الصفحة الرئيسية
 /  
قول في الهيولى والشعار 4
 /  
رجوع

قول في الهيولى والشعار 4


كم من ابجديات الكون ومكنوناته على الانسان ان يتعلمها وتأملها حتى يلمَّ نثار الكون – كونه الداخلي والكون الخارجي- فيقرؤه ويكتبه وكأن الكون واحد من اثنين: اما جسد من حروف متأت فقط لمن يمكنه ان يلمّ ابجديته ويفك شفراته ويقرأ اكتماله وجماله الخفي، او جسد مقيد بالغيبة يطلق حضور الحروف ومغزل الفكر واللغة ليبرز في حلة الماء و الزرقة وكل الوان الحبر الذي ينسجه ابداع الانسان ليوشي جسد الكون أو يشمه!! وتلك هي الكسوة التي تجعله يكف عن ان يكون عرضا في جوهر النص وتجعل الكون يكف عن كونه جوهرا مُعْرِضـًا عن جوهر الانسان ومتعة القراءة.

 

أو ليست القراءة هي الضم والجمع تمامـًا مثل الحركة التي ينهض عليها مبدأ الغزل والنسج اذ يشد الملحمة الى السدى؟! ذلك النوع من الكسوة هو أيضـًا الذي يجعل اللباس – حقيقة ومجازًا – يكف عن ان يكون عرضـًا من الاعراض في اذهان الناس الذين في الوقت الذي ينظرون فيه الى الجسد كموضع تأثيم ينظرون اليه أيضـًا بوصفه عرضـًا من الأعراض، وبذلك لا يخرج التجريد عندهم عن منطق التأثيم والتحريم، سواء ذلك التجريد المرتبط بالجسد والماديات أو ذاك المرتبط بالإبداع والفكر والفلسفة و الماورائيات، كلاهما مرتبط بالمتعة مثلما هو مرتبط بالألم والموت، ضدان يرتبطان بضدين ارتباطـًا يغور عميقـًا في الوعي و اللاوعي ذاك الشديد الفصل بين الانسان والأشياء وفي الانسان ذاته الذي يفصل بين الروح والجسد دون أن ينتبه لتلك المسافات الواصلة بينهما، تلك المسافات التي تُنسى في غيبوبة المادة أو غيبوبة الروح!!  

فكيف اذًا لا يكون هذا التداخل بين اللغة والكتابة وبين العري واللباس والتجريد والقلق المعرفي وقلق الامتداد والخلود حقيقة لا مجازًا وهذه كلها ترتد في سلالاتها إلى الشجرة!

كيف لا يكون هذا التداخل والترابط ممتدًا وسحيقـًا ودثارنا الأول في الجنة كان من ورق؟

فليس صدفة أن نلبس من سلالة الورق والشجر وأن نتلبس باللغة وتتلبس بنا، وليس صدفة أن نغني بأداة من مشتقات الشجر، ونكتب باليراعة نكتب على جلد الشجر، والشجرة في أصلها كانت أول الغواية!! وليس صدفة أننا حينما نموت فنحن في الموت نعود إلى العري الأول لتلفنا هي في الاكفان ببعض لحائها وتضمنا في التوابيت تعيرنا بعض قامتها. و اذا كتب للناس بعد الموت العيش في الجنة وصف الله كثيرًا أثوابهم فيها حيث ثياب أهل الجنة خضر، وكأنما هي خضراء بالذات مثل ورق الشجر في الجنة الأولى التي خرج منها أبونا آدم!!!

ان في تلك التماهيات المشار اليها في المقالات الثلاث الماضية بين الروح والنفس والعقل واللغة وبين مشتقات اللباس ومفرداته ما يتيح للرؤيا أن تتنامى وتتساءل عن تلك الذرة العتيقة الكامنة الجاذبة على الرغم من التنوعات والتنويعات والتناقضات أحيانـًا.

والتوقف عند هذا المفصل من التماهيات ليس مجرد سياحة أو سباحة في مسافة الانزياحات بين الحقيقة والمجاز وليس مجرد علاقات افتراضية ولكن ثمة ذرة عتيقة كامنة في تلافيف الموروث، ذرة تجيء من التاريخ السحيق ومن قصة الخلق تحديدًا حيث أن تنوع الدلالة في كلمة "تضحى وتعرى" في الآية الكريمة:{ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} تنوع ثري وعميق من حيث الارتباط من جهة بالعري ومن حيث الارتباط من جهة ثانية باللغة والبيان والاستمرار والخلود. ففي ذلك التنوع والثراء في الدلالات المتشابكة ما يجعل أشهر تفسيرين للشجرة المحرمة يرتبطان ايضـًا التفسيرين اللذين يقول أحدهما ان الشجرة هي شجرة المعرفة والتفسير الآخر الذي يرى ان الشجرة ليست إلا اكتشاف الغريزة الجنسية واكتشاف الانسان لجسده وكلا التفسيرين يسوقان كلا من طريقه ورؤيته الخاصة إلى قضية الخلود والاستمرار وإدراك الصيرورة وامتحان الجواهر و الاعراض.

ان هذا الغنى والثراء والتداخل بين العري واللباس من جهة وبين اللغة والمعرفة والغواية والكشف والانكشاف من جهة ثانية ولاسيما في قصة الخلق وفي آيات الخلق وفي كلمة (تضحى) بالذات موضوع يطول الحديث فيه ويتشعب وهو موضوع دراسة لي ليس هذا موضع الإفاضة فيه لكن كان هذا الاستطراد الذي امتد على مدى اربع مقالات ضروريـًا للتخفيف من كثافة لغة المقالة المعنونة بـ"ذئب التلافيف" وللتخفيف من بعض تلافيفها المغوية!! وتلك واحدة من المشكلات التي قلما نجا منها الكتاب حينما تتحول نصوصهم الى اجساد تخترقها مشارط التأويل المحول والتأثيم حينها لا يدرون هم انفسهم كيف يفيئون بنصوصهم الى ملابس تدثرها من كثافة الصوت إلى كثافة الجسد ومن كثافة الجسد إلى كثافة الصوت دون هاجس الخطيئة: خطيئة الكتابة!!