للشاعر الكردي المعاصر شيركو بيكه س في ديوانه ( الضيف الخريفي ) نص جميل يصور الشاعر فيه نفسه بجسد له ظلان ، الأول خفيف يغيب ويحضر ، و الآخر ملتصق بجلده وصوته , ويظل يراقب الظل الأول والجسد . ثم يظهر هذا الظل / الصوت( صوت الشاعر) وهو يكرر : إنه جسد بظلين ، ولكنه يتشكل هذه المرة بصوت امرأة تصف الظلين : الأول الخفيف الذي يغيب ويحضر، والآخر الذي لا يغادر القائم بوظيفة الحراسة . وسنتبين لاحقًا أن الحراسة هي حراسة الذاكرة التي هي محاولة للخلود. يقول في هذه القصيدة :
« أنا شخص واحد بظلين
لي جسد واحد وظلان
إن غامت السماء وتساقطت الأمطار
ولاذت أشعة الشمس بالفرار
ونام الشوق والفانوس
وأفل القمر
غادرني أحد الظلين
كأفراحي بخطى حثيثة !
لكن ثانيهما لا يتركني أبدًا
لا في ظلمة غرفتي ولا تحت الثلوج والأمطار
لا في الإيوان وأمام المرآة
ولا في أي مكان آخر
إنه ظل ملتصق بجلدي ،
بشعري، بصوتي ولوني
إنه ظل يراقب ظلي الأول
وجسدي دائمًا !!
أنا الخريف الأزلي لهذا الوطن
أنا امرأة واحدة بظلين
لي جسد واحد وظلان
أحدهما يغيب بين فينة وأخرى
ولكن ثانيهما لا يتركني أبدًا
لا يتخلى عن صوتي
لا يتخلى عن لوني ورأسي
لا يتخلى عن وجودي
هذا الظل ... الرجل !! »(1)
والشاعر هنا ينسج نصه على فكرة متخيلة فريدة ، وهي : أن يكون للشخص ظلان . كما أنه في عمق أبعد أيضًا ينسجها على متخيل أن أحد الظلين مذكر والآخر مؤنث . وإذا اعتمدنا الفكرة السائدة في علم النفس ، الفكرة اليونجية القائلة بأن البطانة الداخلية للنفس الإنسانية قائمة على مقولتي الأنيما والأنيموس بوصفهما المكونين للشخصية الإنسانية ، حيث في داخل كل رجل جانب مؤنث ، وفي داخل كل أنثى جانب مذكر _ إذا اعتمدنا على ذلك فيمكن أن نلحظ أن هذه الأنيما المؤنثة تعلو وتتسيد وتصبح الظل/ الصوت ، الظل/ الشعر الظل/اللون والهوية . لكن علو أي منهما مرتبط بهوية المتحدث ؛ ففي الحالة الأولى مع أن المتحدث صوت ذكوري تعلو الأنيما رافعة راية ما لا يزول ولا يتغير، راية الشعر . وفي الحالة الثانية , في الجزء الأخير من النص وصوت المتحدث صوت أنثى, تعلو الأنيما أيضًا لتؤكد مقولة خلود الصوت والشعر والهوية . ففي كلا الوجودين وجود المرأة والرجل فإن الثابت ظليًا هو الشعر والفن . ولذلك لانستغرب أنه في نصٍ تالٍ لهذا النص سيعلو صوت الشاعر يمجّد الشعر الذي يقاوم خريف الزمن ، وهنا نفهم معنى المراقبة والحراسة اللذين لمح إليهما الشاعر في النص السابق :
« الريح تنحني للخريف باحترام
الخريف ينحني للعاشق باحترام
العاشق للعشق
العشق للخيال
والخيال لي
وأنا للشعر.»(2)
هنا ينكشف للقارئ أن الظل الذي لا يترك الشاعر أبدًا ، الظل الملتصق بصوته ولونه ووجوده كله ليس سوى الشعر أو الإبداع عمومًا . ولذلك ، حسب التفصيل المشروح أعلاه لانشطار الصوت في القصيدة عبر صوتين صوت رجل وامرأة ، لا نفهم قوله «هذا الظل... الرجل» بوصف الظل مسألة ذكورية ، أبدًا , فشيركو بيكه س في هذه القصيدة يوحد الرؤية ، ويجعل الشعر والمخيلة والإبداع كائنًا ظليًا في وجود الكائنين . وقد سبق أن تناولت هذه الرؤية في كتابي ( الظل : أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية) حول ارتباط الظل بالمخيلة وعمل الإبداع وعلاقة ذلك بالأنيما والجانب المؤنث في الإنسان..