عقرب


 يبدو مريد البرغوثي في قصيدته (قرب الوسادة) التي نشرت في جريدة  الحياة الثلاثاء 18/11/1423هـ - 21/1/2003م يتلكأ في الخروج من صدمة الصحو ، تلك الصدمة التي يحسها الحزين حينما يباغته الصحو ، ويخرجه من النوم اللذيذ الذي كان عبره يهرب لساعات من الوعي الشقي بالعالم . طبعًا هذا الكلام لم تقله القصيدة مباشرة ، ولكنه فراغ يمكن للقارئ ، بعد رشفة القصيدة أو رشفاتها ، أن يملأه . إنه الصحو المتربص بنا ، حتى لا أقول الزمن المتربص بنا ، لأن الزمن بدون الوعي به لا يؤثر ولا يفعل شيئًا . لذا يمكن معادلة الوعي أيضًا بالحكمة  أو الخبرة التي يجبرنا على حملها الوعي ونحن نَهدر (من الهدير) بجزازات الزمن وهو يهدر بنا ، ويُهدر (من الهدر) ما يُهدر منا ، فيَلفعنا عقربَ الوقت بسمومه ، تلكَ السموم التي قد لا تميت ، ولكنها قد تسلبنا الحياة الصحيحة ، بما ترشحه فينا من وعي مثقل هو أشبه بالمرض ، أليس السم إذ يمازج الدم نذير المرض إن لم نقل نذير الموت . ؟


إذًا ما الذي يريد أن يقوله مريد وهو يدني عقربه منا ؟ ما الذي يريد أن يقوله مريد وهو ينسج خيطين خيطين في القصيدة : خيط من التفاصيل البسيطة المعيشة يوميًا ، وخيط يمسك باليومي ويمده إلى الكارثي والدرامي في عمق الخبرة التي تتكشف مع  مزيد من الأيام ومزيد من البدد والجهد العقربي ؟ يفتتح مريد قصيدته بقوله :

          " هو عقرب قرب الوسادة

          لا يراوغ ، لا يفسر ، واثق

         من نبل مهنته

          ويجهل قلبنا ، ولكن يلاحقنا ،

          ويبدي رأيه فينا

         يقسمنا على ضرباته

        ويصوغ تعريف العدالة بيننا

        عيناه خاليتان من مرض البصيرة

        حين تلتفتان

       ترتجلان نظرته الركيكة ثم

      ترتجلان حجم خلودنا " .

          هذا العقرب الذي لا يراوغ الواثق من نبل مهنته بعينيه الخاليتين من مرض البصيرة (وليلاحظ القارئ كيف أن الوعي الذي يؤول إلى ما نسميه الحكمة والخبرة مرتبط هنا بالمرض أو السم الذي ينفثه عقرب الساعة أو الوقت ) هذا العقرب يرتجل ارتجالاً ما يفعله فينا من أفاعيل ، هاهو :

 " و يمر في مستقبل اللذات يلدغ

 ما نوينا أن نحققه

 غدًا أو بعد شهر أو سنة

 وسيلدغ النغمات

 وهي تلملم الغنمات للراعي

 وتسقط نايه العرقان عن شفتيه

 يلدغ كفَّ جرأتنا على أيامنا

 ووقاحة استعدادنا للفوز . "

          ويواصل مريد سرد حركة هذا الوحش الداب في حقل الأيام ، فهو لا يهمل شيئًا ، يلدغ دمية الدب في حضن ليلى ، ويلدغ ما على ظهر الفاكهة من ندوب لا تراها العين ، وهي صورة جميلة مدهشة يلتقطها مريد ، ويلدغ ثنية الكم الذي ينحسر اللحاف عنه ، حتى بقعة الشمس التي اندفعت من الشباك وانكسرت على حرف السرير ... بعد أن يسرد مريد حركة هذا الدّاب في التفاصيل كلها ... وفي الأشياء البسيطة , المعنوي منها والعيني المحسوس , يمزجه بالذي سلف من تواريخ السم واللدغات ، وينساب مريد خفيفًا ـ دون أن نشعر بالانتقالة ـ إلى المأساوي العام ، والتاريخي المفجع من تاريخ المراثي واللذعات التي تتناسل ولا تتوقف ، يقول :

          " ويلدغ ثنية الكم الذي

 انحسر اللحاف ـ الآن ـ عنه

 وبقعة من شمسنا اندفعت من الشباك

 وانكسرت على حرف السرير

 وقطة النعس التي استرخت

 على آذار شرشفنا ، ويلدغ

خطنا الكوفي في إفريز متحفنا ، ويلدغ

 ما حفظنا أو نسينا من مراثينا ، ويلهث

 في انتظار جميع من لم يولدوا . "

          ويمكن لخيال القارئ أن يذهب كما يريد في التفكير بحركة هذا العقرب النابضة ، وبشكل الساعة الرابضة قرب الوسادة ، بتشكيلها الحسي والحروف والأرقام المكتوبة على لوحتها ، لكنه لا شك سيفكر بلدغة العقرب لخطنا الكوفي ، وربما سيذهب خياله إلى لوحة الساعة بما تحويه من أرقام وحروف قد تكون الضد ثقافيًا وقد كتبت بحروف وأرقام غريبة عنا وعن ثقافتنا . هذه هي المفارقة التي تطرحها ساعة قرب الوسادة بهذا الزمن المحشور والذي يحشرنا رغمًا عنا فيه بسيال نابض لا يتوقف , سيال هو سم منساب يكتسح الهوية والماضي ( يلدغ خطنا الكوفي وإفريز متحفنا ) ويلهث راكضًا نحو مستقبل لم يولد بعد ، تلك المفارقة وذلك الانهيار الكامل والحزن الغامر هو الذي يجعل مريدًا في آخر القصيدة يقرر أن المعجزة الوحيدة التي تنجو من الوحش الداب ليست سوى معجزة صغيرة ، لا تزيد عن تجريب تحية الصباح في أفواهنا :

          " هو عقرب في البيت

       قرب وسادة العمر القليل

       وسادتي ووسادتك

     لم يُبق أعظم من " صباح الخير  "  معجزة

       تلامسها   على خدر  " صباح النور " "

          هكذا بين بداية القصيدة وخاتمتها ، بين عقربي لوحة الساعة بجوار السرير تكتمل الدورة الزمنية للنص وتكتمل لوحة القصيدة ؛ إذ تنكشف لمريد فداحة ما يحدث ، ويحصر بين عقربين ، سموم العقرب فيما مضى ، يحصر ما استطاعت خبرته الباقية أن تراه ، وتتعرف فيه على ما لم تكن  من قبل قادرة على رؤيته أو على تَعرف تحوله . وهي لحظة أرسطية وأوديبية بامتياز ؛ إذ تنجلي للبصيرة ولوقائع  حياة المرء نقاط تعرف وتحول كارثية يكتشفها رغمًا عنه وبعد فوات الأوان . وهي لحظة تنوير متأخرة مفاجئة , تشبه لقطة الشاعر وهو يستيقظ فجأة بسبب محددات ونقاط التحرك في ساعة منبه قرب الوسادة حيث المنبه يلدغ مواطن الغفلة , ويحدد ندوب الخبرة الجديدة !!

          لكن وإن كانت القصيدة مغمورة في عتمة الحزن الكثيف من الإحساس بالعجز أمام دبيب العقرب ودبيب سمه إلا أن ذلك ظاهر فقط على سطح  المعنى المباشر للنص ، إذ المعجزة الصغيرة "صباح الخير" التي أراد مريد لها أن تنجو تحمل دلالتها العميقة ؛ فهي تمثل الممارسة اللغوية البسيطة للإنسان بوصفه كائنًا لغويًا في الأساس ، ولكنها ـ على بساطتها ـ تناهض الحزن والاضمحلال ، وتفتح نافذة صغيرة وسط الاكتئاب والسواد ، نافذة تؤكد بحضورها ، أن القول والإبداع يناهض الموت والحزن ، ويمكن أن يقاوم سموم الاستلاب ، وإلا كيف أمكن لهذا النص البرغوثي الجميل أن ينجو من عقرب قرب الوسادة ، ويعدو قليلاً ـ قليلاً فقط ـ بعيدًا عن النواح والرثاء ، ولكن أيضًا  بعيدًا عن الفرح المجاني المحقون بالوصايا  البلهاء !!

          مريد يعدو بنصه هذا بعيدًا عن هذين ـالنواح والفرح ـ لأنه ليس معنيًا بهما بشكل مباشر ، هو معنى بهذا التشكيل الشعري وبانتزاع الصورة مغموسة في أساه ، ولا شك أن مريدًا نجح في استثمار مفردة عقرب الساعة ، ومدّها عبر زمن القصيدة الشعري ؛ لتغور وتدور وترن وتتألق في تفاصيل صغيرة ، وفي هموم إنسانية عامة . وهي هموم أجزم أن كثيرين قد لامسوها ببعض من هواجسهم مع لدغة العقرب صباح كل يوم ، ولكنهم لم يستسلموا للدغة عقربها الشعري مثلما فعل مريد ، ولذا حق لمريد أن يطفو قليلاً فوق الوقت , وينجو بقصيدة بقي قرب نبضها الجميل ودبيبها المريب , وليس بقرب عقرب يرن دبيبه قرب الوسادة كما يعلن العنوان .

 

                               نص قصيدة ( الوسادة )

                                  لمريد البرغوثي

 

هو عقربٌ قرب الوسادة

لا يراوغ . لا يفسرُ . واثقٌ

من نبل مهنته

ويجهل قلبنا ، لكن يُلاحقنا

ويُبدي رأيهُ فينا

يُقسمنا على ضرباته

ويصوغ تعريف العدالة بيننا

عيناهُ خاليتانِ من مرض البصيرة ،

حين تلتفتان

 ترتجلان نظرته

الركيكة ثمّ

 ترتجلان حجم خُلودنا .

هو عقرب

آت من الخلل السماويّ المُحيِّر ـ

كيفً نعرف ؟ ـ أم ترى

هو خوذة تسعى بها ألغازها

لتقيم مملكة العقارب في قميص حياتنا

متشبث بوضوح كتلته ،

يمس غطاء مصباح السرير

يجسّ تكتكة الثّواني في سكوت مُنبه

كنّا ضبطنا عقربيه على تمام السابعة ،

ويمرُّ في مُستقبل اللّذات ، يلدغُ

ما نوينا أن نحققه

غدًا ، أو بعد شهرٍ ، أو سنة ،

وسيلدغ النغمات

وهي تلملم الغنمات للراعي

وتسقط نايه العرقان عن شفتيه ،

يلدغ كفَّ جرأتنا على أيامنا ،

ووقاحة استعدادنا للفوزِ

يلدغ دمية الدب التي في حضن ليلى

واعتياد الأم أن تصحو على قلق ٍجديد

 كي تليق بها أمومتها ،

ويلدغ ما على ظهر الفكاهة من ندوب

لا تراها العين ، يلدغ

ما على شفة  المراهق من ذهول

 القبلة الأولى ، ويلدغ

ما نخبئ من سلاح دامع أو مضحك

 ضد المخبأ من مصائرنا

ويلدغ ثنية الكم الذي

انحسر اللحاف ـ الآن ـ عنه ،

وبقعة من شمسنا اندفعت من الشباك

وانكسرت على حرف السرير ،

وقطة النعس التي استرخت

على آذار شرشفنا ، ويلدغ

خطنا الكوفي في إفريز متحفنا ، ويلدغ

ما حفظنا أو نسينا من مراثينا ، ويلهث

في انتظار جميع من لم يولدوا

هو عقرب في البيت

قرب وسادة العمر القليل ،

وسادتي ، ووسادتك .

لم يُبق أعظم من " صباح الخير " معجزة

 تلامسها ، على خدر ، "صباح النور "

واطمئناننا الغالي

لبكرج قهوة يغلي ،

على مهل ، وفنجانين ،

 شكرًا للحياة ،

أمامنا يوم قوي آخر ، يوم قليل آخر

سنجر كل دقيقة من صبحه ومسائه

كالثور في شبق الحراثة ، ثمّ

 نزرع كوكب الله الصغير

بما سنترك فيه من ورد، ومن حزن

فشكرًا للحياة ، الآن ، 

من شبرٍ إلى شبرٍ نحاولها

وشكرًا للحياة !