الصفحة الرئيسية
 /  
الظل و المترسب 1
 /  
رجوع

الظل و المترسب 1


تناولت في كتابي ( الظل : أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية ) عددًا من المسائل المعرفية والإبداعية انطلاقًا من فكرة الظل . وفي الفصل السادس المعنون ( الظل واللغة والكتابة ) ركزت على الظل بوصفه علامة . وفصلت الحديث عن مفهوم السيمولاكروم , وتوقفت مطولاً عند العلاقة الوثيقة التي جعلت عددًا من الفلاسفة والمبدعين يربطون منطقة الإبداع في اللغة والأدب والفن إجمالاً بما يمكن تسميته منطقة الظل ، وفصلت الحديث عن عبارات مثل ثغر الظل  ، وظل النص ، والظل السائر ، ومفهوم الإبداع والكتابة المرتبطين بالظل عند كل من ( هيجو , وبارت ، وكيفيار ، ونوردساني ، وميرلوبونتي ) وقبلهم عند (دريدا وجوليا كريستفيا ) . وقد كان من قبلهم جميعًا التوحيدي ( أبو حيان ) قد ربط الحدس والإلهام بمنطقة الظل في النفس الإنسانية .


وما يدعوني اليوم للعودة إلى هذه الجزئية هو أن تلك المسألة كانت مجرد فصل في الكتاب وهو فصل يحمل في طياته مشروع كتاب قادم أخصصه لهذه المسألة  العلمية بإذن الله . وسأشير في هذه المقالة إلى بعض مما سأتناوله في المشروع القادم حيث سأناقش كتابًا بعنوان (عنف اللغة ) لجان جاك لوسركل ، وهو كتاب مهم ترجمه الدكتور محمد بدوي , وراجعه الدكتور سعد مصلوح . والفكرة الأساسية التي يناقشها الكتاب هي فكرة المتبقي أو المترسب . حيث يركز لوسركل على جانب من اللغة يسميه ( المتبقي ) , وهو جزء يروغ من قواعد النحو , ويتفلت من قوانين الألسنية . ويرى لوسركل أن هذا الجانب هو الذي يبرع فيه المبدعون والشعراء والمتصوفة وغيرهم . ومع أن هذا الجانب لا يسير وفق قوانين اللغة إلا أنه _كما يرى لوسركل _ يغني اللغة , ويرفدها , ولا يهدمها .

وتقوم فكرة لوسركل على نقد الفصل الحاد بين نظام اللغة والمتبقي حيث يرى أن نظام اللغة ليس هو اللغة ككل بل إن الكثير من الأنشطة الإبداعية في اللغة تقع خارج هذا النظام ، ولذلك فالمتبقي ليس فضلة خارج نظام اللغة بل هو من طبيعة هذا النظام .

ولا شك أن منطلقات لوسركل تفيد كما يؤكد هو نفسه من رواد سبقوه في تناول أجزاء من هذه الفكرة أمثال : ( فرويد ، ولاكان  ، ودولوز  ، وياكبسون ، وغواتاري ...وغيرهم ) . ولعل من أبرز تلك الإفادات استثمار ما طرحه فرويد حول زلات اللسان والنكات ؛ حيث يعقد لوسركل مقارنة مفصلة بين العقل الباطن الفرويدي وعمله في النفس وبين المتبقي وعمله في اللغة ككل حيث يرى أنهما " يتشابهان من حيث فوضويتهما الخلاقة وعصيانهما للأعراف والقوانين وابتهاجهما بذلك . "

ويقدم لوسركل أمثلة من بعض الخطب والشعارات والإعلانات التجارية وغيرها , ويوضح أنها أمثلة تعكس عنفًا واقعًا على اللغة ، وهو ما يعكس عنف اللغة نفسها . وهذا العنف قد يتمثل بأي استعمال لا يجيزه نظام اللغة مثل استعمال الاسم فعلاً , ويصل بعد ذلك إلى نتيجة مؤداها أن ذلك الجانب من اللغة الذي يسميه المتبقي ليس ذلك الجانب الغامض الواقع خلف حدود اللغة , بل هو ظلها الملازم وجانبها الآخر .

ولفكرة المتبقي عن لوسركل علاقة قوية بمفهوم الترسب . وهو مفهوم متغلغل في الفلسفة والفكر اللغوي والسياسي والأدبي ، وهو ما سأتوقف عنده في المقالة التالية  .