الصفحة الرئيسية
 /  
قول في الهيولى والشعار 2
 /  
رجوع

قول في الهيولى والشعار 2


 اشارة:

اعتذر للقارئ المتابع عن الاخطاء الطباعية التي لم يسلم منها احد جرب النشر في اية مطبوعة في أي مكان، ولكنها كانت في المقالة الماضية من الكثرة وتحريف المعاني بحيث استوجبت هذه الاشارة، كما اعتذر عن اسقاط الصاف الاشارة في نهاية الحلقة الماضية إلى أن للكلام تتمة، وهاهو الكلام يتصل!!

ان التلازم والتداخل بين العري واللباس من جهة واللغة والكشف والقلق المعرفي من جهة ثانية المشار إليه فيما سلف يؤكده كذلك تاريخ من الاوصاف والعلاقات في الوعي و اللاوعي في تراثنا، فلطالما وصف الشعر الجيد والكلام البليغ وشبه بالبُرد والنسيج المحكم. ولسنا من البردة ببعيد، حيث صارت لغة الشعر عريا رائعـًا في (بانت سعاد) حتى استحقت ان يلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم – على صاحبها بردته، وبذلك اجتازت لغة الشعر من العري لتصير القصيدة الشعار والدثار والبردة النادرة!!

ويمكن التوقف عند بعض الأمثلة للتأمل، فالخبرة في اللغة هي ضرب من البرود موشى و منمّر وهي ايضا كل نغمة حسنة... ومادتها الاصلية حبر تشير إلى التحسين والتجويد... ويمكن تقليب مادة (حبر) لنرى انها مادة الكتابة، ومادة الصوت في حسن القراءة والترتيل و الانشاد، وقد جاء في حديث أبي موسى: لو علمت أنك تسمع لقراءتي لجبرتها لك تحبيرا.

كما أنها صفة للنغمة الموسيقية الحسنة، وهي كذلك تقنية في تحسين الشعر والكلام، وقد كان يقال للطفيل الغنوي في الجاهلية محبرّ لتحسينه الشعر. كما انها صفة ملازمة للعلم والمعرفة، ومنها وصف الأحبار، وهي كذلك ملازمة للجانب الشعوري في الفرح إذ هي الغاية في السرور والحبور.

فهي بشكل عام ترتبط بالناحية المعرفية وبالملكة الجمالية و الابداعية مثلما ترتبط بالمظهر الجميل وحسن الهيئة، وتشير بشكل واضح إلى الاتقان والجودة وإحكام الصنعة وبلوغ الغاية فعلا وانفعالا. و الحبر فوق ذلك وبعد كل ذلك هو الأثر، أثر الشيء، ولست بحاجة لمزيد استطراد حول الارتباطات السابقة ودلالات الأثر فيها ومعها وبها فنيا ووجوديا ومعرفيا!!

وكلمة ثوب مثلما تعني اللباس تعني ايضا القلب والنفس، والعرب تكني بقولها فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من العيب.

ويقال: ثوّب الداعي إذا عاد مرة بعد أخرى إلى الدعاء. ومنه تثويب المؤذن وأصله – كما قال ابن منظور – ( ان الرجل اذا جاء مستصرخا لوّح بثوبه ليُرى ويشتهر، فكان ذلك كالدعاء فسمى الدعاء تثويبا) ولست بحاجة إلى لفت النظر هنا كيف يتبادل الثوب والنداء في مشهد المستصرخ الدلالة، وكيف ينوبان عن بعضهما فيتحول المشهد على مجرد علامة قبل ان يتحول الثوب من معناه المادي إلى معنى التثويب والترديد، وقبل ان يتحول الثوب في يد المستصرخ إلى اجنحة تردد النداء و اجنحة تحسر عن عريه وقلقه وخوفه البشري محوّلة إياه ذاته إلى لغة أو علامة هي مجازه أو حلم مجازه إلى الأمان!!

فهل يا ترى أهو مجرد تحول ام وجه غائر من وجوه التماهي؟! ونحن نلاحظ في تجاربنا الوجودية باللغة وفي اللغة أن الهوة بين الدال والمدلول بين المفهوم والصورة بين الاسماء و الاشياء بين الأفكار والكلمات ليست فقط مظهر قلق و احباط و انما هي ازمة صدق ايضا وبحث عن التماهي ومطلق الكمال والجمال!!!.

(يتبع)