الصفحة الرئيسية
 /  
قول في الهيولى والشعار 3
 /  
رجوع

قول في الهيولى والشعار 3


ومادمت قد بدأت الاشارة في الحلقة الماضية الى مظهر القلق في الوجود اللغوي فيما له صلة أيضا بالمفصل الأساسي لهذه السلسة وهو مفصل العلاقة بين العري وزيف الكشف فإنه يمكن القول: ان مادة ثوب تقوم على مبدأ الحركة القلقة، حيث تتحرك تنويعاتها على محور واحد من الدوران ثم الارتداد ومن الثبات والصدق إلى الكذب والزيف، ولا يتعلق هذا بمعنى (ثاب) ولا بمعنى التثويب فقط ولكن حتى كلمة ثوب بمعناها المادي المباشر يمكنها ان تغور في هذا القلق وفي هذه الحركية، وهو ما تعكسه بشكل خاص الكنايات و المجازات في استخدامات كلمة ثوب وربطها في سياقات الطهر والدنس.

 

وليس هذا من باب التهوين من حركة الدلالات ومن شأن الإنزياحات في المسافة بين الحقيقة والمجاز فكلمة ثوب التي تعني واحد الثياب تعني النفس والقلب أي أنه يمكنها ان تعني الظاهر والباطن، وفي الظاهر خاصة يمكن أن تعني حسن المظهر والوجاهة والوقار في الوقت الذي يمكن ان تكون مظهر الباطن سيء ورمزا للكذب والزور والتمويه والخداع، حيث يصبح اللباس موازيا للعري والاستلاب والافتضاح حيث يثوب الثوب ويرتد على نقيضه وليس ادل على هذا من الحيرة التي وقفها بعض المفسرين امام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور(1).

والحديث حول التداخل والاشتباك في دوائر الدلالات لمفردات اللباس والتباساتها بالنفس واللغة والكشف و الابداع لا يتعلق بكلمة شعار والمحبر والثوب فقط، بل يمكن فحص مفردات اللباس وتنويعاتها من المنظور المشار اليه حيث نجد هذه المفردات في مستواها الاول دالة على ماديتها ونجدها ايضا تتجاوز ذلك الى تماهيات اعمق وتخلص الى دخائل الانسان حيث تلبسه من الداخل وتتعلق بممارساته الروحية واللغوية والنوعية، وعلاقات تكشفه للعالم وكشفه هو للوجود من حوله ففضلا عما تقدم من استطرادات حول الشعار والمحبر والثوب، نجد لقميص غلاف القلب و الأزار هو النفس والعرض والعفة، والرداء هو العقل والقوة والسيف وهو ايضا الجهل والهم والديْن. بل ان الرداء في تعريفات بعض المتصوفة يصل الى جعلهم اياه موازيا للسلوك والتجسيد الانساني للأسماء والصفات حيث يعرفونه بأنه " ظهور صفات الحق على العبد" أي انهم يجعلونه وجها من وجوه التجلي بعد ازالة الحجب اذ ما التجلي الذاتي عندهم الا: "ما يكون مبدؤه الذات من غير اعتبار صفة من الصفات معها وان كان لا يحصل ذلك الا بواسطة الاسماء والصفات إذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات الا من وراء حجاب من الحجب الاسمائية".

والمتصوفة – على أية حال – يربطون بين الوجود واللغة ربطًا واضحـًا، ويحولونه الى نص يدل على خالقه وهم – مع اختلافات مهمة – يلتقون مع السيمولوجيين في النظرة الى الكون كنص يقرأ.

فكم من ابجديات الكون ومكنوناته على الانسان ان يتعلمها ويتأملها حتى يلمَّ نثار الكون – كونه الداخلي والكون الخارجي- فيقرؤه ويكتبه وكأن الكون واحد من اثنين: اما جسد من حروف متأت فقط لمن يمكنه ان يلمّ ابجديته ويفك شفراته ويقرأ اكتماله وجماله الخفي، او جسد مقيد بالغيبة يطلقه حضور الحروف ومغزل الفكر واللغة ليبرز في كل ألوان الحلل حلة الماء أو الزرقة او السواد وكل الوان الحبر الذي ينسجه خلق الانسان و ابداعه ليوشي جسد الكون أو يشمه وتلك هي الكسوة التي تجعله يكف عن كونه عرضا في جوهر النص وتجعل الكون يكف عن كونه جوهرا مُعْرِضـًا عن جوهر الانسان ومتعة القراءة.

 

 


  1. أشير هنا على حيرة المفسرين وتوقفهم عند تثنية كلمة ثوب خاصة وقد فسره عمر رضي الله عنه – بإزار ورداء على اعتبار ان العرب كانت عند المقدرة تلبس إزار ورداء وروي عن ابن اسحق بن راهويه قوله: "سألت ابا الغمر الاعرابي وهو ابن ابنة ذي الرمة – عن تفسير ذلك فقال كانت العرب إذا اجتمعوا في المحافل كانت لهم جماعة يلبس احدهم ثوبين حسنين، فإن احتاجوا إلى شهادة شهد لهم بزور فيمضون شهادته بثوبيه..."الخ.

وتلك الحيرة لا تحل اشكالية التثنية ولا ارتباط الثوب بالزور والبهتان وقد يكون فيما عرضته في المتن حول مبدأ الحركة القلقة في جذم الكلمة ما يضيء ارتدادها حتى في مستواها المادي المباشر الى السلب والتعري بل إلى تضاعف العري والانكشاف، كما ان في حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – الآخر الذي جاء فيه " من لبس ثوب شهرة البسه الله تعالى ثوب مذلة" ما يدعم المعنى المشار إليه ويساعد في إضاءة حركة الارتداد والتثويب، حيث كل حركة اياب تصنع بالضرورة فيما تصنع خط التثنية.