بزمن محدد ؛ إذ تمتد منذ بدايات التأليف النقدي وحتى حدود القرن التاسع الهجري . وتبقى الدراسة مفارقة لما نحن بصدده من حيث الموضوع والغاية والمنهج المتبع . كما أن هناك دراسة بعنوان "حول مفهوم النثر الفني عند العرب القدامى" للبشير المجدوب ، تلتقي في جانب ما مع هدف هذه الدراسة ، إلا أنها تختلف في حدود الموضوع وأبعاده ، وفي المنهج المتبع ، وفي طريقة رصف النصوص واستنطاقها ، ثم تُقصّر عن هذه الدراسة باقتصارها على محاولة استجلاء مفهوم النثر بشكل عام ، أما هذه الدراسة فترصد جهود التنظير للنثر عامة ، ثم ترصد الجهود النقدية التنظيرية والتطبيقية حول الأنواع النثريـة ، مع دراسة القضايا والمقاييس والاتجاهات ، بالاعتماد على مصادر ذات أهمية خاصة لموضوع البحث لم يطلع عليها المؤلف . ولما وجدت أن أمر هذا الموضوع كما أوضحت من تنكّب الباحثين ، مع ما يحيط به من غموض وعدم وضوح الصورة على وجه التحقيق والتثبُّت ، انصرفت إلى هذا الميدان أجمع حوله كل ما يمكنني جمعه من معلومات وكتب ، وبدأت العمل فيه والنظر فيما يصل إلى يدي من كتب في هذا الموضوع . ولم أحدّد لنفسي في هذا الاستطلاع الشامل عصرًا أو بيئة معينة ، ولكن بعد إطلالة عامة على الموضوع ، وبعد قراءات في جوانبه المختلفة رأيت أنه موضوع يَّتسع ؛ وبعد إدامة النظر اجتزأت قرنين من تاريخ النقد ليكونا مجالاً للمنهج الفني الذي ارتضيته لهذا البحث ، وهما القرن الرابع والخامس ، مع أن مسألة التحديد الزماني تبقى مسألة تقريبية ، إذ لا يمكن أن تُحدّ بحدود حاسمة صارمة . واختيار القرن الرابع بداية للدراسة يرجع إلى أنه لم توجد كتب مؤلفة في النقد الأدبي جعلت لنقد النثر فيها نصيبًا إلا في القرن الرابع الهجري ، على الرغم من أنه وجد في القرن الثالث نقد للنثر في أثناء كتب الأدب واللغة ، ولكن لم نعثر على كتب تهتم بالنثر اهتمامًا واضحًا ، وتشركه ـ صراحة ـ في الكتب النقدية إلا في القرن الرابع ، مثل كتاب "البرهان في وجوه البيان" لابن وهب ، وكتاب "الصناعتين" لأبي هلال العسكري . أما سبب ضم القرن الخامس وقرنه بالرابع فيرجع إلى أنه وُجِدَ فيه نتاج أدبي ونقدي مهمّ لموضوع الدراسة ، مثل كتاب "مواد البيان" لعلي بن خلف ، وكتاب "تسهيل السبيل إلى تعلم الترسيل" لأبي عبد الله الحميدي ، مع ما وجد من نقد في تضاعيف كتب أخرى في هذا القرن تساعد ـ مجتمعة ـ في مدِّ الدراسة بمعطيات غنية تعين في جمع شتات الموضوع ، وربط نسيج علائقه ، للوصول إلى تصور للموضوع أكثر شمولاً وتكاملاً مما لو قيد بالقرن الرابع وحدَه . أما الحدود المكانية فلم أقصر البحث على مكان بعينه ، لأن ذلك لا يتواءم مع طبيعة الموضوع ومنهجه الفني الذي يقتضي مني في بعض أجزائه ملاحقة الأنواع النثرية وما دار حولها من نقد ، أينما وجد . وقد عمدت في جمع مادة هذه الدراسة إلى مظانّ متنوعة ، فالمظانُّ الأولى في التراث النقدي والبلاغي سواء ما اختص منه بالنثر أم ما اختص بالشعر ، وقد وجدت فيها عددًا من النصوص الغنية بالأفكار و الآراء المهمـة . أما المظانُّ الأخرى ففي كتب التراث الأدبي . وقد غَذَّت بعض كتب هذا التراث جوانب من هذا البحث ، وأمدَّتْه بمادّة لا يستهان بها, انبثت في تضاعيفه و منعطفاته . كما أن كتب التراث اللغوي والتاريخي كانت من المظانُّ التي ترقبت أن ترفِد مادة البحث ، لكن معظم رحلات البحث فيها كانت تنتهي بلا شيء ، إلا الاطمئنان إلى محاولة الاستقصاء ؛ وطالما عانى الباحثون من رحلات مخيِّبة ، يسيحون في مئات الكتب ثم يعودون بجعبة خالي ، لأنهم ينطلقون إلى غاية معينة ، ويتطلبون نصوصًا بعينها تخدم منهجًا محددًا ارتضوه لبحثهم . وقد انطلقت في وضع خطة البحث وتقسيم أبواب الدراسة وفصولها من المادة المجموعة نفسها ، ومن استقراء النصوص واستنطاقها . ولم أحاول فرض أية مفاهيم أو رؤية حديثة . بل حرصت ـ ما وسعني الحرص ـ على أن أتتبع مفهومهم للنثر ، وجهودهم في نقده والتنظير له . كما كنت حريصة على تأمل النصوص كما هي في صريح عبارتها ، وكما هي في سياقها ، لئلا أنساق من استنطاق النص إلى اعتسافه . وقد قسمت البحث إلى تمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة . ووجدت أنه من المهم أن أبدأ البحث بهذا التمهيد ، حيث إنني عندما شرعت في فرز المادة وجدت أن كثيرًا من النصوص يرجع إلى تراث القرون الثلاثة الأولى ، فكان من الضروري أولاً أن يُخَصّ البحث بهذا التمهيد الذي يستعرض الجهود النقدية لنقد النثر ، ويعني بمتابعة الأفكار والملاحظات النقدية التي تحدَّرت إلينا قبل القرن الرابع الهجري . ووجدت أنه من الضروري تأنيًا أن ألتزم بتحديد أدق لعصر تلك الملاحظات ، وألاّ أكتفي بنسبتها لما قبل القرن الرابع فقط ، فأخذت أعود بالملاحظات والقواعد إلى قرنها الذي عاشت فيه ؛ لذلك جاء تحت كل قسم خاص بنقد نوع نثري تفريعٌ داخليٌّ يخصُّ الملاحظات النقدية حول ذلك النوع ، وقد وُزِّعت على عصورها التي ظهرت فيها ، ابتداًء من الجاهلية وانتهاءً بالقرن الثالث . ومع مافي نسبة النصوص إلى عصورها في تلك المرحلة المبكرة من عسر ومشقة إلا أني كنت على اقتناع بأهمية هذا الفـرز . وهي أهمية تعود إلى عدة أمور ، منها: 1- إنه ، من خلال ذلك الفرز ، يسهل الرجوع إلى الأفكار البلاغية والنقدية مع تقريب تاريخ ظهورها . وهذا مهم من حيث إنه يمكن الاستعانة ببعض جوانب هذا الفرز للردِّ على بعض الأقوال التي تتوجه إلى عدد من الأفكار البلاغية والنقدية زاعمة تأثُرها باليونان أو غيرهم ، إذ يبين هذا الفرز أصالة كثير من تلك الأفكار حيث تظهر قبل القرن الثالث ، أي قبل ترجمة كتاب الخطابة لأرسطو ـ مثلاً ـ فضلاً عن ترجمة كتاب الشعر ، أو تظهر نظائر مماثلة لها قبل عصر الترجمة والاختلاط بالأمم المختلفة . 2- إن ذلك الفرز يساعد على تتبع حركة تطور بعض المصطلحات والقواعد الخاصة بالأنواع النثرية ، كما يساعد في الوقت نفسه على متابعة تطور نقد النثر بشكل عام ، كأن يقارن مثلاً نشاط نقد الخطابة بحركة نقد الرسائل عبر القرون. 3- إنه ، من خلال ذلك الفرز تتضح جليةّ جهود المؤلفين في المؤلفات الأدبية الجامعة ، إذ إن إعادة الأفكار والجهود النقدية التي تَرِدُ في كتاب ما إلى أصحابها تبرز جهد المؤلف الخاص بعد نخل كتابه منها . أما البحث ذاته فبدأته بمدخل تحدثت فيه عن بدايات الاهتمام بالنثر ونقده ، وعدّدت بعض مظاهر ذلك الاهتمام ، وبيّنت أهم مصادر نقد النثر التي عوّلت عليها في جمع مادة هذه الدراسة التي قسمتها إلى ثلاثة أبواب . أما الباب الأول ففي مفهوم النثر عند العرب نقادًا وأدباء ولغويين ، وغيرهم ممن شاركوا في هذا المجـال . والدراسة في هذا الباب تُّخَصَّص للجهود التنظيرية من حيث تعريفُ النثر وتقسيمُه وتحديدُ أنواعه وموضوعاته ، وهو ما استقل به الفصل الأول من هذا الباب . أما الفصل الثاني فيستقل بالحديث عن مكانة النثر والمفاضلة بينه وبين الشعر . أما الباب الثاني ففي نقد الأنواع النثرية ، وينقسم إلى ثلاثة فصول . الأول : نقد الخطابة ، والثاني: في نقد الرسائل ، والثالث : ينتظم نقد الأنواع النثرية الأخرى كالأمثال والقصص والمقامات والجوابات . وقد جعلت نقد الخطابة نقد الرسائل كلاً في فصل مستقل ، لأنهما الفرعان الكبيران اللذان حُدّدا صراحة وحظيا بالنقد والتقنين . أما الباب الثالث فخصصته للحديث عن القضايا والمقاييس والاتجاهات . ويستقل الفصل الأول منه بدراسة القضايا النقدية التي دار حولها النقد . وقسمتها إلى قسمين ، الأول : القضايا المشتركة بين نقد الشعر والنثر ، مثل قضية السرقات ، والقديم والمحدث ، واللفظ والمعنى... ، وقد نوقشت تلك القضايا من الزاوية الدقيقة التي يلتزم بها البحث وهي زاوية نقد النثر في تلك القضايا ، وما كان منها مخصصَا صراحة للنثر ، أو ما يميل به منها إلى جهة النثر أكثر من الشعر . أما القسم الثاني فللقضايا الخاصة ، وفيه تحدثت عن قضية السجع والازدواج وقضية الكتابة وإنشاء الرسائل . أما الفصل الثاني فخاص بالمقاييس . وقد قسمته التقسيم السابق نفسه ، إذ وُجِدَتْ مقاييس مشتركة بين نقد الشعر والنثر ، كمقياس الطبع والجودة والملائمة ومراعاة المقام . أما المقاييس الخاصة فقد وُجِدَتْ بعض المقاييس الخاصة تبعًا لوجود قضايا خاصة . أما الفصل الثالث فيدرس الاتجاهات كما تبدو من خلال المؤلفات الخاصة بالنثر ونقده ، مع إيضاح المنحى الذي يتجه إليه الكتّاب في تلك المؤلفات . أما الخاتمة فقد كانت خلاصة ، انتظمت نتائج كل باب من الأبواب الثلاثة في معرض واحد ، في محاولة لوضع تصور متكامل لنقد النثر بجهده النظري والتطبيقي وبقاضاياه ومقاييسه واتجاهاته ، بما استطاع أن يقدمه هذا البحث من إجابات عن الأسئلة التي وردت في مطلع التقديم . وقد آنبثَّت في البحث تراجم لعدد من الأعلام . وقد رأيت أن أترجم للعَلَم في حالات بعينها ، إذ لو ترجمت لجميع من ترد أسماؤهم في هذه الدراسة لتضخمت أضعاف حجمها الحالي . وقد كنت أترجم للعَلَم إذا كان مؤلفًا ممن ساهم في إثراء حركة التأليف حول الأنواع النثرية ونقدها ، ومع إغفال من ذاعت شهرته منهم . كما أترجم للعَلَم إذا كان اسمه يرد في النص ناقصًا ، أو يسوق إلى اللَّبس ، أو إذا كانت الترجمة تساعد في إضاءة النص أكثر . وقد ضربت صفحًا عن الأعلام الذين ترد أسماؤهم في التمهيد ، لأن عملية الفرز وتوزيع النصوص حسب القرون كانت قامت أصلاً على عملٍ في تراجم الأعلام للتأكد من نسبة النصوص إلى عصورها ، فلذلك ، ولكثرة الأعلام التي تتزاحم أحيانًا في النص الواحد ، اكتفيت بذلك التوزيع وضربت صفحًا عن إيراد التراجم . وليس يمكن أن أختم هذه المقدمة دون أن أبدي بعض ما في النفس من التقدير والعرفان ، فأشكر أستاذي المشرف الدكتور محمود الربداوي ، الذي أعانني بعلمه وثقته وتشجيعه لإنجاز هذا البحث كما أشكر أستاذي الدكتور محمد الهدلق ، الذي تفضل بإمدادي من مكتبته ومخطوطاته بمصادر مهمة ، كان لها أثر كبير في إثراء مادة هذا البحث ، كما أشكره والدكتور صالح اليظي لتفضلهما بقراءة هذا البحث ، ولما بذلا في هذا السبيل من وقت وجهد مشكورين. والحمد لله رب العالمين ، الذي وفق لإنجاز هذا البحث الذي ليس إلا بعضًا من غرس هذه الجامعة ؛ فإن كان الثمر جيِّدًا ناضجًا فمن نجابة الأرض وحذقِ الغرس ، وإن كانت الأخرى فليس إلا عقوق الثمر . الخاتمة: هذا البحث كان رحلة لاستجلاء مفهوم النثر واستكناه جهود نقد النثر ومحاولات التنظير له عند النقاد في القرنين الرابع والخامس الهجريين . وقد استقل الباب الأول بمهمة الكشف عن مفهوم النثر بشكل عام ، بالاعتماد على النصوص التي هدفت إلى تعريف النثر وتحديد أنواعه وموضوعاته ، والتفريق بينه وبين الشعر والمفاضلة بينهما . وقد أظهر البحث في هذا الجانب عددًا من النتائج منها: في الوقت الذي تتكاثر فيه تعريفات الشعر لا نجد في المقابل نصوصًا تنص على تعريف اصطلاحي للنثر الفني . وُجِدتْ نصوص تدل على أنهم كانوا يرون أن النثر قسيم الشعر تحت جنس الكلام ، وأنهما يشتركان في الخصائص والسمات الفنية حتى في خاصية الموسيقى والإيقاع . وُجِدَتْ أيضًا نصوص تبحث في مسألة الفرق بين الشعر والنثر . وهي منطقة غنية أمكن من خلالها استخلاص نظرتهم للنثر فكانت أبرز الفروق عندهم تتمثل في فارق الوزن والقافية ، وهو الفارق الأكثر شيوعًا والأكثر ترددًا في نصوص النقاد والأدباء ، كما تمثل في فارق البناء والوحدة ، وفي فارق الوضوح والغموض ، وهو فارق الصدق والكذب ، وما تبع ذلك من اختلاف في طريقة الوصف والتخييل . وهذه فروق تكاد تستوعب جل عناصر العمل الأدبي ، وهي نتيجة ترد على القائلين بأن العرب لم يعرفوا من الفروق بين الشعر والنثر إلا فارق الوزن والقافية . لوحظ في النصوص التي تتحدث عن أنواع النثر أنها تحاول الاتساع بمفهوم النثر ليشمل أدب الجدل وليشمل الأعمال التأليفية ، بالإضافة إلى الرسائل والخطب . ولكن في الوقت نفسه لوحظ أيضًا أن العرب مع أنهم عرفوا أنواعًا نثرية أخرى كالأمثال والقصص والمقامات ـ إلا أنهم أهملوها إهمالاً واضحًا في صلب النصوص التنظيرية . ويبدو أن نظرية الأدب عندهم ـ في الغالب ـ لم تتعد كونه أحد ثلاثة: إما الشعر ، وإما الخطب ، وإما الرسائل . وقد ساقت هذه النظرة بالتالي إلى قصور واضح في النقد الدائر حول بقية الأنواع . وهو قصور وضحه الفصل الثالث من الباب الثاني . بيّنت النصوص التي تحدثت عن موضوعات النثر أن النقاد والأدباء كانوا يرون أن الموضوعات مشتركة بين الشعر والنثر ، لكن رأي بعضهم أن للشعر قدرة كبيرة على الاحتواء والامتداد على اتساع الموضوعات وتنوعها ، ورأي بعضهم أن للنثر ـ لا للشعر ـ تلك القدرة . كما عكست بعض تلك النصوص محاولات لقصر موضوعات بعينها على أنواع بعينها. بيّنت نصوص المفاضلات بين الشعر والنثر أن الكفتين تكادان تتعادلان . كما بينت أن المفاضلات كانت تدور حول محورين: محور داخلي يتعلق بالعمل الأدبي ذاته كالمفاضلة على أسس الوزن ، والوحدة ، والوضوح ، والصدق وما إليها من أمور تتعلق بالعمل الأدبي نفسه ، ومحور خارجي يعتمد على موضوعات خارجية ، أي على علاقة العمل الأدبي بالخارج ، من حيث ارتباطه بالتقدير الاجتماعي وارتباط هذا التقدير بالوظيفة التي يؤديها النوع الأدبي . وقد كانت معظم المفاضلات تدور حول هذا المحور الذي عكس الاهتمام بالجانب النفعي في نظرة النقاد والأدباء إلى وظيفة كل من الشعر والنثر . أما الباب الثاني الذي استقل بمهمة الكشف عن جهود النقاد حول الأنواع النثرية في جانبها التنظيري والتطبيقي فقد أسفر عن عدد من النتائج منها: أن الرسائل والخطب هما النوعان اللذان حظيا بالكثير من النقد والتقنين . فيما يخص نقد الخطابة وُجِدَتْ محاولات للتنظير ، حيث وجدنا نصوصًا لتعريف الخطابة لغة واصطلاحًا ، ونصوصًا تحدد موضوعات الخطابة وغايتها وأنواعها . كما وجدنا نصوصًا تتحدث عن قواعدها وشروطها ، ونصوصًا قليلة حملت بعض المحاولات لنقد الخطب والمفاضلات بين الخطبـاء . وقد لوحظ بعد مقارنة هذا الجزء بنظيره في التمهيد أن محاولات النقد هناك كانت أكثر نشاطًا وغنى ، وعزونا ذلك إلى خفوت صوت الخطابة وانحسار مكانتها والاهتمام بها . أما الجزء الذي بحث في أثر كتاب الخطابة لأرسطو على نصوص نقد الخطابة عند العرب ـ فقد أظهر أن التأثير كان باهتًا وضعيفًا على المستوى العام ، وأن النصوص التي عكست ملامح التأثر ظهرت عند الحميدي والفارابي في تعريف الخطابة وتحديد غابتها وموضوعاتها . وهذا ما جعلنا ندعو إلى ضرورة التفريق عند القول بالتأثير بين ما يمكن أن يقال عن تأثيره على النقد والبلاغة العربية بأفكار عامة وبين تأثير الكتاب على حقل الخطابة ونقدها بالذات . لذلك فالبحث يوصي بالعناية بأثر الكتاب على النقد والبلاغة العربية عامة ، إذ هو مجال خصب غني لعدد من الدراسات منها: تاريخ معرفة العرب بالكتاب ، مستوى الفهم والدقة في مترجماته وشروحه وتلخيصاته ، ملامح التأثر بالكتاب قبل ترجمته ، وملامح التأثر بعد النقل والترجمة أي ـ باختصار ـ إخضاع مقولات تأثيره على النقد والبلاغة العربية عامة لدراسات منهجية دقيقة موثقة لإيضاح ما هو من قبيل التشبه والنظائر في أفكار الأمم وما هو بتأثير أرسطي . وأظن أنني من الزاوية التي يلتزم بها هذا البحث ومن الحدود المقررة له قد وضحت في حقل نقد الخطابة ما للعرب وما هو غريب عن تراثهم النقدي للخطابة ، مبينة ما هو أصيل وما هو غريب من واقع استقراء النصوص واستنطاقها وفرزها ومتابعة سيرها عبر القرون . أما فيما يخص نقد الرسائل فقد دل البحث على نشاط حركة التأليف حول هذا النوع النثري ونقده . وقد وجدنا على مستوى التنظير عددًا من النصوص تضح حدًا وتعريفًا اصطلاحيًا لهذا النوع . وحظينا بعدد من النصوص تحدّد موضوعات الرسائل وأنواعها ، كما حظينا بعدد من المؤلفات الخاصة به الهادفة إلى إيضاح قواعد كتابة الرسائل وشروطها . وقد بدا من خلال استعراض تلك النصوص الاهتمام الكبير الذي تحطى به الرسائل الديوانية ، ومن هنا بدا جهد الحميدي متفردًا في الاهتمام بالرسائل الإخوانية . ومع الاهتمام الكبير الذي تحظى به الرسائل بشكل عام على مستوى التنظير والتأليف حول قواعده ـ إلا أنه في المقابل نلحظ ضمورًا واضحًا على مستوى التطبيق ، إذ تقل النصوص التي تحمل المفاضلات والأحكام الخاصة بالكُتّاب قلة واضحة في العدد والأهمية ، وتبدو هزيلة إذا ما قورنت باستضافة النصوص وغناها في الجانب التنظيري . أما فيما يخص الأنواع النثرية الأخرى كالأمثال والقصص والمقامات والجوابات فهي وإن اختفت من صلب النصوص النظرية الخاصة بتقسيم الأنواع النثرية إلا أننا وجدنا حولها بعض النصوص ذات الفائدة من الوجهة النقدية . فعن الأمثال تحدثت بعض النصوص ، وأشارت إلى السمات الخاصة بها وما يشترط أن يتوافر فيها من خصائص لتكون بليغة سائرة . وعن القصص أيضًا وُجدِتْ بعض الإشارات اليسيرة التي تدل على تذوق لبعض القصص المشهورة . ولكن تلك الإشارات تبدو هزيلة لا تتواءم مع الحركة الواسعة للتأليف في القصص . ويبدو أن النقاد لم يلتفتوا إلى هذا النوع النثري . وعزونا إهمال النقاد لهذا النوع إلى التقدير الاجتماعي والمكانة الأدبية التي كان يحتلها . أما المقامات فعلى الرغم من نشوء المقامات واتساع شهرة الهمذاني ومن بعده الحريري لم نجد لهذا النوع النثري المستحدث صدى في النصوص النقدية . وعزونا ذلك إلى تأخر نشأة هذا النوع . هذا التأخر ربما ساق إلى تأخر النقد حوله ، حيث إننا لاحظنا أن الإشارات القليلة التي وجدت كانت حول مقامات الهمذاني ، أما مقامات الحريري فيتأخر النقد حولها إلى القرن السادس وما بعده . أما الجوابات فلم نجد إلا نصًا للمرتضى خصّ فيه الجوابات بالحديث عما يستحسن فيها ، وما يجب أن تكون عليه أجوبة المناظرات والمحاورات. أما الباب الثالث الذي خُصّص للقضايا والمقاييس والاتجاهات فقد أظهر عددًا من النتائج: ففيما يخص القضايا فقد تبين أن هناك بعض القضايا المشتركة بين نقد الشعر والنثر ، وأن هناك قضايا خاصة بالنثر ونقده . وبرزت قضية الكتابة باعتبارها قضية خاصة شغلت كثيرًا من المؤلفين فألفوا عددًا من الكتب ، سعيًا وراء إرساء قواعد الكتابة باعتبارها صناعة يمكن اكتسابها والمهارة فيها ، لتغدو بالتالي حرفة من الحرف يمكن الترقي من خلالها إلى مناصب عليا في الدولة . فيما يخص المقاييس اتضح أن هناك مقاييس مشتركة بين نقد الشعر والنثر حُكمت عند النظر في الأساليب النثرية . كما اتضح أن هناك مقاييس خاصة بنقد النثر انبثقت من طبيعة النثر وقضاياه الخاصة . واتضح أن هناك شيئًا من التغييب للمقاييس الخاصة بنقد النثر في النقد التطبيقي وشيئًا من التغليب للمقاييس المشتركة بينها . أما فيما يخص اتجاهات المؤلفين في المؤلفات الخاصة بالنثر ونقده فقد ظهر أن هناك من ينحو المنحى اللغوي ويُغَلِّب النواحي الشكلية مثل الصولي والنحاس وابن درستويه ، وظهر أن ابن خلف يوازن بين النواحي اللغوية والشكلية وبين النواحي الفنية البلاغية ، أما اليزدادي فنحا المنحى الجمالي وغَلّب النواحي البلاغية البديعية . ومن النتائج الأخيرة التي نرصدها في هذا المقام أنه يُلاحظ أن عددًا من النقاد والأدباء قد لمعت أسماؤهم وبرزت جهودهم في المشاركة بنصوص ذات أهمية خاصة في المجال التنظيري ، حيث لمع اسم الحميدي وابن خلف ، والتوحيدي ، وأبي إسحاق الصابئ ، وأبي سليمان السجستاني ، والماوردي . وعلى مستوى التطبيق والتعليق النقدي على الرسائل والخطب شارك كل من اليزدادي والثعالبي ، والتوحيدي ، وابن شهيد ، والشريف الرضي . ولعله من العرض السابق لنتائج الأبواب والفصول يتضح أنه وُجِدَ نقد للنثر على مستوى التنظير على مستوى التطبيق . وهذه نتيجة نقررها أخيرًا . وتأتي أهميتها من جهة أنها تنفي ما يُطْلَق من أحكام مرسلة حول التراث النقدي ، وتنفي الأقوال التي تزعم أن لا نقد للنثر . ولكن في الوقت نفسه نقرر أيضًا أنه على الرغم من وجود نقد للنثر فإنه لا يجاري ولا يطاول تراث نقد الشعر لا من حيث الكم ولا الكيف . وكانت الصدارة والوجاهة لنقد الشعر على الرغم مما كان للنثر من مكانة نافست ـ إن لم تكن فاقت ـ مكانة الشعر . ويبدو أن نشاط حركة النقد حول الشعر يعود إلى حيوية الشعر ذاته ، ومؤهلاته الخاصة ، وارتباطه الحي الدائم بوجدان الناس وهمومهم ، على حين أن النثر ارتبط غالبًا بشؤون الدين والسلطان ، وتحولت المهارة الكتابية فيه إلى نوع من الحرفة ، وتنوقلت قواعده بشكل متواتر حتى أوشكت على الجمود عند بعض الصيغ الجاهزة المقررة المحفوظة سلفًا . وربما كان وراء نشاط الحركة النقدية حول الشعر مفهوم النقاد للأنواع الأدبية ، حيث قدمنا أن النظرية الأدبية عندهم كانت تقسم الأنواع إلى شعر وخطب ورسائل ، ورأينا عند بعضهم أنهم يرون أن الشعر أكثر الأنواع اشتمالاً على الخصائص الفنية . ولعل هؤلاء رأوا أ،هم إنْ نظروا للشعر وقعَّدوا له فإن ذلك يغنيهم عن التنظير للنثر وأنواعه . ومازال بعض النقاد حتى عصرنا الحديث يصدرون عن مثل هذه النظرة . وبعد ، فمما تقدم يتضح أن البحث قدم كثيرًا من الإجابات عن تلك الأسئلة التي عرضت في مطلعه . وآمل أن يكون البحث بذلك قد قدم إجابات شافية ونتائج مثمرة . وأسأل الله أن يكون عملاً صالحًا ، وأن ينفعني به يوم لا تنفع إلا الصالحات . والحمد لله رب العالمين . ثبت المحتويات الإهداء 5 المقدمة 7 أولاً ـ ملاحظات نقدية حول الأقوال النثرية عامة 17 ثانيًا ـ نقد الخطابة: 20 1- العصر الجاهلي 20 2- القرن الأول الهجري 21 3- القرن الثاني الهجري 27 4- القرن الثالث الهجري 30 ثالثًا ـ نقد الرسائل: 38 1- القرن الثاني الهجري 38 2- القرن الثالث الهجري 39 رابعًا ـ نقد أنواع نثرية أخرى : 55 1- الأمثال 55 2- القصص 57 3- الجوابات 60 نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين 63 الباب الأول: مفهوم النثر عند النقاد 71 الفصل الأول : تعريف النثر وأنواعه وموضوعاته 73 أولاً ـ تعريف النثر : 73 1- إدراجه تحت قسمة عامة 73 2- حد النثر 76 3- الفرق بين الشعر والنثر 78 ثانيًا ـ أنواع النثر وموضوعاته 89 1- أنواع النثر 89 2- موضوعاته 95 الفصل الثاني : مكانة النثر والمفاضلة بينه وبين الشعر 99 أطراف المفاضلة 100 كفتا المفاضلة 101 أنصار الشعر 102 أنصار النثر 102 نموذج من المفاضلات 103 محور المفاضلات 105 الباب الثاني: نقد الأنواع النثرية 107 الفصل الأول: نقد الخطابة 109 أولاً ـ في التنظير : 110 1- التعريف 110 2- الموضوعات 113 3- الغاية 116 4- الأنواع 117 5- القواعد والشروط 119 ثانيًا ـ في التطبيق 123 مفاضلات وأحكام نقدية خاصة بخطباء أو خطب بأعينها 123 ثالثًا ـ كتاب الخطابة لأرسطو وأثره على نقد الخطابة عند العرب في القرنين الرابع والخامس الهجريين 129 الفصل الثاني : نقد الرسائل 137 حركة التأليف حول الرسائل والكتاب 138 أولاً ـ في التنظير : 144 1- التعريف 144 2- الموضوعات 149 3- الغاية 156 4- الأنواع 157 5- القواعد والشروط: 165 أ- أبو هلال العسكري 165 ب- ابن وهب 168 جـ-أبو بكر الصولي 170 د-أبو جعفر النحاس 170 هـ- ابن دروستويه 171 و- أبو عبد الله الحميدي 171 ز- الصاحب بن عباد وهلال بن المحسن الصابئ 172 حـ- عبد الرحمن الهمذاني 172 ط- علي بن خلف 173 ي- أبو الحسين هلال بن المحسن الصابئ 175 ثانيًا ـ في التطبيق: 177 مفاضلات وأحكام نقدية خاصة بكتّاب بأعينهم أو برسائل بأعينها 177 1- المفاضلات بين الكتّاب 177 2- ملاحظات وأحكام نقدية تتعلق بكتاب بأعيانهم 187 أ- الثعالبي 187 ب- التوحيدي 190 ج- ابن شهيد 194 3- ملاحظات وأحكام نقدية خاصة برسائل بأعيانها 196 أ- ملاحظات اليزدادي حول رسائل ابن وشمكير 196 ب- ملاحظات أخرى 200 ثالثًا ـ التوقيعات 207 الفصل الثالث : نقد أنواع نثرية أخرى 209 أولاً ـ الأمثال 209 ثانيًا ـ القصص 216 ثالثًا ـ المقامات 224 رابعًا ـ الجوابات 229 الباب الثالث : القضايا والمقاييس والاتجاهات 233 الفصل الأول: القضايا 235 أولاً ـ القضايا المشتركة : 235 1- قضية القديم والمحدث واحتذاء مذاهب السالفين 235 2- قضية السرقات 240 3- قضية اللفظ والمعنى 245 4- قضية الطبع والتكلف 250 5- قضية الوحدة والبناء 252 ثانيًا ـ القضايا الخاصة : 257 1- قضية السجع والازدواج 257 2- قضية الكتابة 261 الفصل الثاني : المقاييس 265 أولاً ـ المقاييس المشتركة 265 ثانيًا ـ المقاييس الخاصة 267 الفصل الثالث : الاتجاهات 271 الخاتمة 273 ثَبت الخطب ذات الألقاب 283 ثَبت الرسائل ذات الألقاب 284 ثَبت الأعلام 285 ثَبت بأسماء المصادر والمراجع 297 ثَبت المحتويات 311