الترجمة بين والإبداع والتأويل
دراسة في كتاب الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية
د. خليفة الميساوي
قسم العربية / كلية الآداب/ جامعة الملك فيصل
تطرقنا في هذا البحث إلى علاقة الترجمة بالإبداع والتأويل من خلال كتاب الظل المتضمن لقضياه المعرفية والإبداعية وكيفية ترجمتها إلى الفرنسية ترجمة حافظت على هذه الأبعاد المتضمنة في العنوان وعلاقتها بالممارسة الترجمية التأويلية التي تتبعنا مسارتها في هذا البحث من خلال نماذج قدمناها باللغتين العربية والفرنسية، فقمنا بتحليلها ومقارنة معانيها بين النصين، ثم بحثنا عن مواطن التأويل فيها فأبرزناها للقارئ من خلال بعض الأفكار المتعلقة بمفهوم الظل ومعانيه في الثقافتين الشرقية والغربية. فوجدنا أنّ عملية الترجمة الإبداعية تمر بمراحل لسانية وثقافية وحضارية لابدّ من اتباع التأويل فيها لإفهامها للقارئ في لغة هدف دون التخلي عن المقاصد في النص الأصلي.
تؤكد نظريات الترجمة أنّ عملية الترجمة لا تخلو من الأبعاد الإبداعية والتأويلية باعتبارها تجمع بين العلم والفن، فيرتبط التأويل بالفهم ويرتبط الإبداع بالتصور وهما عمليتان متلازمتان في التواصل اللساني الذي يسبق عملية الترجمة، بل هما شرطان أساسيان يتحكمان في صحتها وجودتها. ويخضع معنى الظل للتعدد حسب اللغات والثقافات والحقبات التاريخية التي أكدت عليها الباحثة في كتابها . وسنعالج من خلال هذا البحث عدة إشكاليات تتصل بتعدد معنى الظل بين النص الأصلي والنص الهدف انطلاقا من العلاقات الرابطة بين النصين ترجمة وإبداعا وتأويلا. ويطرح تعدد معاني الظل تساؤلات معرفية سعت الباحثة إلى الإجابة عنها من خلال تتبع المسار التطوري الدلالي في ثقافات مختلفة، "فلقد سعى هذا الكتاب في حفره المعرفي إلى توصيف المقولات حول الظل وسعى للكشف عما كان ثمة وحدة كلية تجمع تفكير الثقافات حوله على تنوعها وامتدادها وسعى من بعد ذلك لإبراز بنية الظل وهويته كما عكستها تلك المقولات في الحقول الإنسانية المختلفة" ( الوهيبي،2008، 9). وقد ربطت الباحثة فكرة الظل بالامتداد والتضاعف والتناسل و بالحركة والزمن و بالأصل والفرع و بالدين والوجود والنور العظيم المطلق وانعكاس ظله في الواقع. وسنسعى إلى تتبع هذه المعاني في النص المترجم ثم نبرز علاقتها بالإبداع والتأويل من خلال بعض النماذج المختارة من الكتاب، فنركز على عدة مستويات لغوية وثقافية وتأويلية لدراسة هذه العلاقات الرابطة بين معاني الظل في النص العربي وفي النص المترجم إلى الفرنسية.
ترتبط الترجمة بالفكر والفهم والتأويل[1] ، إذ تمثل هذه المستويات الثلاثة المنطلقات الأساسية لأية عملية ترجمية إبداعية ، ففي هذه الحالة نتخلى عن مفهوم النقل الحرفي والمتابعة الخطية للنص على مستوى البنية المعجمية والتركيبية ونتجاوزها إلى المستويات الإنتاجية الدلالية والبرغماتية، فنبحث في أبعادها المتصورية والمفهومية، وهو ما سيقودنا إلى الفهم والتأويل على أساس الأفكار التي يحملها النص ويمكن الوصول إليها عبر المستويات اللسانية وغير اللسانية للنص[2] ومن هذا المنطلق تعتبر الترجمة كتابة ثانية للنص[3] باعتبارها تأويلا لخطاب فوق خطاب وإعادة كتابته بطريقة إبداعية. وكذلك من أهداف الترجمة الإبداعية إيصال فكر الآخر، ولهذا السبب لا نستخدم النظام الدلالي وحده في اللغات لإيصال الفكر الإنساني، إذ يستدعي ذلك نظاما إبداعيا يراعي الجوانب الحضارية والثقافية للشعوب المترجم إليها، فتقتضي نظرية الترجمة الإبداعية التخلي عن الترجمة التقابلية القائمة على نقل المقابلات اللغوية والبحث عن ترجمة المتصورات والمعاني بطريقة تتسم بالوضوح والدقة، " فكلما أحسن الترجمان فهم ما يقال حمله ذلك على الابتعاد عن صيغ النص الأصلي واهتدى سبيله إلى عبقرية لغته وعفوية التعبير التي تتيح له إفهام الأفكار جلها بوضوح" (سيليسكوفيتش،2009 ، 148). وتقوم الترجمة الإبداعية على إدراك المعاني في أفقها الدلالي الذي يحمله النص الأصلي، وبالتالي فإنّ هذا النوع من الترجمات القائم على التأويل يحتاج إلى نظرية في المعنى يرتكز عليها حتى يبني خطابا تأويليا، باعتبار أنّ " الفرضية المؤسسة لنظرية المعنى هي التي ينبغي أن تؤسس كذلك أي نظرية في الترجمة وأي نظرية في الخطاب" (سيليسكوفيتش،2009، 118).ففهم النص وتحرير معناه من ثوبه اللفظي وإعادة التعبير عن هذا المعنى يتطلب سمات التفكير الترجمي والفهم والاستيعاب والتأويل والبحث عن المعنى الضمني وليس المباشر وهو ما يفترض تجاوز الترجمة اللفظية والمكملات المعرفية للخروج من النص إلى الخطاب والتعبير عن القصد الدلالي[4] الذي يكمن في علاقة الدال بالمدلول.
يبحث المترجم عن المعنى المقصدي خارج اللغة فيتكوّن المعنى الذهني القصدي قبل التعبير عنه بالكلام، فتقدم الترجمة من خلال هذا البحث عن المعنى نصا مبدعا كأنّه لم يترجم تختفي فيه أثار النص الأول، فلا نترجم المدلولات بصفتها مدلولات وإنما نترجم المعنى الذي تتيح التعبير عنه. ولا تحمل اللغة إلا جزءا من المقصد وعلى المترجم أن يكمل بقيته بتصوراته المعرفية وسعته الثقافية. وتختلف مضمرات لغة ما مع لغة أخرى ولا يكون التطابق المفهومي بصورة آلية، وهنا تكمن مهارة المترجم الذاتية في ترجمة المعاني لا نقل المطابقة اللغوية بين اللغتين المصدر والهدف. فيتم الدخول إلى النص عبر التأويل وسعة المترجم الثقافية لضبط المعاني الأنطولوجية له، ثم من بعد ذلك تأتي المعاني الحصرية الخاصة بالترجمة، وهو ما تفرضه عليها السياقات الحافة بعملية الترجمة من سياق لغوي وسياقي ثقافي وحضاري.
وتقوم الترجمة الإبداعية على نقل مقصد المبدع ومنطق الإبداع في اللغة الهدف وليس على البحث عن المتقابلات اللغوية في اللغتين، ولتحقيق التعادل بين النصوص لابدّ من المرور بعملية ذهنية استيعابية تركز على الأفكار التي تعبر عنها الأقوال بدلا من التركيز على الأقوال في حد ذاتها. ولكي يتوصل المترجم إلى مرحلة الإبداع " فإنّ فصل الشكل والمعنى وإيثار التعبير عن المعنى على نقل المدلول الأصلي وإثبات أنّ العملية الترجمية تتضمن ثلاث مراحل هي : الخطاب الأصلي _ تحصيل معنى وحدات الترجمة - التعبير عن هذه الوحدات في خطاب جديد تشكل جميعها كلا يصعب نقله على من يرى في الترجمة عملية تستند إلى اللغات مستبعدة بالتالي الفاعل المتلقي الذي يقوم مع ذلك بدور فعال في إدراك المرسلة وإعادة التعبير عنها."( سيليسكوفيتش، 2009 ، 148). ولتجاوز هذه الصعوبة فلابدّ من إضافة طرف رابع إلى جانب إدراك هذه المستويات الثلاثة وهو القارئ المعني بالإبداع والطرافة وحسن الاستقبال للمعاني وإدراكها إدراكا يتجاوز به مفهوم القراءة البسيطة إلى القراءة المنتجة والمجددة للمعاني عبر سيرورة التأويل، ولذلك " بدل أن يبقى المترجم حبيس سلطة النموذج، نموذج كاتب النص الأصلي، يتحول إلى القراءة/ التأويل، إلى مجموعة نصوص لا متناهية، تخرج من كونها إبداعا أو إنتاجا مكتوبا إلى ما هو منتج ثقافي فيتماهى النص/ الإبداعي في الثقافي /الحضاري" (أحمد إبراهيم، 2009، 23).
وتتطلب العملية الترجمية الإبداعية التأويل لفهم المعنى وإعادة إنتاجه في ثوب لغوي آخر، وحتى تكون عملية الإبداع ممكنة وجب المحافظة على عبقرية كل لغة حتى يشعر القارئ بالمستوى اللغوي الراقي وتمحي أثار الترجمة في لغة إبداعية جمالية تفي بوضوح المعنى، فتقدمه في أسلوب واضح ودقيق. فلا تقدم الكلمات المقتطعة عن سياقها إلا دلالات افتراضية وكذلك الجمل، إذ " أنّ تعدد المعاني والغموض يميزان كل تركيب لفظي خارج السياق ويزولان عندما توضع الجملة في مجرى الخطاب" ( لودورير، 2009،ص 32). ولذلك تعتمد الترجمة الإبداعية على إعادة إنتاج التراكيب وفق سياقها المحلي داخل النص المترجم، وكذلك وفق سياقها التأويلي المنتج لدلالة النص عبر عملية المفارقة للنص الأول على المستوى اللفظي والتركيبي وإنتاج دلالته بصيغة جديدة تتلاءم وظروف التقبل ومعطيات اللغة المترجم إليها في المستوى الإبداعي وليس اللساني وحده. فتتجاوز القراءة الجانب اللساني للنص لتدرك معانيه ومقاصده البرغماتية المرتبطة بالإنتاج والفهم والتأويل. وهي مستويات تتجدد بتجدد القارئ نفسه، فتصبح عملية " الترجمة تحولا وتجددا وترحالا وانفتاحا وتلاقحا وتكاثرا وحياة، بهذا المعنى فإنّ المترجم مبدع مؤلف والنص المترجم يحاكي عملية الإبداع التي تحاول انطلاقا من اللغة المألوفة ... أن تعطي الحياة للغة مغايرة" ( أحمد إبراهيم، 2009، 32).
وتبلغ عملية الحياة مداها في الترجمة بالقراءة التأويلية الإبداعية التي يتحوّل فيها المترجم إلى مبدع فيحرر النص من قيوده الإنتاجية الأولى ويحوله إلى عملية إبلاغ ناجحة تتمكن من الترجمة التواصلية التي يمكنها القطع مع الغموض المعنوي عبر التفاعل مع النص المنتج تأويلا وفهما وإبلاغا ،إذ " أنّ نية الإبلاغ التي يبنى الكلام على أساسها هي وحدها التي تحرر الكلمات من تعدد المعاني والجمل من غموضها، وتشحنها بمعنى ما" (لودورير ،2009 ، ص 32). فالهدف من الترجمة الإبداعية ليس الحصول على متقابلات لفظية بل الحصول على المعنى حينما نضبط علاقته بالخطاب/النص. وبالتالي فالمستوى اللساني لا يهم المترجم بالدرجة الأولى بقدر ما يهمه فهم المعنى وتأويله ونقله على الوجه الصحيح. وتكمن العملية الإبداعية في الترجمة في فهم المعنى وإفهامه والتعبير عنه بشكل لساني لا يخلو من أسلوب جمالي يروق للقارئ ويستحسنه. " ولذا لابدّ من أن نتخطى مقارنة المدلولات وأن ننتقل من اللغة إلى مستخدمها ونأخذ بالحسبان دافع القول والسياق المعرفي الخاص بالمتكلم. عند ذلك فحسب، سنتمكن من التعبير عن معنى الكلام في لغة أخرى فنكون قد ساهمنا بأنسنة نظرية الترجمة" (سيليسكوفيتش ، 2009، 150). فالترجمة الإبداعية هي التي تتجاوز مفهوم النص إلى مفهوم القارئ، فتقيم المعادلة الصعبة التي عجزت عنها الترجمات الأخرى وتحقق البعد التأويلي للنص، فتحوله إلى معان مناسبة للقارئ ولثقافته، هذا ما سنختبره على معاني الظل في الثقافتين العربية والفرنسية.
ترجمة العنوان " الظل أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية"
"L'OMBRE: ses mythes et ses portées épistémologiques et créatrices".
لقد اعتمد المترجم في ترجمته للعنوان على الجمع بين المعنى المعجمي ( الحدود التصورية للكلمات) والدلالة اللغوية القائمة على التأويل، فترجم كلمة الظل ب L'OMBREوهي المقابل المعجمي لها في المعاجم الفرنسية ولكنه وسع رؤيته التأويلية في كلمتي " امتداداته المعرفية" فترجمها ب " ses portées épistémologiques " مما جعله يدرك المعنى المقصود لكلمة " معرفية" أي أنها ليست مجرد معرفة وإنما هي حفر في الجذور والنشأة لمفهوم الظل عبر الأديان والحضارات والثقافات المختلفة وهو ما يجعل الترجمة تتماشى مع روح الكتاب المترجَم.
" جاء عند العرب قديما " يقال للرجل إذا مات ضحا ظله لأنه إذا مات صار لا ظل له" وهذا مرتبط بالروح وعلاقتها بالحياة والخلود وخروجها من الجسد". (الوهيبي،2008، 25).
Anciennement, chez les Arabes, "on disait de tel homme qui venait de mourir: " son ombre s'est effacée" car en passant de vie à trépas, il n'avait plus d'ombre" Cela était lié à l'âme quand elle venait à quitter le corps, à son rapport à la vie et à l'immortalité. (Al-Ouhibi, 2011, 25).
ارتبطت فكرة الظل بالموت وبالحياة في هذه الفقرة، وذلك من خلال وجود الظل أو غيابه، ويرتبط هذا الأمر بالجسد وغيابه، فغياب الظل يعني الموت. وقد وفق المترجم في نقل هذه المعاني إلى القارئ الفرنسي باعتبار أنّ الموت ظاهرة إنسانية ولا تستدعي خصوصية ثقافية على الأقل من ناحية استيعابها كفكرة وجودية.
" وحينما يقال إذا مات الإنسان: ضحا ظله، ويقرر العرب معنى ذلك بأنّ الظل صار شمسا فهذا يعني مآل الظل إلى أصله، إذ هو في صيرورته شمس يدخل منطق العماء، يقول ابن منظور: " الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع، فإذا لم يكن ضوءا فهو ظلمة وليس بظل" (الوهيبي،2008، 54-55).
Dans le texte déjà cité d'Ibn Mandhour, attire notre attention cette assertion: " Quand un homme meurt, on dit de lui: "son ombre s'est effacée". Or, celle-ci s'efface lorsqu'elle se confond avec la lumière du soleil, ce qui signifie par là même que l'homme est passé de vie à trépas" (Al-Ouhibi, 2011, 50).
تمثل علاقة الظل بالضوء علاقة فيزيائية ملموسة وقد أدرك العرب قديما هذه العلاقة، فاعتبروا أن امحاء الظل لا يكون إلا بالنور وخاصة نور الشمس الذي يمحو الظل من الوجود ليأخذ مكانه في الوجود، وبالتالي فمحو الظل من المكان وتعويضه بالنور يتكون من علاقة جدلية مفادها أنهما في حالة صراع على المكان، فيلغي الواحد الآخر، وهي علاقة نفي وحضور تبنى على التقابل بين الموت والحياة. وقد أدرك المترجم هذه العلاقة فترجمها ترجمة موفقة.
" جاءت في سورة الفرقان جملة آيات في سياق الحديث عن الخلق وآيات الله فيه. يقول تعالى:" ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا" (الوهيبي،2008 40-41)
Dans la sourate Al- Furqân (Le discernement), plusieurs versets s'inscrivent dans le contexte évoquant la création et les miracles divins qui l'illustrent. Dieu y dit: "Ne vois-tu pas comment ton Seigneur allonge l'ombre? Et d'ailleurs, s'Il voulait, Il la rendrait immobile. Mais Nous fîmes du soleil son indicateur"( Al-Ouhibi,2011, 36).
لم تخل النصوص المقدسة من التعرض لمفهوم الظل، فجاء في سورة الفرقان الحديث عن معنى الظل وامتداده، وهو ما يفيد ارتباط الظل بالحركة، والحياة والدليل على ذلك وجود الشمس، باعتبار أنّ الظل لا يظهر إلا من خلال ضوء الشمس وحركته مرتبطة بحركة الضوء. لقد وفق المترجم في ترجمة هذا المعنى بصفة عامة، ولكنه اختار فعل "allonger" لترجمة فعل " مدّ" وقد طغى الجانب الحسي الحركي في الترجمة والأجدر في نظرنا أن يختار فعل " étendre" وهو فعل يرجح الجانب المعنوي على الحسي لأنّ الأمر يتعلق بفعل إلاهي بني معناه على المجاز وليس على الحقيقة.
" ومن الأحاديث المرتبطة ارتباطا قويا بالظل وبالذات الإلهية الحديث المشهور:" السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه الضعيف، وبه ينتصر المظلوم" (الوهيبي،2008، 45)
Parmi les hadiths qui ont un rapport assez fort avec l'ombre et l'essence divine, l'un des plus célèbres rapporte ce qui suit: " Le sultan (le détendeur du pouvoir) est l'ombre d'Allah sur terre. Le faible trouve refuge auprès de lui, et le persécuté compte sur son soutien"(Al-Ouhibi, 2011, 41).
وارتبط الظل كذلك بمفهوم السلطة والحماية في الحديث النبوي، فالسلطان هو ظل الله في الأرض، وهو المسؤول عن الرعية وخاصة تطبيق العدالة بين الناس، ولذلك فمفهوم السلطة مرتبط بمفهوم العدل وظل السلطان المستمد من الله يرتبط بعدالته. وقد توفق المترجم في ترجمة هذه المفاهيم ترجمة سليمة، رغم محافظته على الترجمة الحرفية لكلمتي "حديث" و" الله" معوّلا في ذلك على ثقافة القارئ ومعرفته بخصوصية الكلمات المقدسة.
" وبعد استطراد طويل حول الواجب يقول [التوحيدي]: " الرؤيا ظل اليقظة، وهي واسطة بين اليقظة والنوم، أعني بين ظهور الحس بالحركة وبين خفائه بالسكون. قال: والنوم واسطة بين الحياة والموت، والموت واسطة بين البقاء الذي يتصل بالشهود وبين البقاء الذي يتصل بالخلود".(الوهيبي،2008، 59)
Après une longue digression à propos de ce qui doit être, il dit :"La vision est l'ombre de l'éveil. Elle est l'intermédiaire entre l'éveil et le sommeil, j'entends entre l'apparition de la sensation de mouvement et sa disparition dans l'immobilité: le sommeil est l'intermédiaire entre la vie et la mort, et la mort est, à son tour, l'intermédiaire entre la pérennité liée aux témoins et la pérennité liée à l'immortalité"(Al-Ouhibi, 2011, 54).
ربط التوحيدي بين الرؤيا واليقظة بواسطة الظل، وهو تحول في النظر الفلسفي لمفهوم الظل باعتباره مجالا للفكر وتأويل الرؤى التي تبدو للمفكر أو الحالم. فالظل مرحلة وسطى بين الحركة والسكون والحياة والموت والرؤيا هي أفق نظر قريب من التحقق، لذلك ربطها التوحيدي بظل اليقظة باعتبارها ليست الحقيقة المكتملة وإنما هي شيء قريب منها. ولم يوفق المترجم حسب رأينا في هذه الترجمة توفيقا تاما إذ جاءت ترجمته لكلمة "شهود" ب" témoins " وهي تعني الشاهد الذي يدلي بشهادته في حين أنّ الكاتب يقصد ما هو واضح للعيان ودال على الحياة من حركة وأشياء حسية، فكان يمكن ترجمة هذه الكلمة بكلمة " vie". كما ترجم كلمة " الخلود" ب " l'immortalité" وهي ترجمة موفقة إلى حد ما ولكنها لا تعبر عن الخلود في الآخرة، وكان على المترجم أن يوضح هذا المعنى للقارئ الفرنسي عن طريق الترجمة الـتأويلية.
" ولعل أبرز الأمثلة لظهور فكرة الظل وأقدمها هي مجاز الكهف الأفلاطوني المشهور الذي كان نتيجة للأساس الذي انبنت عليه فلسفة أفلاطون، التي تقسم الوجود إلى ثلاث دوائر: دائرة عالم المثل والحقائق، ودائرة عالم الحس الذي ليس سوى صورة عن العالم الأول، ودائرة عالم الظلال والصور والأعمال الفنية".( الوهيبي،2008، 79)
"L'un des exemples les plus remarquables et les plus anciens illustrant l'apparition de la notion d'ombre est la célèbre métaphore de la caverne chez Platon. C'est d'ailleurs le résultat du principe sur lequel était fondée toute la philosophie platonicienne, laquelle divisait l'existence en trois sphères: la sphère du monde des idées et des vérités, celle du monde sensible qui n'est qu'une copie du premier monde, et celle du monde des ombres, des images et des œuvres artistiques"( Al-Ouhibi,2011, 69).
ارتبطت فكرة الظل بالانعكاس، فشبه عمل الفنان بعمل المرآة، فهو يعكس ظاهر الصور لا حقيقتها وهكذا الشعر بالنسبة إلى أفلاطون. وقد ترجم المترجم هذه المعاني ترجمة سليمة معتمدا في ذلك على الترجمة التأويلية التي عبرت عن أفكار أفلاطون، فدفعه هذا الأمر إلى ترجمة كلمة " المثل" بكلمة " idées" التي تعبر عن أفكار أفلاطون المثالية مقابل عالمي المحسوسات والظلال التي هي انعكاس للعالم الأول وظل له.
" إنّ الظل عند نيتشه لم يعد مجرد رمز لانعكاس الضوء ومصدر النور، ولا مفصل العلاقات بالمحسوسات، ولم يعد مجرد وسيلة مجازية لتقريب أو شرح القضية الفلسفية المتعلقة بالجوهر والعرض والحقيقة الوجودية والمعرفة. إنّ الظل يغدو في هذه المطارحات الروحية والفلسفية معادلا واضحا للقلق الإنساني المعرفي (الإبستيمولوجي) إزاء الحقيقي والميتافيزيقي" (الوهيبي،2008، 83)
" Chez Nietzsche, l'ombre n'est plus le simple symbole du reflet de la lumière ou de son origine. Elle n'est plus cet intermédiaire définissant la relation avec les choses sensibles. Pas plus qu'elle n'est, chez lui, un simple outil métaphorique pour rendre plus claire et plus explicite la question philosophique inhérente à l'essence, à la contingence, à la vérité existentielle et à la connaissance. Dans ces thèses spirituelles et philosophiques, l'ombre devient nettement l'équivalent de l'inquiétude existentielle et épistémologiques de l'homme face à la fois à ce qui est réel et métaphysique" (Al-Ouhibi, 2011,72).
أصبح الظل عند نيتشه يعادل العقل البشري والثقافة الإنسانية ورمزا للقلق المستمر. وقد عبرت الباحثة عن التحول الذي حدث لفكرة الظل مع نيتشة، فأصبح المقصود به القلق الوجودي الإنساني المتصل بعالم الحقيقة وعالم الميتافيزيقا. وقد أحسن المترجم ترجمة هذه الفكرة، فأضاف إلى كلمة القلق كلمة ثانية توضحها وتخصص مجالها الفلسفي وهي كلمة " وجودي" فترجمها ب l'inquiétude existentielle"". فعبر بذلك عن المعنى التأويلي المقصود في فلسفة نيتشه.
" الرأي السائد عن الظل لا يرى في هذا الأخير سوى نقص في الضوء إن لم يكن نفيه وانعدامه. بيد أنّ الظل في الحقيقة، هو الشاهد الواضح والقوي على الشيء المضيء وهو في طور الاختفاء. وحسب هذا المفهوم عن الظل نتطرق إلى ما لا يمكن حسابه والإحاطة به، باعتباره ذلك الذي- وهو ينفلت من التمثل- لا يقل تجليا في قلب الموجود مشيرا بذلك إلى الوجود في انسحابه." (الوهيبي،2008، 87).
" L'opinion répandue à propos de l'ombre, dit Heidegger, voit que cette dernière n'est qu'une diminution de la lumière, voire son absence et son annulation. Cependant, l'ombre est en vérité l'indice net et puissant sur la chose lumineuse alors qu'elle est en train de disparaitre. Suivant cette conception de l'ombre, nous abordons ce qu'on ne saurait ni quantifier ni cerner, dans la mesure où, en ce dérobant à la représentation, cela n'en demeure pas moins au cœur de l'existant, désignant par là même l'existence en train de se retirer" (Al-Ouhibi, 2011, 75-76).
ارتبط الظل عند هايدجر بالسيرورة والشيء الهائل والعظيم الدال على هذا الشيء. فالظل عنده دليل على الوجود وهو الشيء الذي لا يمكن ضبطه حسابيا وتحديده وجوديا، فهو ذلك الذي ينفلت من عالم الحقيقة باستمرار، وهو صعب على التمثل العقلي. وقد ترجم المترجم هذه الفكرة ملتزما بالمعنى الأصلي فحافظ على التعادل المفهومي دون اللجوء إلى الترجمة التأويلية، وهذا يعود إلى أنّ أصل هذه الفكرة نشأت في نص غربي قريب من الفرنسية، وهو النص الألماني مما جعل الترجمة المفهومية تؤدي وظيفة نقل المعاني من النص العربي دون أية صعوبة تحتاج إلى التأويل.
" إنها (المرأة) الظل أو الشبح العائد، ومن هنا تكاد تترادف كلمات الشبح والكتابة والعود مع الأم عند دريدا. ولا شك أنّ ارتباط فكرة الظل بفكرة العود والتحقق والوعد، حيث الظل مرتبط بالتحقق لشيء ما سيحدث كبشير أو نذير..." (الوهيبي،2008،89).
" Elle est l'ombre ou le spectre revenant. C'est pourquoi les mots "spectre", " écriture", "retour" sont presque synonymes de "mère" chez Derrida. Sans doute la relation entre la notion d'ombre et l'idée de retour, de réalisation et de promesse – l'ombre étant liée à la réalisation d'une chose qui se produira, heureuse ou malheureuse-…" (Al-Ouhibi, 2011, 78).
ارتبطت فكرة الظل عند دريدا بمفهومي الحضور والغياب، فربط ذلك بفكرة العود إلى الأم التي تمثل بدء الحياة باعتبارها الظل أو الشبح العائد، وهي فكرة يشترك فيها القارئ الشرقي من خلال الأساطير التي تعتبر المرأة العتمة والسواد والقارئ الغربي الذي يرى في المرأة الشيء الغائب الذي يمثل البدء وحضوره يتجسد في مقولة الظل المحيلة عليه، وبالتالي لابدّ من تفكيك هذا الحاضر وصولا إلى البدء. وقد ترجم المترجم هذه الفكرة ترجمة سليمة حافظ فيها على التعادل المفهومي للغتين العربية والفرنسية، فلم يلجأ إلى التأويل لترجمة المعاني.
" إنّ الحديث عن الظل والشعر، والظل والأحلام، وعن الظل والوعي واللاوعي، والظل والجانب المؤنث والجانب الطفولي العميق عند باشلار يستدعي الإشارة إلى جهود يونغ أساسا في هذا الحقل." (الوهيبي،2008، 90)
"Le propos sur l'ombre et la poésie, sur l'ombre et les rêves, sur l'ombre, le conscient et l'inconscient, sur l'ombre et le côté féminin, l'ombre et le coté enfantin profond, chez Bachelard, exige que l'on renvoie essentiellement aux efforts de Yung dans ce domaine" (Al-Ouhibi,2011, 79).
ارتبطت فكرة الظل عند باشلار بالوعي واللاوعي وبمسألة القناع، فالشخص هو قناع اجتماعي والظل هو الأنا الحقيقي المؤلف للشهوات والانفعالات والمواقف، فهو يرتبط باللاشعور الفردي، ولذلك ارتكز باشلار في مفهومه للظل على مفاهيم علم النفس التي أتى بها يونغ. وقد ارتبط الظل كذلك عنده بالشعر والأحلام.
1.6. المستوى اللغوي
لاحظنا من خلال بعض المقاطع المختارة أنّ النص وحده هو الذي يخول لنا فهم مقاصد المتكلم، وبالتالي فالمستوى اللغوي هو أوّل المستويات ظهورا في العملية الإبداعية بين اللغتين والإشكال هو كيف نترجم العملية الإبداعية؟ أم أنّ الترجمة في حد ذاتها عملية إبداعية بما أنها عملية إعادة إنتاج لنص جديد يحمل أثار النص الأصل اللغوية دون أن يتقيد بها أو يلتزم بمكوناتها اللغوية، " وفي الواقع، تقوم عملية فهم القول اللغوي على درجتين من المعرفة، المعرفة في حد ذاتها بمعنى المعارف السديدة، وثيقة الصلة بالموضوع، التي يستحضرها القول في كل مرة، ومعرفة اللغة، وبالتالي يتوقف إدراك المعنى على التطابق بين هاتين الدرجتين من المعرفة بالنسبة إلى كل المستحدث يأتي به الواقع اللغوي".(لودورير، 2009، ص 36). تتطلب عملية الإبداع على المستوى اللغوي أن يكون المترجم ملما بضربين من المستويات اللغوية: المستوى الأنطولوجي أو ما يسمى بالمعارف الخارجية الحاضنة للمكونات الحضارية والثقافية والتاريخية المحيطة بإنتاج النص أو الفكرة والمستوى اللساني أو ما يسمى بالمعارف الداخلية الخاصة باللغة في حدّ ذاتها وكيفية استثمار موادها اللسانية في إنتاج النص، ومن هنا "ينبغي الابتعاد في الترجمة عن التحليل اللغوي والاجتهاد في إعادة التعبير عن المعنى في اللغة الأخرى" (لودورير، 2009، ص 44). فيرتقي المترجم في إعادة كتابة النص الأصلي من نقل الدلالات إلى إبداع المعاني في اللغة الهدف، فيتحول المترجم من مجرد وسيط ناقل للمستويات اللغوية إلى مبدع للمعاني في مستويات لغوية ثانية مفارقة للنص الأول، إذ" ليست الترجمة، بالمعنى الصحيح للكلمة، ممكنة إلاّ إذا كانت معارف المترجم تسمح للكلام أن يغدو فكرا، وللفكر أن يغدو كلاما من جديد" (لودورير ،2009 ، ص 46- 47). ولا يعبر التحليل اللغوي عن اختيار كلمة دون أخرى فقط في عملية الترجمة بل يتجاوز ذلك إلى البحث عن أشكال لغوية ملائمة في اللغة الهدف حتى يتمكن القارئ من عملية الفهم والتعبير عن المعنى المفهوم " لأن ّ مشكل الكتابة في الترجمة هو أننا نتوجه إلى قارئ لا يعرف النص الأصل، وفي غالب الأحيان، لا يعرف لغته بحيث ليس له من ملاذ آخر، للعثور على المعنى، غير النص الذي بين يديه" (لودورير ،2009، ص 57). وقد أفلح المترجم في أغلب الأحيان أن يرتقي بالترجمة من المستوى اللغوي إلى المستوى الإبداعي باعتماده على مفهوم السياق اللفظي الذي يحيط بالمكون اللساني قبل ترجمته، فساعده ذلك على تخطي الغموض في الفهم ومكنه من إدراك المعنى السليم كما بينا ذلك سابقا في بعض النماذج، " فيشرح السياق إذًا كيف أن التعدد الدلالي هو سمة طبيعية من سمات اللغة ولا ينتمي إلى واقع الخطاب" (لودورير ،2009، ص 72)، فالدلالة في مستوى اللغة سابقة عن الدلالة في مستوى الخطاب / النص، لذلك فالدلالة اللغوية توجد في المعاجم والدلالة القصدية توجد في مستوى إنتاج النص. ومن هنا يختلف المعنى لكلمة ظل من نص إلى نص ومن سياق إلى سياق آخر.
وقد عمدت المؤلفة إلى تقصي معاني كلمة الظل في عدة مستويات لغوية قديمة وحديثة فكرية فلسفية وحضارية ثقافية معتمدة في ذلك على المفاهيم المستنبطة من السياقات ومن أبرزها السياق اللفظي لما يؤديه من دور بارز في فهم المستويات اللغوية الموظفة في الكتابة والترجمة على حد السواء، " وبالتالي ثمة مراحل عديدة توجه المتلقي باتجاه المعنى الحقيقي للمرسلة[5]:
أولا، السياق اللفظي الذي يحد من الافتراضات الدلالية للغة.
ثانيا، السياق المعرفي الذي يسمح لنا باستنتاج المعنى شيئا فشيئا من القول.
ثالثا وأخيرا، المعرفة والدرايات التي تحيط بالمستمع / القارئ ولولاها لكادت المرسلة تظل حبرا على ورق" (لودورير ،2009 ، ص 76).
لقد خضعت عملية الترجمة في كتاب الظل لهذه المراحل الثلاثة فراعى فيها المترجم السياقات اللفظية المنتجة للنصين الأصل والهدف، فطوع لغة النص المترجم إلى الأسلوب المعبر عن المعنى في سياق معرفي جديد يتلاءم مع النص الجديد ويتناسب مع القارئ الجديد في لغة الترجمة، وهدفه في ذلك ضمان عملية التواصل مع القراء، وبالتالي تفارق عملية الإبداع النص لتبحث عن القارئ المشارك في فهم النص وإعادة فهم معانيه من أجل عملية تواصل ناجحة " يقتصر فيها التواصل بين الأفراد على الاستخدام الملائم للألفاظ وتطبيق التراكيب الصرفية، فيستنتج ضمنا أنّ معنى الألفاظ والأنساق النحوية والصرفية المختارة" (سيليسكوفيتش ،2009، 115) تؤدي وظيفتها التواصلية التي لا يمكنها الاكتفاء بالمستويات اللغوية وإنما تتعداها إلى مستويات أخرى ثقافية وحضارية.
2.6. المستوى الثقافي
تقوم الترجمة الإبداعية على الربط بين المخزون اللغوي والمخزون الفكري والثقافي للمترجم والقارئ، فتجمع عملية الترجمة بين المكون المتصوري للتواصل المستمد من المكون اللساني بدواله ومدلولاته والمكون الانفعالي للغة الذي يدل على المستوى الشعوري واللاشعوري في عملية التواصل، وهنا يلعب المستوى الثقافي دورا مهما في عملية التواصل بين المعاني الثقافية المبثوثة في النصين الأصل والهدف باعتبار أنّ "المعارف التي ندرجها عند القراءة تكون إما واسعة وإما طفيفة وهي تختلف من قارئ إلى آخر" (لودورير ،2009، ص 43)، ومن مترجم إلى آخر ومن ترجمة إلى أخرى. فيبرز المستوى الثقافي هذا المستوى من الاختلاف الذي يؤثر في ضبط معنى الظل في الثقافات المختلفة، فعلى سبيل المثال يشير الظل في الثقافة العربية إلى شيء إيجابي باعتبار أنّ المناخ السائد عموما في الجغرافيا العربية يكون غالبا مناخا حارا مما يجعل الإنسان العربي يفضل الظل حتى يحتمي به من حر الشمس، في حين أنّ الأمر مختلف في الثقافة الغربية، فالغربيون لا يحبذون الظل باعتباره دليلا على البرد فهم لا يحتاجون إليه بالتالي لا يمثل لهم أية قيمة في حياتهم كما هو الشأن عند العرب . ولهذا السبب تختلف قيمة الظل في اللغتين نظرا لما تحمله كل لغة من مستويات ثقافية وحضارية في نظرتها للأشياء، "ولأنّ كل لغة تتفرد باختيار السمات البارزة لتسمية الأشياء والمفاهيم بالإضافة إلى المميزات التي تميز بواسطتها الأفكار" (لودورير ،2009، ص 63)، فمفهوم الظل لا يقتصر على الصورة الحسية المعروفة في الطبيعة وإنما تضاف إليه شحنات أخرى فكرية وفلسفية ودينية وهو ما عبرت عنه المؤلفة في كتابها بوضوح مبرزة هذه المستويات المختلفة المتصلة بمفهوم الظل في كل الثقافات والحضارات والديانات والفلسفات. وساهمت عملية الترجمة الإبداعية في نقل هذه المفاهيم إلى القارئ كما ألفتها المؤلفة لقارئ مخصوص مما زادها إبداعا وحياة وجمالا،" فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلاّ لأنه قابل للترجمة في الوقت ذاته، فإذا كان في الإمكان ترجمة نص ما ترجمة نهائية، فإنه يموت كنص وكتابة". ( أحمد إبراهيم، 2009، 27). ولذلك فالترجمة تنزع نحو الإبداع عندما تفارق لحظة الكتابة اللسانية إلى الكتابة الثقافية والحضارية ولا تغلق دائرة التأويل عن المترجم والقارئ، فبالقراءة يحيا النص وبالتأويل يتجدد ويعيد إمكانية القراءة، ومن هذا المنظور " تصبح الترجمة تجربة في الفهم وتطبيقا لفاعليته في الحياة، وتحويله من لغة إلى أخرى ومن نص إلى آخر، ثمة فقط نتجاوز فهم الميتافيزيقا التي تلح على الوفاء للأصل في الفعل الترجمي إلى مرحلة جديدة تصبح فيها الترجمة حوارا حضاريا ومنهجا يتجاوز الفهم إلى فهم الفهم" ( أحمد إبراهيم، 2009، 23). فتتحول الترجمة إلى عملية فهم مخصوصة بسياق ثقافي وحضاري تعيد إنتاج نص مكتوب في سياق حضاري آخر ويتحول المترجم من مجرد وسيط لغوي إلى منسق يلائم بين فضاءين ثقافيين مختلفين. وتتجلى عملية الإبداع في هذا التلاؤم والتناسق بين المعاني الثقافية والحضارية، " ويصبح الفهم فهما من نص منطلق هو المكتوب إلى نص وصول هو الثقافي/ الحضاري بوصفه نسقا خفيا تنوب لغة القول عنه" ( أحمد إبراهيم، 2009، 23). ولا تدرك المعاني الثقافية والحضارية إلا باتخاذ التأويل منحى توليديا للأفكار والمعاني المولّدة أساسا لحياة النص الإبداعي عبر سيرورة القراءة المنتجة.
يرتبط المستوى التأويلي بالمستويين السابقين ارتباطا وثيقا، فهو نتيجة لهما ولا يكون ممكنا إلاّ بهما، فالتأويل لا يتخذ مجراه إلا إذا كان الفهم ممكنا، فحينها فقط يمكن للمؤول أن ينفتح على مسارات التأويل، إذ" لا شك أنّ علاقة التأويل بالترجمة تنطلق من الأفق النظري قبل أن يتم التلقيح بين المسارين في سياق الممارسة التطبيقية" ( الزاوي حسين، 2009، 12). وتبرز عملية التأويل في ترجمة الكتاب في الجمع بين أفقي نظر للغتين وثقافتين مختلفتين فكريا وحضاريا، ولكن اتباع الترجمة التأويلية منهجا ومسارا ساعدت المترجم على الصياغة الإبداعية نصا ومعنى، تجلى ذلك في عديد المواطن كما بيناها سابقا حيث تخطى فيها المترجم الترجمة الحرفية إلى الترجمة التأويلية معتمدا في ذلك على الأفق التأويلي الذي توفر له من خلال امتلاكه اللغتين ومعرفته المتجاوزة للنص والضاربة في الثقافتين والمطلعة على مكونات الحضارتين باعتبار أنّ " التأويل ليس مجرد عملية إعادة إنتاج أو تكرار بسيطة للنص المحول، بقدر ما هو خلق جديد للفهم فتتجاوز الترجمة، والأمر كذلك، مجرد كونها عملية نقل من لغة إلى كونها تأسيس لأنطولوجيا فهم الكائن في التاريخ" (أحمد إبراهيم، 2009، 23). فتنفتح مسارات التأويل على العوالم الأنطولوجية الممكنة للنص باعتباره أفكارا تتوالد وتتعايش قصديا ثم يقع إنتاجها بطريقة إبداعية تؤسس لفهم مشترك بين القراء الافتراضيين الذين هم جزء من عملية القراءة المنتجة لسيرورة النص المعنوية، ومن ثمة انفتاحه على قراءات متعددة يرتبط فيها الفهم بالتأويل وترتبط فيها الترجمة بالإبداع " وعليه فإنّ التأويل الذي نمارسه داخل لغة ما لا يمكن أن يحدث الأثر نفسه عندما نقوم باستبدال نظام اللسان الأصلي بنظام آخر، كما هو الحال بالنسبة إلى الترجمة، فهناك صلة وثيقة تربط بين اللغة والأمة أو بين اللغات والشعوب وفق الأطروحة التي انتصر لها ودافع عنها "هومبولت" التي أكد من خلالها على أنّ اللغة الأم تمارس تأثيرا حاسما على طرائق وأساليب التفكير لدى شعب من الشعوب" ( الزاوي حسين، 2009، 14). وبالتالي فالتأويل مرتبط بأفقي نظر يتصلان أساسا بأسلوب التفكير وبأسلوب الكتابة ويتصلان كذلك بالمترجم وبالقارئ وعلاقة كل منهما بالفكر وباللغة وبالسياق الثقافي والحضاري الذي أنتج فيه النص، وهو ما يؤثر على طريقة الترجمة التي يتبعها المترجم، إذ" تفرض طريقة المترجم في الترجمة إبعاد التأويلات السهلة وتلك التي تبدو مغرضة" (لودورير ،2009، ص 41). ولذلك لابدّ من الفهم العميق للنص قبل الشروع في التأويل ثم الترجمة وهو ما يؤكد فرضية أن يؤول المترجم النص ثم ينقل معناه ثم تأتي عملية التأويل الثانية التي تخص القراءة والفهم الجديد لدى القارئ الجديد، إذ "من الضروري أن نفرق بين تأويل النص وتأويل المعنى وبين إعادة تشكيل المعنى عينه وأقلمته في أشكال مختلفة من جانب واستبدال مقصد آخر بالمقصد الأصلي" (لودورير ،2009، 106). ولذلك فالتأويل في الترجمة ليس تأويلا حرا وإنما هو مقيد بمقاصد النص الأصلي وفهمها واستبدالها بشكل لغوي أخر يتلاءم مع طبيعة اللغة المنقول إليها من جميع جوانبها اللسانية والثقافية والحضارية، وهذا ما حاول المترجم الالتزام به في ترجمة هذا الكتاب من فهم وتأويل وإفهام، وهي مستويات مطلوبة في الترجمة الإبداعية، " وإذا كان التأويل وثيق الصلة بعملية الفهم، فإنّ الترجمة تجعل النص ينتقل من مرحلة الفهم إلى مستويات الإفهام، وهو ما يضاعف من صعوبة التعامل مع النص المترجم لأنه يتطلع إلى الانتقال بمستوى الفهم في اللغة الأصلية إلى مستوى الإفهام في اللغة المستقبلة." ( الزاوي حسين، 2009، 11). ولكي تذلل هذه الصعوبات لابدّ من أن يتم كل إدراك معنوي بواسطة خطة تأويلية تراعي معاني النص الأصلي ومقاصده وتنتج نصا مترجما بصورة إبداعية تحيي هذه المعاني والمقاصد من جديد، وهو ما لاحظناه في المقاطع التي اخترناها في هذا البحث وفي غيرها من الكتاب كله ، إذ جمع المترجم بين مقاصد النص الأصلي وما أنتجه النص المترجم من معان وفية لروح هذه المقاصد في لغة إبداعية رائقة.
مرت ترجمة معاني الظل من العربية إلى الفرنسية في هذا الكتاب المعني بالبحث بأطوار عدة لسانية وثقافية حضارية وفكرية تأويلية حاول فيها المترجم رصد طبيعة هذه المعاني المتنوعة المجالات الفكرية والأنطولوجية شرقا وغربا التي ضمنتها الباحثة في كتابها لتقدمها للقارئ العربي بطريقة إبداعية واضحة. وقدا جاءت الترجمة على عدة مستويات لغوية وثقافية وتأويلية التزم فيها المترجم بعملية الفهم والإفهام والـتأويل مما جعله يقدم المعاني والمقاصد في النص الأصلي بطريقة إبداعية إلى قارئ جديد التزم فيها بخصوصيات اللغة الفرنسية والثقافة الغربية عموما موازنا في ذلك بين المعاني الأصلية ومحاولة إفهامها إلى القارئ الجديد غير العربي مقدما إياها له بأسلوب لغوي راق دون الإخلال بالمقاصد. فربط الترجمة بالتأويل مما مكنه من إدراك المعاني في لغتها الأصل ومن ثمة نقلها بطريقة إبداعية إلى اللغة الهدف. وكان هدف الباحثة الكشف عن مكامن مفاهيم الظل في مختلف الثقافات والفلسفات والديانات وتقديمها للقارئ العربي، فإذا بالترجمة تضيف إليها أفق قراءة جديدة من خلال نقلها إلى قارئ جديد في بيئة ثقافية جديدة أضافت قيمة علمية لهذا الكتاب. وهكذا فبالترجمة الإبداعية المرتبطة بالفهم والإفهام والتأويل تقدر النصوص على تجاوز محليتها وتحقق التواصل بين القراء والشعوب.
قائمة المصادر والمراجع
[1] انظر حول هذه المسائل كتابي الفيلسوف الألماني:
[2] انظر كنابنا : الوصائل في تحليل المحادثة : دراسة في استراتيجيات الخطاب، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012.
[3] انظر حول هذه المسألة:
[4] انظر كتابنا: المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم، بيروت، دار الضفاف، 2013.
[5] ترجمت المترجمة كلمة message " بمرسلة" على أساس مبدأ الاسترسال ولكننا نرى أنها لا تؤدي المعنى الصحيح للكلمة الفرنسية فنفضل ترجمتها "بمتوالية لسانية".