إن التهام الظل كمؤشر لتراكم الخطايا استثمرته الروايات في ترميز فني مبدع إذ يفقد البطل ظله بفقده لقيم معينة وبيعه روحه للشيطان .
إن إشارة بورخيس إلى ملتهم الظلال عند المصريين القدماء المرتبطة بالتمساح تدعو إلى التوقف عند اعتقاد المصريين القدماء بأن " ثمة قرينًا يولد مع الإنسان، ويصاحبه أينما ذهب وتحرك . وهذا القرين ما هو إلا روح الإنسان وظله أو خياله الذي يخشى أن يفقده . ولذلك كان سكان وادي النيل يأخذون هم أيضًا حذرهم من اقتراب ظل الواحد منهم من أي تمساح ، مخافة أن يلتهم ظله ، أي روحه ، فيموت على الفور ." (1)
وهذا القرين الذي يلزم الإنسان منذ مولده ويرعاه ويحفظه كانوا يسمونه (كا) . فإذا مات الإنسان سبقه قرينه إلى أخراه يتولاه فيها كما تولاه في دنياه .(2) ولهذا القرين (كا) نقش على أحد جدران معبد الأقصر يرجع إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، ويمثل القرين (كا) عادة بذراعين مرفوعتين .(3) وكان من الذائع أن ( كا) الحافظ للإنسان في دنياه والهادي له في أخراه حسب المعتقد المصري القديم كان مما اختص به الملوك غير أنه ما لبث أن أتيح للرعية فيما بعد .(4)
كما أن المصريين القدماء اعتقدوا كذلك بأن جسم الإنسان مكون من ظاهر وباطن ، الظاهر منه الجسم ، أما باطنه " فقلب ـ أي عقل ـ ونفس ، وبهما حركة الإنسان . ورمزوا للنفس والعقل بطائر له رأس إنسان وذراعان ، وترى صورته على القبور . وفي توابيت الموتى بظل المومياء مادًا لها بإحدى يديه شراعًا منشورًا ، وهو الرمز المصري القديم للهواء أو النفس ، مادًا بيده الأخرى شارة هيروغليفية ترمز إلى الحياة . وكانوا يسمون هذا الطائر الذي لا يظهر إلا عند موت الإنسان الـ ( با ) ".(5)
وهذا الـ ( با ) يثير في الذهن التساؤل عن وجه الشبه بينه وبين ( الهامة ) المذكورة في أول هذا الفصل وعن الجذر المشترك لهما في الدلالة وفي الأصل . أما الـ(كا) الذي يمثل القرين فهو شديد الصلة بالظل الذي هو عند كثير من الشعوب ذو علاقة بالقرين فإذا ما كان الظل له كل هذه الصلة بالموت وانسحاب الروح إلى العالم الآخر فهل يمكن تفسير ذهاب الظل بذهاب الروح كصيرورة للعالم الآخر ، كمؤشر إلى ما يمكن أن يلقاه في العالم الآخر من ثواب أو عقاب ؟ ربما ، وقد مر بنا قبل قليل إشارة بورخيس إلى ( كتاب الموتى ) المصري وأسطورة ملتهم الظلال الذي يعاقب الناس على خطاياهم.
أما ( المانا)(6) فهي فكرة أساسية لدى سكان بولينيزيا وإلى حد ما في ميلانيزيا ، وهي تشير إلى القوة الخفية التي تعتقد بعض الديانات البدائية أنها تحرك وتمنح الإنسان كل الملكات الطبيعية ، ولكن هذه القوى ترتبط بشخص يوجهها ، وبشكل خاص أرواح الموتى وبعض الأشخاص ذوي الخطوة ، و " يقصد بها القوى الخارقة غير المشخصة التي يعتقد أنها تنتشر في العالم كله ، وتتغلغل في كل شيء ، وتعطيه خصائصه الذاتية ، ويصدق ذلك على وجه الخصوص على الموضوعات المقدسة أو التي تحتاج إلى معالجة خاصة . لذلك تتكلم هذه الشعوب عن ( مانا ) الرئيس ، و ( مانا ) الساحر ، و( مانا ) الفنان وغير ذلك ." (7) ولكن صاحب المانا معرض لأن يفقدها إذا تخطاه أحدهم أثناء نومه أو مشى على ظله.(8)
ويرى يونغ ، الذي شدته فكرة ( المانا) ، أن شخصية المانا تجسدت عبر التاريخ في صورة البطل وفي الرجل الإله الذي يعد الكاهن ممثله الأرضي.(9) وقد رأى فيها ، في المانا ، درجة أولية من مفهومنا عن الطاقة الشمسية وربما عن الطاقة عمومًا.(10)
ومما يلفت النظر في ( المانا ) أنها تمثل تلك القوى الخارقة لدى بعض المعتقدات البدائية التي تربطها ربطًا مباشرًا بالموتى وبأرواحهم ، (11)وهو ما يجعل الإشارة إلى فقدها لو مشى أحد على ظل صاحبها أمرًا ذا أهمية في سياق علاقة الظل بالموت وعلاقتهما بالشمس أو مصدر الطاقة والضوء .
وفكرة تجنب المشي على ظل الإنسان بوصفها شارة سيئة ونذير شؤم يبدو أنها كانت ـ وربما ما زالت ـ تعيش في المعتقدات والخرافات الشعبية في أوروبا . أورد بيار كانا فاجيو في كتابه ( معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوربا ) مادة حول الظل قال فيها : " كان الناس قديمًا إذا أرادوا أن يوجدوا روحًا حارسة وحامية لإحدى المدن دفنوا كائنًا حيًا ، يستحسن أن يكون طفلاً ، تحت أسسها ، إلا أنه كان يكتفى ، غالبًا ، بسجن ظل أحد الرجال . وإذ كان الرجل لا يمكنه العيش بلا ظل بقيت الخرافة تدعو إلى تجنب المرور بالقرب من ساحة بناء ، دون التصليب ( رسم صليب بالإشارة ) . ويجب تجنب المشي على ظل الإنسان لئلا تجرح روحه ." (12)
(1) محمود رجب ، فلسفة المرآة ( القاهرة ) ص 192.
(2) ثروت عكاشة ، تاريخ الفن : الفن المصري ( القاهرة ، دار المعارف سنة 1971م ) ص 199.
( 3) المصدر السابق ص 201 .
( 4) المصدر السابق ص 199 .
( 5) المصدر السباق ص 198.
( 6) المانا تعني القوة الخفية التي تعتقد بعض الديانات البدائية أنها تحرك الإنسان ، ويبدو أن كوردنيتون أول من استعمل الكلمة في كتابه ( المالينيزيون ) المنشورة سنة 1891م حيث سماها ( المن الإلهي ) وتشير إلى الاعتقاد بقوة خارقة غير خاضعة للقدرة الإنسانية ، ينظر آرثركورتل ، قاموس أساطير العالم . ترجمة سهى الطريحي ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط. الأولى 1993م) ص 233- 234 .
(7) الموسوعة العربية الميسرة ، مادة مانا .
(8) يونغ ، جدلية الأنا واللاوعي ، ترجمة نبيل محسن ( سورية ، دار الحوار . ط. الأولى 1997م ) ص 184 .
(9) المصدر السابق ص 184 .
(10) المصدر السابق 195 .
(11) ماكس شابيرو ورودا هندريكس ، معجم الأساطير ، ترجمة حنا عبود ( دمشق ، دار علاء الدين ط الأولى 1999م ) ص 161.
(12) بيار كانا فاجيو ، معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوربا . ترجمة أحمد الطبال ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . ط. الأولى 1413هـ / 1993م ) ص 190 – 191 .