الصفحة الرئيسية
 /  
قول في الهيولى والشعار
 /  
رجوع

قول في الهيولى والشعار


كنت أتحدث في الحلقة الماضية عن اللغة واللغة الدثار وعن اللغة الاولى وعن النفخة الالهية في منابعنا القصية، وألمحت إلى اللباس الاول والى النبع النوراني الشفاف، إلى لباس النور الذي فقده ابوانا وخلعاه في الجنة فظل البشر بعدهما مسؤولين عن الكشف وتحمل تبعات الكشف والمعرفة، ظلوا مسؤولين عن تخفيف الظلمات والتخفف من الكثافة الجسدية واكتشاف مفاتيح الوجود وشفراته.

 

فمنذ الهبوط الأول ترافق الفضول ورغبة التجريب والكشف بالتجاوز والاختراق، وانتهت الحياة في الجنة بالخروج لتبدأ الحياة في الأرض بالتكليف والعودة.

ان اكتشاف الانسان لنفسه واكتشافه للوجود من حوله ارتبط دوما بالشهوة المعرفية، لكن التجريب الأول والمعرفة الاولى كانت مرتبطة باللبس والالتباس، بالعري والعقاب باستلاب لباس النور(1) والمرور بالتالي – بالعري ثم المضي طوال الوقت– لاختراع أنواع اللباس والمسوح والرياش وأصناف الحجب!!

وربما من هنا كنا نصادف عبر العصور ان القلق الديني والوجودي والفلسفي يترافق غالبـًا عند المتدينين والزهاد والنساك والفلاسفة والحكماء باتخاذ أنواع من اللباس و التزييّ بأزياء خاصة، حيث ارتبط الزهد والتصوف بالتخفف من الزينة وارتبط بالأسمال والخشن من الأصواف، مثلما ارتبط الحكماء بمسوحهم، وارتبط الفيثاغورثيون بزيهم الأبيض كشعار بسيط متقشف.

وكلمة شعار ذاتها مثلما تعني كل ما كان من شجر وفي لين و وطاء من الأرض يحله الناس تعني ايضا ما يلي جسد الانسان ويلتصق به من الثياب وتعني في الوقت نفسه العلامة و الاشارة التي تميز فئة ما أو شيئا ما على اعتبار ان الشعار رمزها ويمثلها في نوع من التماهي وينوب عنها كصوت أو علامة!!

ولعل هذا يقرّب التعالق المشار إليه في المقالات الماضية بين اللباس واللغة والكشف المعرفي و الابداعي والتميز و البصمة الخاصة، فكما ان الشعار هو نوع من الثياب هو أيضا التماهي والاتحاد وهو أيضا الاعلام ومن هنا جاء معنى الشعارات والشعائر كذلك، فشعائر الحج هي علامات مثلما هي ممارسات سلوكية روحية وتعبدية ولغوية في الوقت نفسه وليس من باب المبالغة أن أجعل الشعار معادلا للغة والكلام، فقد جاء أيضا في الحديث: " إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مزأمتك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج".

وهذا هو شعار الصوت وصوت الشعار ونداء المشاعر ومن هنا أيضا يأتي جذر كلمة المشاعر والأحاسيس مختلطا من كل هذا، حيث الشعور لا يأتي منفصلا عن المعرفة والعلم وإدراك الوجود، فالجذر اللغوي واحد لكل هذه التنويعات التي تتعالق بقوة وتتداخل بشكل يجعلنا نرى كيف ان الشعر ايضا، هذا الفن القولي الرائع يمتد إلى جذر معرفي، حيث شعر تعني علم، وحيث تسمية الشاعر كذلك لأنه يعلم ويتنبه لما لا يتنبه له غيره حسب تعريف العرب في معاجمهم له.

فموضع الذات إذًا في وجودها الخاص و تموضعها في الوجود الخارجي تموضع يتحرك في كثافة الشعور وكثافة المادة وكثافة الصوت، وتحرك الأنا الشاعرة تحرك للتخفف مما يلتصق بشعارها ودثارها، تحرك في الكيان اللغوي والوجودي بين الهيولى والصورة، بين الممكن و المتحقق دوران في الخروج والاغتراب ثم النكوص والعودة، سعي محموم للتخلص من قولبة المادة وكثافة التجسد والتجسيد إلى رهافة الهيولى وشوق الخلق من التجريد.

 

 


(1)  قولي لباس النور ليس وصفـًا شاعريا بل يتعلق الأمر بواحد من التفسيرات النادرة للملابس التي نُزعت عن أبوينا كما جاء في الآية القرآنية: "يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما..." وهو قول لوهب بن منبه ورد في تفسير ابن كثير.