الصفحة الرئيسية
 /  
صناعة النص بين الفن والتاريخ
 /  
رجوع

صناعة النص بين الفن والتاريخ


       أتناول في هذه الدراسة نص ( الهجرة ) لأحمد عبدالغفور عطار ، وأكشف من خلال التوازيات النصية لمرجعيته التاريخية والدينية التي ذكرها في آخر نصه عن طريقة تعامله مع الحدث التاريخي والديني ومع نصوصه المرجعية ، وأبين من خلال التوازيات سلسلة الاختيارات التي قام بها الكاتب وأثرها على نصه ، كما أوضح المحاذاة الأمينة التي ألزم الكاتب نفسه بها ، وأثرها فنيًا على عمله ، وأبرز من خلال ذلك كله طريقة الكاتب في صناعة نصه بمحاذاة النص التاريخي والمرجعية الدينية .


صناعة النص بين الفن والتاريخ

(الهجرة) لأحمد عبد الغفور عطار نموذجًا

          هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدث له مكانة عظيمة في نفوس المسلمين. وتعود أهمية الحدث وعمق أثره في نفوس المسلمين الى أمور متداخلة، ولكن يمكن التمييز بين أمرين : الاول: الأثر العميق في النفوس المرتبط بالهجرة من جهة الأسباب التي أدت إلى هذا الحدث و ما رافقه من مضايقات لشخصيــة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما حف بالحدث نفسه من كرامات وأمور خارقة. إذ المتاعـب والآلام التي عانها الرســـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وأبو   بكر ـ رضي الله عنه ـ تمس في العمق مشاعر عزيزة, كما تستحث الأمور التي حايثت الحدث الخيال, وتستحضر أثر المعجزة والماورائيات. وهذا أيضًا أثر لا يستهان به في استنهاض الخيال في قلب حدث تاريخي!! أما الأمر الثاني فمرتبط بالأثر الديني والسياسي والحربي والاجتماعي والاقتصادي لحدث الهجرة؛ من حيث كونه أحد المفاصل الكبرى في حياة ـ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتاريخ الإسلامي عامة .                                                                                                                                                                                                                                                                  

        

           والكتابات عن الهجرة النبو يه كتابات كثيرة ومتنوعة منذ القديم وحتى عصرنا الحالي .وهي كتابات تكشف كمؤشر أولى عن أهمية هذا الحدث وعمق تأثيره في نفوس المسلين .ولعله من المناسب في هذا السياق، حيث موضوع هذه الدراسة يتناول نصًا إبداعيًا هو (الهجرة )لأحمد عبد الغفور عطار، أن أشير إلى موقع هذا الحدث في نفس كاتبه من خارج النص؛ حيث ذلك سيفسر ـ  من ضمن ما يفسر ـ لماذا اختار أحمـد عبد الغفور عطار حدث الهجرة موضوعًا لنصه الإبداعي، الذي صنفه هو بأنه قصة تمثيلية.  يقول أحمد عبد الغفور عطار في مقالة بعنوان( الإنسانية الرفيعة ممثلة في أصحاب محمد رسول الله) نشرها في كتابه  (قطــرة من يراع):

"عندما هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة، ومعه صاحبه الصديق ـ رضوان الله عليه ـ تلك الهجرة التي يعرفها المسلمون من السيرة الكريمة قصــد إلى أشياء كثيرة يجعلها أساسًا لبناء دولة الإسلام الفاضلة، وأساسًا لبناء شخصيــة المسلم, هذه الأشياء التي كانت أساسًا للدولة ولشخصية المسلم تتصل بالروح والقلب، كما تتصل بالنفس والحياة. تتصل بالروح لأنها تسمو به فوق الواقع, وتتصل بالقلب لأنها تمده بما يملؤه نورًا يضئ له الطريق فلا يتعثر، ويجعله خافقًا بحب الله وحب رسولــه وحب الإنسانية. وتتصل بالنفس لأنها تهذبها وتجعلها نفسًا إنسانية كريمــة، بعد أن كانت حيوانًا ضاريًا، وتتصل بالحياة لأنها تقيمها على أسس الخيـر والحق والفضيلة، وتنظم للأحياء علاقة بعضهم ببعض. كل هذه المعاني وغيرها في الهجرة التي كانت بداية خـط سير الإسلام من مكة إلى غيرها، ويقوم صاحـب الرسالة والهجرة عليه السلام بوضع الخطط، وتمهيد السبل، لنشر دينه في العالمين. وقد تحــدث كثير من الفضلاء عن الهجرة وآثارها في تاريخ الإسلام السياسي والحربي والاقتصادي، ونظر كل منهم من زاوية غير الزاوية التي نظر منها سواه، وبذلك قدموا صورة           ( مصغرة) لحقيقة الهجرة وآثارها" ( 1 )

 

          هكذا تكشف مقالة أحمد عبد الغفور عطار عن موقع الهجرة في نفسه وفكره. ولعل فيما طـرحه من رؤى مركزة حول هذا الأثر المرتبط بأمور تتصل بالروح والقلب كما تتصل بالنفس والحياة، كما قال، ما يجعل القارىء  لنصه(الهجرة) يتوقف متأملاً ليرى كيف يتجلى التاريخ في الفن، وكيف يتعامل الأديب مع قضايا ذات حساسية دينية وتاريخية مهمة وخطيرة.

العبور:

           ويبدو الحدث في عبوره من التاريخ إلى الفن في تشكله النصي معادلاً لموضوعه(الهجرة) في العبور المكاني من مكة إلى يثرب. إن الحدث التاريخي، وهو يُنزعُ من مدونته التاريخية، يُحولُ عند لحـظة تاريخية متوترة ومفصلية من مجرد سرد تاريخي محفوظ عن السيرة النبوية، ومن مجرد قطعة تاريخية مدونة في كتب التاريخ إلى سرد حي نابض بالحوار, ومؤنسن بالرغبات والصدام, ومحاط بلفائف تمـزج بين الواقع وما فوق الواقع.

 

          هذا العبور النصي الذي هو المعادل للعبور المكاني وما رافقه من أهوال وما صاحبه من تحركات ضرورية على مستوى الخيال ـ يستدعي السؤال عن كيفية انتزاع هذه القطعة أو القطع من الأحداث والانتقال بها عبورًا من التاريخ إلى الفن. ما الفرق بين أحمد عبد الغفور عــطار وبين ابن هشام وابن كثير بوصفهما مؤرخين قديمين ذكرهما من بين مصادره؟ وما الفرق بين محمد حسين هيكل، الذي اعتمده كمصدر حــديث، وبينه هو كمبدع؟ ما الفرق بين المؤرخ والفنان وهو يختار الحدث ويقصه؟

       

           قديمًا توقف أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند هذا الفرق المهم. فأثناء حديثه عن كيفية بناء العمل التراجيدي، وعن كيفية بناء العقدة تحديدًا، شدّد على أهمية اختيار سلسلة الأحداث وتنظيمها وفق خطة محددة تقوم على استبعاد الأحداث العرضية والإبقاء فقط على سلسلة الأحداث التي تتنامى وتتولد من بعضها، لتكشف عن طابع الاحتمال والضرورة فيها، ولتبين عن وحـدة لا تنفصم. وهو ما يميز، من أحد الجوانب، عــمل المؤرخ، إذ المؤرخ يدون ما يقع على مفصل الزمن من أحداث حتى وإن لم يجمعها رابط، وهو لا يختار ولا ينتقي ولا ينظم ولا يربط، وهو بالتالي غير قادر إلا على الرؤية الجزئية المباشرة. أما الفنان فيمكنه أن يدرك الوحدة، وأن يرى بشمول، ويتجاوز إلى الكليات. لأنه يقص ما يمكن أن يحدث أيضًا فهو يتجاوز إلى الحقائق العامة، ويقترب بذلك من جهد الفيلسوف وإبداعه ويشارف مرتبته. يقول أرسطو:

" وظاهر مما قيل أيضًا أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه و ما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة. فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور … بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه . ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات."( 1)               

         

           لحديث أرسطو هنا  أهمية خاصة من حيث تركيزه على ما يكفل للتراجيديا الوحدة والترتيب, وما يحقق لها, بسبب تضافر عناصرها, المتعة والتأثير. ولا شك أن إشارته إلى العلاقة بين الشعر والتاريخ تقع في صلب قضية المحاكاة إذ "عمل الشاعر ليس مجرد محاكاة أو تمثيل أحداث أو مـواقف مــعينة أتيح له أن يلحظها أو ابتدعها ابتداعًا. إنه يتناولها بطريقة خاصة بحيث يكشف عن عناصرها العامة والخاصة، وبهذا يلقي الضوء على جوهر الحدث أو الموقف، سواء أكانا صحيحين من الناحية التاريخية أم لا. إن الشاعر يعمل وفقًا لقانون الاحتمال والضرورة لا وفقًا للحظ العابر أو الابتداع العارض، لذا فهو أكثر علمية وجـدًا في حقيقته من المؤرخ الذي ينبغي له أن يتقيد بما كان قد حدث فعلاً، ولا يستطيع أن يرتب وقائعه أو يبتدعها لكي يصور ما هو أكثر احتمالا بالبديهة، وفقًا لسيكولوجية الإنسان وطبائع الأشياء. وبما أن الشاعر يبتدع روايته أو يـرتبها فهو يخلق عالمًا خاصًا به مكتفيًا بنفسه، له قانونه المطرد في الاحتمال وله حتميته." ( 1)

           

           فالفرق بين الفنان والمؤرخ يرتكز من جهة على الانتقاء والاختيار، ويرتكز من جهة أخرى على الصنعة وإدراك الوحدة في المتفرق، وعلى القدرة، في النهاية، على إدراك لحظة الأوج أو الذروة في الدلالات العليا لسلسلة الأحداث,و كيفية استقطارها لاستخلاص ما هو إنساني ومعمم وكلي.

 

 

النص والتاريخ:

             منذ أن جعلت الكلاسيكية العودة إلى التاريخ أصلاً من أصولها الثابتة والاتجاه إلى التاريخ صار اتجاهًاعالميًا ( 2). وقد عمد كثير من أدباء العرب إلى التاريخ والتراث فنهلوا، منه واستلهموه في مسرحياتهم مثل: أحمد شوقي وعزيز أباظة، وأحمد باكثير وغيرهم في مطلع عهد النهضة والإحياء في القرن المنصرم. واهتم به بعض الأدباء السعوديين، وكتبوا في المسرح التاريخي منذ وقت مبكر( 3 )، وكتب أحمد عبد الغفور عطار مسرحيته(الهجرة) عام 1366هـ/ 1947م، ثم نشرها في كتابه قطرة من يراع.

        

           وابتعاث التاريخ والتراث يرمي في الغالب إلى استلهامه وتحويله إلى دينامية فاعلة محركة لوجدان الناس، لتبعث فيهم روح القوة والاعتزاز والعمل والتجدد،ومواجهة تحديات الحاضر واستشراف المستقبل. وهذا هو ما يلح على العمل به بعض النقاد، وهو ما يعنونه حينما يقولون ترجمه التراث إلى حركة. ( 1)   

موازاة النص بالتاريخ:

              سمى أحمد عبد الغفور عطار  نصه ( الهجرة: قصة تمثيلية في فصل واحد وسبعة مناظر) وهي صالحة للقراءة فحسب، وغير صالحة ـ فيما أرى ـ للتمثيل، لا لأمور فنية تتعلق بشكلها المسرحي المفترض، ولكن لحساسية أجزاء من النص، وهو ما لا يمكن نقله ممثلاً لدخوله في منطقه الديني المقدس المحرم.

            هذه هي أول الالتباسات في التعامل مع النص، أولاً من حيث مسماه( قصة تمثيلية) وثانيًا: من حيث صعوبات التعامل معه فنيًا، حيث إشكالاته التاريخية والمحظـور المقدس المتعلق بشخصية الرسول ـ صلـى الله عليه وسلم ـ وإخراج الحدث ممثلاً. وربما من أجل ذلك اكتفى الكاتب بنشرها ولم تخرج مسرحيًا.

المصادر:

           تبرز مشكلات التعامل مع النص التاريخي بشكله الناجز متمثلة في إمكانية عبور النص من التاريخ إلى الفن، ومدى الفنية التي يظهر بها. ويبدو أن المشكلة التي أشرت إليها أعلاه جعلت الكاتب على قـدر كبير من الحذر في التعامل مع الحدث تاريخيًا ودينيًا. وهذا لا يظهر على مستوى فنية النـص وما عاناه من مآزق ومشكلات، سأعود إليها بعد قليل، وإنما تظهر أيضًا مـن خارج النص، إذ تكشف الإحالة في آخر النص هذا. ففي آخر هذا النص أورد الكاتب تحت عنوان المصادر ما يلي:

1- سيرة ابن هشام.

2- البداية والنهاية.

3- حياة محمد لهيكل.

             إن الإحالة إلى المصادر في عمل إبداعي تعكس الإحساس الحذر من التعامل فنيًا مع قضيه ذات مساس بالديني المقدس( 1 ). وفي الغالب لم يقصـد الكاتب من إحالته إلى المصادر التوثيق العلمي، فليس المقام مقام بحث أو توثيق، ولكن ذلك يعود حتمًا لشعور الكاتب بخطـورة تعامله مـع حدث تاريخي بالغ الأهـمية والحساسية الدينية، فأراد، في نوع من الاحتماء، أن يحيل قارئه إلى مرجعية مدونة حول الموضـوع. وكأنما الاحتماء يضع سقفًا وإطارًا يحميه من التجاوز أو التحليق والتهويم والانجراف نحو مزيد من الخيال خاصة فيما يتعلق بالخوارق أو المعجزات التي رافقت الموضوع المعالج.

           

         وهذه الإشارة إلى المصادر تدعم ما قلته منذ قليل من أن النص كتب لقارىء لا لمشاهد، وهذا يشير إلى أن الكاتب قد قصد ذلك، مما يعني أنه  يعي مآزق ما يتعامل معه.

               وبما أن هذه هي المصادر التي حرص الكاتب على تحديدها بوصفها مرجعيته الدينية والتاريخية فستكون هذه الموازاة بين النص والمرجعية قائمة على هذا الثالوث لنرى كيف تعامل أحمد عبد الغفور عـطار مع الحدث فنيًا؟ وكيف واجهه إبداعيًا؟ وكيف صنعه؟ وهل كان ثمة إضافات تعطي للنص شخصيته، وتحمـل رؤى وروحًا فنية جديدة أم كان مجرد إعادة كتابة للتاريخ، ومجرد حشد للمرويات والوثائق التاريخية؟

توازيات نصية:

               سأبدأ بهذه التوازيات منطلقة من نص ( الهجرة) ثم سأقارنه بنص ابن هشام وابن كثير وهيكل بدءًا من نقطة تحرك الحدث وهو الاجتماع في دار الندوة .

 

المشهد الأول:

              يبدأ نص الهجرة بمشهد كفار قريش وقد اجتمعوا بدار الندوة، وقد اختلطت أصواتهم، وعلا ضجيجهم، والناس ينتظرون نتائج هذا الاجتماع. ويبدأ النص بحوار بين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يتداولان في أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعلنان فيه الخطـر الذي يتهددهم بوجوده ويقرران قتله. وهنا يدخل الشيطان في زي شيخ وقور مهيب الطلعة، فينهض الجميع إليه ويسألونه: من الشيخ؟ فيجيبهم الشيطان:

" شيخ من نجد سمع بما اجتمعتم له فحضر إليكم ليسمع ما تقولون وترون ولعلكم لا تعدمون منه رأيـًا ولا نصحًا.

عتبة: اجلس يا شيخ، فلعلنا نصيب عندك رأيًا يريحنا من محمد.

أبو جهل: ألا تعرفه؟ إنه ……..

الشيطان مقاطعًا: بلى أليس هذا الذي كفر بأربابكم، وعلاها بالسخرية وسعى بينكم بالفرقة؟ " (1 )

وهكذا ينفتح الحوار بين عتبة وأبي جهل وأمية بن خلف وأبي البخترى وبين الشيطان، يقترح أبو البخترى أن يحبس في الحديد ويغلق دونه الباب؛ لتموت فتنته، فيعترض الشيطان على هذا وعلى الرأي الذي قال به أمية بن خلف وهو الطرد والنفي مبديًا خطورة منطق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً:

"ألا ترون حسن حديثه وحلاوة منطقه وسحر بيانه وكرم صفاته وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به! والله لو فعلتم ذلك، ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وفعله حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم إليكم فيطأ أرضكم به ويأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيًا غير هذا."( 2 )

          

            وهنا يفكر أبو جهل بتفريق دمه بين القبائل، ويقترح قتله، فتتعالى صيحات الإعجاب، ويهلل الشيطان مباركًا الرأي وينتهي بذلك المشهد الأول.

           

           ولنر هذه القطعة من الأحداث التي فككت في شكل حوار كيف جاءت في النص التاريخي. لنر كيف أورد هذا الحدث ابن هشام يقول:

          " قال ابن اسحاق: لما رأت قريش أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم …. وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة …. يتشاورون فيها…. قال لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة لبتشاوروا فيها…. غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمـة فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفًا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال شيخ من أهل نجد( 1 ) سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا. قالوا: أجل، فادخل. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش" ( 2)   وراح ابن هشام يعدد الأسماء الكثيرة، تلك التي اختار منها أحمد عبد الغفور عطار الشخصيات المتحاورة، وهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البخترى بن هشام ,,,, إلخ 

 

            وحسب ابن هشام يتداول الحاضرون فكرة الحبس والنفي والقتل، ويأخذها أحمد عبد الغفور كـما هي منسوبة لقائلها وبلفظها دون أي تعديل أو تحوير يذكر، وكما أنهى ابن هشام هذا الجزء من سلسلة الأحداث بالانتقال إلى استخلاف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي في فراشه يبدأ كذلك المشهد الثاني في نص (الهجرة).

           أما في نص ابن كثير فيرد الحدث بتفصيلاته المذكورة السالفة وبنسبة المرويات نفسها إلى أصحابها.(1)

أما عند هيكل فيرد الحدث هكذا:

" واجتمع القوم بدار الندوة يفكرون في هذا كله وفي وسيلة اتقائه. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد واغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم ، حتى يصيبه ما أصابهم. لكن هذا الرأي لم يلق سميعًا. وقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه مـن بلادنا ثم لا نبالي بعد ذلك من أمره شيئًا. لكنهم خافوا أن يلحق، بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرقون منه. وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا، وأن يعطوا كل فتى سيفًا صارمًا بتارًا فيضربوه جميعًا ضربة رجـــل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل. ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعاً، فيرضوا فيه بالدية وتستريح قريش من هذا الذي بدد شملها ….. وأعجبهم هذا الرأي فاطمأنوا إليه."( 2 )

              

             هنا يختار محمد حسين هيكل أن لا ينسب الأقوال إلى أصحابها، ويختار أن يسقط شخصية إبليس من الحدث. ولا شك أن إبقاء أحمد عبد الغفور عطار على شخصية إبليس معتمدًا على ابن هشام وابن كثير وعدم التفاته لهيكل هنا ـ اختيار له دلالاته في سياق نص أدبي يحرص كاتبه على أن يمده بكل ما يمكن أن يشدّ إحساس متلق مهيأ بأفق تلق للمرويات عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل ما حفّ بها من كرامات ومعجزات وخوارق.

 

          وقد كان اتكاء  أحمد عبد الغفور عطار على نص ابن هشام وابن كثير اتكاءً أمينًا. وبدت مواكبته للأسانيد والمرويات المنقولة مواكبة دقيقة، ولكن استثماره لحركة الحوار في نص ابن هشام وابن كثير لا شك أضفى على نصه حيوية وحركة مقارنة بجمود اللغة الواصفة عند هيكل.

 المشهد الثاني:

يبدأ أحمد عبد الغفور عطار بهذه الجمل الوصفية الممهدة للمنظر الثاني:

" فتيان قريش ومعهم أبو جهل مجتمعون على باب محمد يتربصون به، وجبريل يهبط إلى محمد ينبئه بخبر القوم"( 1)

ثم يبدأ الحوار على النحو التالي:

"جبريل: يا محمد لا تبت الليلة على فراشك الذي كنت تبيت فيه فإن القوم ليأتمرون بك .

محمد: الله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.

(محمد وعلى بن أبي طالب وأولاد عبد المطلب)

محمد: يا علي، نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فإنه لن يخلص إليك ما تكره!

على: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله."(2 )

         

            ثم يدور الحوار بين أبي جهل وفتيان قريش يسخرون من الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  وهم ينتظرون خروجه. ويردد أبو جهل: إن محمدًا قد زعم إنهم إن تابعوه وبعثوا بعد الموت فستكون لهم الجنان وإن لم يفعلوا فسيكون مصيرهم القتل وفي الآخرة يحرقون في النار. وهنا ومع ضحكات السخــرية والاستهجان يُدخل أحمد عبد الغفور عطار شخصية الرسول.

 "وهنا يخرج محمد وبيده حفنة من تراب.

محمد: نعم، أنا الذي أقول ذلك. وأنت أحدهم.

( ونثر على رأس أبي جهل التراب، وقد أخذ الله أبصار الفتيان فلم يروه، فنثر على رؤوسهم التراب، وهو يتلو قوله تعالى: يس، والقرآن الحكيم إلى قوله:فاغشيناهم فهم لا يبصرون ثم انصرف، وبينما الفتيان في غشيتهم أتاهم آت ممن لم يكن معهم وأخبرهم خبر محمد.)

الآتي: ( الفتيان) ما تنتظرون ههنا؟

الفتيان: محمدًا

الآتي: خيبكم الله! لقد و الله خرج."( 1 )

             ولو عدنا إلى نص ابن هشام لرأينا سلسلة الحدث تنتقل مباشرة من دار الندوة إلى مجئ جبريل ـ عليه السلام ـ  إلى الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ ثم ينتقل بنا إلى طلب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من علي ـ رضى الله عنه ـ أن يتسجى بالبرد الأخضر، وينام في الفراش، بالألفاظ نفسها التي اعتمــدها أحمد عبد الغفور عطار، وسترد العبارات نفسها التي سخـر بها أبو جهل من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما أن خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتم في اللحظة نفسها التي ينهي فيها أبو جهل كلامه. ويرد هذا السرد التاريخي الممزوج بالغرائبي و السحري عند ابن هشام على هذا النحو يقول ابن هشام :

" وخرج عليهم رسول الله صلى ـ الله عليه وسلم ـ فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : نعم ، أنا أقول ذلك ، وأنت أحدهم . وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه ، فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس : يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم * إلى قوله : فأغشيناهم فهم لا يبصرون * 000 حتى فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  من هؤلاء الآيات ، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب . فأتاهم آتٍ ممن لم يكن معهم فقال : ما تنتظرون هاهنا ؟ قالوا محمدًا، قال خيبكم الله ، قد والله خرج عليكم محمد . ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه ترابًا ، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب’ ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم – فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائمًا عليه برده، فلم يبرحوا حتى أصبحوا ، فقام علي ـ  رضي الله عنه ـ  عن الفراش فقالوا : والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا ". ( 1 )

             

              هكذا يختار أحمد عبد الغفور عطار أن يحايث نص ابن هشام محايثة شبه كاملة لا ينقص منها شيئًا ، ويزيد قليلاً بأن يحول تشكك المجتمعين مما قاله لهم الآتي إلى : اذهـب يا كذوب أجئت تخذلنا ؟ أتهزأ بنا ؟ هذا محمد نائم في برده الحضرمي الأخضر . فيرد الآتي : سترون الصــدق مع الصبح ، وما الصبح ببعيد!!  ويتواثب الفتيان إلى الآتي فيمنعهم أبو جهل فيجلسون ينتظرون (2). ويبدأ نص ابن كثير بعد مشهد دار الندوة بمجيء جبريل إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ينقل ابن كثير نص ابن هشام كما هو دون أية تعديلات وينسبها إليه، ويكشف سلسلة الأسانيد.( 3 )

              

             أما محمد حسين هيكل ، المصدر الثالث لأحمد عبد الغفور عطار، فيتبع لغته الواصفة للحدث دون إيراد حوار أو نسبة أقاويل، ويكتفي بالإشارة إلى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيتّ موعد السفر، واحتفظ به لنفسه بعد أن أمر عليًا أن ينام في فراشه. ويسقط محمد حسين هيكل حكاية خروج الرسول إلى الجماعة المنتظرة في خارج الدار وحديثه معهم وذر التراب على رؤوسهم وغشيان أبصارهم وقراءة آيات من سـورة يس، ويكتفي بما يلي:

" ففي ليلة الهجرة أسر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى على بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر، وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وجعل هؤلاء الفتية من قريش ينظرون من فرجة إلى مكان نوم النبي، فيرون في الفراش رجلاً فتطمئن نفوسهم إلى أنه لم يفر. فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غفلة منهم إلى دار أبي بكر، وخرج الرجلان من خوخة في ظهرها وانطلقا جنوبًا إلى غار ثور."( 4 )

        

 

 

               لا يأبه أحمد عبد الغفور عطار لما أسقطه محمد حسين هيكل من الحكاية، ويحايث نص ابن هشام، ويختار أن يبقي ما فيه إثارة للمخيلة والذي فيه مزيد من الكرامات والمعجزات. هذا الإبقاء والاختيار لا شك له دلالته، خاصة أن استغناء هيكل عما لا يمكن للعقل أن يقبله إلا من باب قبول الكرامات والمعجزات أو السحر كان واضحًأ أمام أحمد عبد الغفور عطار. والاختيار هنا اختيار واع من جملة مصادر. فالحكاية كما وردت عن ابن هشام فيها من الحيوية واستثارة الخيال ما يخدم هدف أحمد عبد الغفور عطار لعمل أراد له أن يكون تحت باب الفن والأدب المؤثر. ولا شك أنه لو استغنى عن هذه اللحظات المشحونة بالغرائبية والإثارة لسلخ النص عن جزء مهم وفعال فنيًا وتاريخيًا.

المشهد الثالث:

            المنظر الثالث في نص( الهجرة) يدور في بيت أبي بكر ومعـه ابنتاه أسماء وعائشة، حيث يرى أبو بكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قادمًا في الهاجرة، وهو ما توجس منه أبو بكر أمرًا جللاً. ويستقبل أبو بكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي جاء يبلغه بأن الله أذن له بالخروج والهجرة. ويتوسل أبو بكر الرسول ليصحبه فيأذن له، ويتوقف الحوار فجأة بين الرسول وأبي بكر ، ويختفيان ،  ليستكمل المشهد مع أسماء وعائشة وهما تجهزان للسفر. ثم يظهر فجأة أبو بكر وهو يعطي تعليماته ووصاياه لابنه عبد الله وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الذين ظهروا أيضًا فجأة على مسرح الحدث.

" يا عبد الله، بت عندنا بغار ثور حيث نريد أن نختفي حتى نهاجر، فتدلج من عندنا بسحر فتصبح بمكة كبائت بها، تسمع إلى قريش، فإذا رجعت إلينا حينما يختلط الظلام نبأتنا بخبر القوم. وأنت يا عامر بن فهيرة، أرح علينا الغنم بعد العشاء كل ليلة، لنذبح ونحلب، وتعفي على آثار من سيأتينا، وأنت، يا عبد الله بن أريقط إتينا بالراحلتين صبح ثلاث ليال لننطلق حيث يريد الرسول هيا اذهبوا لشئونكم واكتموا الخبر."( 1 )

       

   

           ومع انقطاعات الحوار والدخول والخروج المفاجئ للشخصيات التي تحرك كقطع الشطرنج إلا أن هذا المشهد على قدر من التصرف الذي ظهر في تفكيك الجمل والمرويات المنقولة عن ابن هشام وتحويلها إلى حوار حي.

            عند ابن هشام تنتقل سلسلة الحدث مباشرة بعد خروج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من داره أمام عيون المترصدين إلى بيت أبي بكر. ويقص ابن هشام استقبال أبي بكر له وطلب الرسول منه أن يخرج من عنده ليفضي إليه بسر الهجرة، ويكشف أبو بكر أن من عنده هما ابنتاه أسماء وعائشة. ويطلب من الرسول أن يصاحبه بعد أن أفضى إليه بسر الهجرة. ويلي ذلك عند ابن هشام وصف خروج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيت أبي بكر إلى غار ثور. وإعطاء أبي بكر تعليماته لابنه عبد الله ولعامر بن فهيرة، ومن ثم انتقال الرفيقين إلى الغار وموالاة أسماء لهما وعنايتها بهما، وتسمية أسماء بذات النطاقين.( 1 ) وكـل هذه التفصيلات وردت في نص الهجرة في المشهد السابق. مع شيء من التقديم والتأخير، كتقديم حديث أسماء وعائشة عن زاد الرحلة وعن نطاق أسماء.

            

            ويمضي الحدث بالترتيب نفسه الذي أورده ابن هشام عند ابن كثير، وينقل عنه ويسند الكلام المنقول فيه إلىّ عائشة رضى الله عنها.

           

            وعند هيكل تتحول المرويات والأسانيد المطولة ـ كما سبق أن لاحظنا ـ إلى جمل واصفة مركزة تصف انتقال الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ إلى الغار وتحديد أسماء من عرف مكان الرفيقين ومن اعتنى بهما. ولا يبدأ محمد حسين هيكل في دفق الحيوية في ما يسرده إلا حينما يبدأ بسرد حــوار دار بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر الصديق في الغار، وهو مقطع سردي يبدو مميزًا وسط الجمـل المركزة الواصفة. وعلى أية حال مشهد الرفيقين في الغار عند هيكل سيستفيد منـه أحمد عبد الغفور عطار، ولكن في المشهد الخامس والسادس.

المشهد الرابع:

               في هذا المشهد القصير يعمد أحمد عبد الغفور عطار إلى تصوير مشي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر الصديق إلى الجبل, ثم يصور لحظة دخولهما الغار. ويفتتح المشهد بدعاء طويل على لسان الرسول. وهو نص لم يرد عند ابن هشام، ولكن أورده ابن كثير.( 1 ) ثم يعقب الدعاء حديث الرفيقين وهما يمشيان إلى الغار، وتصوير تقدم أبي بكر تارة وتأخره بين يدي الرسول قاصدًا حمايته، ثم وصولهما إلى الغار وتحسس أبي بكر للغار قبل دخول الرسول ليحميه بنفسه، ويدفع عنه غوائل الهوام. ويورد أحمد عبدالغفور عطار حادثة ذكرها ابن كثير، ولم يوردها ابن هشام عن إصابة يد أبي بكر بحجر وتمثله ببيت الشعر المشهور: 

                            ما أنت إلا أصبع دميت       وفي سبيل الله ما لقيت( 2 )

            

            وهذا المشهد يكاد يكون نقلاً جزئيًا لبعض جمل اقتطعت من نص ابن هشام وأضيف إليها بعض مما ورد من نص ابن كثير دون تحوير. أما هيكل فلم يكن لنصه هنا من أثر؛ فهيكل كان قد أهمل تصوير مرحلـة صعود الجبل والمرويات حول تحسس أبي بكر للغار وتفحصه قبل دخول النبي إليه.

          

            ولكن مما يدعو إلى الاستغراب أن أحمد عبد الغفور عطار ـ وهو كما لاحظنا يتابع متابعة شبه كاملة نص ابن هشام ـ أهمل ضمن تسلسل الحدث كما يرويه ابن هشام أهمل قصة الجني الذي تغنى بأبيات كشف فيها عن وجهة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لافت للنظر. خاصة وقد لاحظنا ولع الكاتب بالاحتفاظ بكل ماله طابع غرائبي أو ميتافيزيقي أو معجز في سياق الســرد. سنلاحظ بعد قليل كيف أنه سيحايث نص ابن هشام، وسيعتمد أكثر على ابن كثير في الجانب الغرائبي المرتبط بالغار، حيث العنكبوت والشجــــرة والحمامتان الوحشيتان. إذ حين يهمل ابن هشام هذه المعجزة يترك أحمد عبد الغفور عطار نص ابن هشام، ويستدني نص ابن كثير.

 

المشهد الخامس:

              يبدأ المشهد الخامس بجمل افتتاحية تصف حركة فتيان قريش وقد خرجوا للبحث عن الرسول وعلى رأسهم كبار كفار قريش وسراقة بن مالك طمعًا في مائة من الإبل جعلت جائزة لمن يأتي به.

 

               وهذا الفصل طويل نسبيًا مقارنة بغيره، ففيه يمتد الحوار ويطول. وهو مجرد استعادة أمينة وتكرار لجمل أو مرويات وردت عند ابن هشام تصور تتبع قريش للرفيقين ووصولهم إلى الغار. ويبدو المشهد التمثيلي منقسمًا، ففجأة يتحاور كفار قريش وهم حول فتحة الغار، وتارة ينتقل الحوار بين الرسـول ورفيقه في الغار. وتخبرنا الجمل الوصفية أن الرسول قام يصلي، وأن أبا بكر متخذ وضــع المراقب. ثم ينتقل لتصوير خيبة أمل سراقة ومن معه حينما تتبعوا الطريق حتى فم الغار ولم يجدوا فيه طلبهم. وهنا يعتمد على ما روي من معجزات صرفت عيون المطاردين. وهي المرويات عن نسج العنكبوت، الذي غطى فتحة الغار، وعن الشجيرة التي نمت فجأة، وتشابكت أغصانها، وسدت فم الغار. وعن الحمامتين الوحشيتين اللتين بقيتا في عشهما في فم الغار. هذه المعجزات لم يوردها ابن هشام, ونقلها ابن كثير مع شروح وتفاسير، ولذلك يعمد أحمد عبد الغفور عطار إلى تجاوز ابن هشام، ويختار ما يكمل نصه من ابن كثير.

 

           وقد نبه محمد حسين هيكل إلى اختفاء الإشارة إلى هذه المعجزات في بعض نصوص السير وخاصة سيرة ابن هشام. ويبدو أن أحمد عبد الغفور عطار، مع اعتماده على هيكل كمصـدر حديث، يتجاهل ما أسقطه، ويعتمد على ابن كثير. وهو بذلك يعلن عن اختيار متعمد يعي فيه أهمية ما يختار، ودور هذا الذي يـختاره في إذكاء الحيوية والخيال في النص. ولكن اللافت للنظر أيضًا أن ابن كثير، وهو مصدر أساسي لأحمد عبد الغفور عطار في هذا المشهد خاصة ويتقدم على ابن هشام فيه، قد أورد مرويات ذات طاقة فنية عالية، وكان بإمكان أحمد عبد الغفور عطار الاستفادة منها فنيًا ولكنه لم يفعل. فمثلاً: يقول ابن كثير: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رد على أبي بكر حينما قال له لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه بقوله: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ثم يستطرد: "وقد ذكـر بعض أهل السيرة، أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو جاءونا من هاهنا لذهبنا من هاهنا. فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخـر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه. وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة." ( 1 )

المشهد السادس :

               في هذا المشهد نرى الرسول ورفيقه وقد خرجا من غار ثور، يقطعان الطريق مع ابن أريقط يدلهما, ويرصد لهما الطريق الملائم. وفي هذا المشهد يتم تصوير بقية هذه المطاردة. وهنا تتداخل الحوارات وتبدأ لتنقطع فجأة، فبينما الحوار بين أبي بكر وابن أريقط يتوقف الحوار فجأة، وتنقلنا جمل وصفية إلى مكان آخر تخبرنا إن سراقة كان جالسًا مع جماعة من أهل قريش فحضر رجل من بني مدلج فقال:" لقد رأيت رحال ثلاثة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه( 2 )  وبعدها مباشرة يرد الحوار مرة أخرى بين أبي بكر وابن أريقط نعرف من خلاله أن فارسًا يتبع الركب. والمشهد بهذا القطع المفاجئ في الحوار وظهور سراقة بدا مهلهلاً وغير مقنع. ولا شك أن هذا تفكيك مبتسر للمرويات التي أوردها ابن هشام التي قصت بداية تتبع سراقة للرسول وأبي بكر. فقد أورد ابن هشام سردًا مؤثرًا وفيه ما كان بإمكان الكاتب استثماره فنيًا لإغناء النص، ولكن تم تجاوزه. لننظر في نص ابن هشام كيف يسرد هذه السلسلة.  يقول ابن هشام في نص منسوب لسراقة إنه قال: " لما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة مهاجرًا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. قال : فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا عليّ آنفاً ، إني لأراهم محمدًا وأصحابه قال: فأومأت إليه بعيني : أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان،يبتغون ضالة لهم، قال: لعله, ثم سكت. قال: ثم مكثت قليلاً ، ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد[ لي] إلى بطن الوادي, وأمرت بسلاحي فأخرج [ لي ] من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ثم انطلقت فلبست لا متي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره" لا يضره" قال: وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة. قال: فركبت على أثره، فبينما فرسي يشتدّ عثر بي فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا؟ قال : ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذي أكره " لا يضره" قال: فـأبيت إلا أن أتبعه. قـال فركبت في أثره فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في

 

 

 الأرض، وسقطتُ  عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار قال: فعرفت ـ حين رأيت ذلك ـ أنه قد منع مني ، وأنه ظاهر." ( 1 )

            

           هذا الجزء من السرد الذي يرد عند ابن هشام بما فيه من حيوية وحركة وإثارة وإشارة إلى المعتقد الجاهلي عن الاستقسام بالأزلام لم يلفت نظر الكاتب، مع أنه ـ كما رأينا فيما تقدم ـ يتابع حركة سرد الحدث عند ابن هشام كما هي.

            

            لكن الذي بقي  في هذا المشهد من النص التاريخي لابن هشام وابن كثير هو التركيز على معجزة إخفاق سراقة في اللحاق بالنبي بسبب تسمر قوائم فرسه وانغرازها عميقًا  في الرمال. وقد مر قبل قليل نص ابن هشام حولها. أما ابن كثير فيذكر قصة سراقة بلفظ مشابه لابن هشام، ويؤكد قصة استقسام سراقة  بالأزلام، ويكرر ما ذكره سراقة من سوخان يدي فرسه في الأرض, وإنها حين قامت ثار غبار كالدخان في السماء(2 ).  أما هيكل فيورد قصة سراقة وقد جردها من حكاية الاستقسام بالأزلام وسوخان يدي الفرس، ويعطيها تفسيرًا عقلانيًا يجعل ما حدث لسراقة مجرد كبوة فرس عنيفة ألقت فارسها يتدحرج مع سلاحه . ( 3 )

 

            و أحمد عبد الغفور عطار لا يعجبه هذا التطفيف، ويبحث عن المعجزة في هذا الإخفاق، فيصف كيف كبا سراقة أكثر من مرة وهو يلحق بالنبي وصاحبه. يقول أحمد عبد الغفور عطار:

"يكبو فرسه فيزجره فينهض, ثم يكبو كبوة شديدة، ولكنه يزجره فينهض، ويمشي خطوتين ثقيلتين ثم تسيخ قوائمه في الرمل فيصيب سراقة الرعب.

 

 

 أبو بكر مغتبطًا : الحمد لله، مت بغيظك يا عدو الله! ولتقبر بفرسك حيًا، يا رسول الله، لقد ساخت قوائم فرس سراقة، إنه لا محالة هالك أشهد أنك لرسول الله حقاً وصدقًا . " ( 1 )

           

          هنا في نص الهجرة لم تسخ قوائم الفــرس فحسب، وحينما قامت  لم يثر غبار كالدخان في السماء فحسب، بل يبدو الفارس ملتصقًا بفرسه، ويكاد يقبر معه. وصار ذلك من المعجزات الدالة على نبوة محمد كما يشهق بذلك أبو بكر الصديق!!

 

          ويظهر أن الكاتب قد مال إلى التفسيرات التي لحقت بإخفاق سراقة في اللحاق بالنبي وصاحبه، تلك المرويات والتفسيرات التي أوردها ابن كثير. حيث يذكر إن سراقة بعد أن كتب له النبي كتاب الأمان عاد أدراجه، وصار يصرف الناس عن وجهة الرسول. ثم صار فيما بعد يقص للناس ما حدث له و لفرسه. حتى إن قريشًا خافت أن يكون هذا سببًا  لإسلام كثير منهم. ويورد ابن كثير شعرًالأبي جهل يحذر فيه من سراقة، فيرد عليه سراقة بأبيات شعر يؤكد فيها أن ما لا قاه في طريقه إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شدائد من الدلائل على نبوته. يقول ابن كثير : " فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا:

أبا الحكم والله لو كنت شاهـدًا        لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

عجبت ولم تشكك بأن محـمدًا        رسول وبرهان فمن ذا يقاومه

عليك بكف القوم عنــه فإنني        إخال لنا يـومًا ستبدو معالمه

بأمر تود النصر فيه فـــإنهم       وإن جميع الناس طرًا مسالمه( 2 )

 

 

 المشهد السابع:

             ينهي الكاتب هذا النص بمشهد قصير، يقدم له بقوله: إن المسلمين خرجوا لأيام متتالية يترقبون وصول النبي وصاحبه " وذات يوم خرجوا من الصباح حتى الظهيرة اللاهبة. ثم رجعوا إلى بيوتهم, ليعودوا عندما تنكسر حدة الشمس, وبينما هم كذلك سمعوا يهوديًا يصيح وهو فوق أطم من الآطام:

اليهودي : يا بني قيلة ، هذا صاحبكم قد جاء يا معشر المسلمين، هذا محمد"( 1 ) ثم يتراكض الناس وهم يرحبون بالرسول والغلمان يتصايحون: الله أكبر، الله أكبر، قد جاء محمد.

          هكذا ينقل الكاتب نقلاً أمينًا من ابن هشام, لكنه لا يكتفي بابن هشام الذي لم يورد النشيد الذي أنشدته نساء المدينة وصبيانها احتفالاً بمقدم الرسول, ويختار أن يضيف إلى نصه ما أورده ابن كثير إذ يقول: " وقال البيهقي : أخبرنا أبو عمرو الأديب, أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:

طلع البدر علينا           من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا         ما دعا لله داع" ( 2 )

 يختار أحمد عبد الغفور عطار أن يضيف النشيد، الذي لم يورده كذلك هيكل إلى نصه ويزيد عليه:

                                أيها المبعوث فينا            جئت بالأمر المطاع (3 )

ليسدل ستار هذا النص على هذا البيت يردده الصبيان.

              واختيار الكاتب هذه الإضافة على الرغم من أن خلافاً حولها وحول صحة ارتباطها بحدث الهجرة( 1 ) اختيار يتسق مع ما رأيناه من أنه  يسير دائمًا بمحاذاة المصدر الذي يجد فيه دعمًا للنص فنيًا خاصة إذا ما تعلق الأمر بسرد غرائبي أو كرامة أو معجزة.

 

####

 

             يبدو القص عند ابن هشام وابن كثير الذي ارتبط بالسيرة النبوية, وخاصة في هذا الجز ء المتعلق بأحداث ظهور النبي والهجرة ذا طاقة فنية عالية, فالسرد فيها مغرِ للدارس الذي يبحث عن التخوم والتقاطعات بين نسيج السرد المتقن وبين ما يهيئه التاريخ من وقائع حتمية جاهزة, تلك التمازجات بين التاريخ والفن, بين الواقع وما فوق الواقع بما فيه من كرامات وغرائب تمنح النص, والخيال بعدًا أسطوريًا يستحق الدراسة ، وهو ما أتمنى أن يتحقق على يدي أو على يد باحث آخر.

           طبيعة السرد تلك الجاذبة للدارس والقارىء لا شك كانت من أسباب الجذب لأديب مثل أحمد عبد الغفور عطار يبحث عن مادة من خلالها  يصنع نصه في موضـوع مهم وأثير لديه. ولا شك أن إغراء النص الناجز تاريخًا والمدون بلغته العالية والمثيرة سرديًا كان قويًا ، بحيث إن الكاتب ظل مقيدًا إلى حد كبير بالنص فحايثه محايثة شبه كاملة. وهذا أدى بنصه إلى إيجابيات وسلبيات أيضًا وسمت النص الذي أراد له أن يكون مسرحيًا .

           لقد أشرت في مطلع هذه الدراسة إلى المحظور الديني المتعلق بإمكانية إخراج النص مسرحيًا، وهو ما سأتجاوز الحديث عنه هنا، للحديث عن مسألة الاختيار لهذا الجزء من السيرة ليكون موضـوعًا ونقطة بدء وانطلاق للعمل المسرحي, ثم اختيار نقطة النهاية, وما انحصر بينهما من أحداث وأمكنة.

           نقطة البدء كانت من الاجتماع في دار الندوة، من هناك انطلق النص. وهي نقطة متوترة للبدء اختارها الكاتب من سلسلة أحداث في حياة الرسول وتاريخه، وتمثل لحظة للسرد متأزمة. واختيار الكاتب لهذه اللحظة من السرد التاريخي اختيار موفق فالحدث يبدو مفصليًا ، والبدء به فيه إثارة وتركيز، وقد وجده عند ابن هشام معدًا فانطلق منه.

 

         أما نقطة النهاية بدخول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ  إلى يثرب فخاتمة سعيدة لقصة مطاردة شاقة عانها الرسول ومن معه. وهي لحظة انتصار وفرح أمكــن للكاتب أن يختارها خاتمة لهذا النص القصير جدًا والمقتطع بتوفيق من السيرة النبوية الحافلة باللحظات المتأزمة والمواقف التاريخية. ولو لم يتوقف النص هنا لما أمكن الكاتب ـ  وهو يتابع ابن هشام وابن كثير ـ أن يوقف السرد!! ولا أن يكثف أحداثًا تجمعـــها حبكة موحدة، حبكة كانت جاهزة في الأصل، وكان كل فضل الكاتب وجهده في أنه انتبه كيف يختارها بين معقوفتي دار الندوة ومشارف يثرب.

 

            والمتأمل ما بين نقطة البدء ونقطة النهاية سيلحظ حشدًا من المواقف والأحداث والأمكنة. فالمشهد الأول يدور في دار الندوة . والثاني في بيت النبي وعند بابه. والثالث في بيت أبي بكر. والرابع في الطريق إلى غار ثور ثم في الغار نفسه. والخامس في الطريق إلى الغار أيضًا وعند فتحة الغار. والسادس في الطريق إلى يثرب . والسابع في مشارف يثرب ومدخلها . هكذا تفتتت وحدة المكان بين كل هذه المواقع في نص مسرحي بالغ القصر . كذلك امتدّ الزمن المسرحي من المشهد الأول إلى الأخير فسيحاً فشتت وحدة أخرى مهمة . ولكن كل ذلك عوضته وحدة الموضوع التي ساعدت على لم هذا الشتات . فوحدة الموضوع والصراع والتوتـــر المرتبط بالحدث الرئيس ، وهو نية القتل والمطاردة وما تبعها من ترتيبات الفرار والهجرة ، كل ذلك كان من المعطيات الجاهزة التي وفرها النص التاريخي . ولاشك أن اختيار هذه القطعة من الأحداث كان موفقًا ، لما في الحدث أساسًا من صراع وتوتر ، ولما فيه من تماسك ووحدة ، وإن كانت الصياغة المسرحية ضعيفة ومهلهلة إلى حد كبير .

             وقد كشفت التوازيات النصية في صلب هذه الدراسة عن ارتباكات الصياغة, وعن الجمل الواصفة والانقطاعات المفاجئة في الحوار ، وعن التداخل العشوائي في اللحظة نفسها لعدد من المشاهد ، مما لا أحتاج هنا لإعادة الحديث عنه ، وهو ما يعكس ضعفًا في صناعة النص مسرحيًا وتداخلاً  في التقنيات المسرحية والسينمائية أو التمثيلية التلفزيونية . وكل ذلك يبدو مقبولاً إذا ما لاحظنا أن النص يعد من أوائل النصوص في الفن المسرحي السعودي( 1 ) ، وبذلك تكون هذه السلبيات مفهومة في إطار العثرات المتوقعة التي ترافق عادة المحاولات الأولى .

          وما دمت أتحدث في منطقة الاختيارات, اختيارات الكاتب من النص ، فلابد من الإشارة إلى أن الكاتب في اعتماده على مصادر ثلاثة في صناعة نص يعتمد على التاريخ كان ـ  فيما يبدو – قد قرر أن الغرائبية التي ترافق بعض الأحداث التاريخية التي يقصها مطلب مهم عليه السعي وراءه. ولست معنية في هذا السياق بتتبع صحة الأسانيد أو المرويات عما ورد في قصة الهجرة من كرامات و معجزات وأمور خارقة، فذلك شأن دراسات محققة في السيرة ومسؤولية المؤرخ المدقق، ولكن يعنيني هنا في دراســة نص أدبي أن أكشف سلسلة الاختيارات التي قام بها الكاتب, ليضيف إلى نصه ما يقويه فنيًا. ولا شك أن وجود هذه المرويات فيه يقويه, ويبعده عن صرامة العقل والبحث عن مصداقية الحدث التاريخي المصفى مما أطاف به من تزيدات  أو عمل للخيال. وذلك جسر عبور مهم للنص من التاريخ إلى الفن وعاه الكاتب وحــرص على أن يحافظ عليه. فمثلاً حينما أسقط هيكل قصة إبليس في دار الندوة، وقصــــة ذر النبي التراب على رؤوس المتربصين به عند باب الدار وغشيان أبصارهم وهم وقوف ينتظرون يممّ الكاتب شطـر نص ابن هشام وابن كثير. وحينما ضعّف هيكل قصة العنكبوت والحمامتين والشجــرة النامية في فتحة الكهف وحينما أهملها ابن هشام اتجه صوب ابن كثير الذي أوردها،كما تجاهل الثلاثة في قصة سراقة، ليعطي للقصة بعدًا غرائبيًا مبالغًا فيه.

           يبقى أخيرًا السؤال: العودة إلى التاريخ لماذا؟ وما الذي أضافه النص الجديد؟ وهل ظهرت شخصية النص وكاتبه؟

لاشك أن التعامل مع التاريخ في نص ممسرح يعني مزيدًا من الموضوعية والبعد عن الذاتية . ولذلك من العبث البحث في نص كهذا عن ذاتية أحمد عبد الغفور عطار ، أو بلغة مجازية ، عن نبضه الخاص. ولكن كان يمكن التعامل مع هذا الحدث ( الهجرة ) , وإن كان معطى تاريخيًا, بوصفه حدثًا نفسيًا وبمعناه الداخلي الخاص . حيث كان من الممكن أن يكون النص صيغة فنية تعكس رؤية خاصة بالكاتب ، وكان يمكن أن يكـون صيغة فنية للعبور من التاريخ إلى اللحظة المعاصرة فوق جسر الذات . ولكن حدث تجفيف كامل للذات ، وولاء كامل للتاريخ ثم انقطاع كامل عن اللحظة الراهنة تاريخيًا .

إن توظيف التاريخ ، وخاصة توظيف حدث مميز كهذا ، كان يمكن اغناؤه بهّم اللحظة التاريخية والحضارية الراهنة للمبدع ، فقد كتب هذا النص سنة 1366هـ/ 1946م( 1 ) أي في تلك الفترة الحرجة من تاريخ العرب المعاصر بما فيها من مآزق سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية ، وكان يمكن أن يكون لعبور النص من التاريخ القديم إلى التاريخ المعاصر عبر الفن دلالات عميقة لو عبر النص أيضًا عالم المبدع برؤاه الخاصة. ولكن قد لا يكون أحمد عبد الغفور عطار قد طرح على نفسه هذا السؤال : لماذا  اختار هذا الحدث تحديدًا؟  وما الذي سأخلعه على الماضي من معانٍ ورؤى حينما استحضره ؟ ربما أن أسئلة أو أفكارًا كهذه لم تمر بذهن الكاتب ، فاكتفى بمرحلة الاختيار فحسب ، وانتزاع هذا الحدث ورصفه بجوار جملة مرويات مع بعض التحوير اللازم هنا وهناك ، واكتفى بدور المراقب أو المشاهد متعمدًا .

              تبدو المسافة الحذرة بينه كمبدع وبين النص التاريخي واضحة، كما أن التهيب إزاءه تعكسه ضآلة الجهد الفني المبذول لصياغة مسرحية, كما يكشفها اهتمامه بتحديد مصادره التي أخذ عنها. ولا شك أن حساسية الموضوع دينيًا تجعل حذره مبررًا ومقبولاً إلى حد كبير بحيث تدعوه لذكر سنده التاريخي ومصدره ومرجعيته التوثيقية، ولكن ذلك لا يعفيه من فنية التعامل مع ما بين يديه.

             

              إن الصعوبات والسلبيات التي تحدق بالتعامل مع نص جاهز كهذا له جذره التاريخي الديني الحساس تجعل الموقف الحذر مضاعفًا لدى كاتب يتهيب دفعه إلى قلب الحاضر. وهذا جعله في موقف سلبي انعكس على النص فبدا أحادي المعنى غير قابل لتعدد الرؤى ولتنوع التأويل. فمع حدث كهذا وتعامل كهذا تتوالى حيثيات تجفيف النص وتسطيحه وإغلاق أفقه، فيبدو جامدًا باهتًا يتحدث لوحده أو يلقي خطبته ويمضي. ومما يجعل خيبة توقع القارىء تتفاقم أن هذا النص الجاهز الضاربة جذوره في الديني المقدس مشهور، إذ شهرة الحدث الدينية والتاريخية تجعل القارىء على معرفة وثيقة بطبيعة الحدث وتفصيلاته الدقيقة ، مما يجعل توقعه فنيًا يخيب, وتغيب معه المتعة أو الدهشة. على حين لو كان الحدث أقل شهرة لربما كانت قلة معرفة القارىء تساعد في تلقيه نصًا لا يعرف الحدود الفاصلة فيه بين التاريخ والفن, ويمكن أن تلتبس عليه التخوم أو البرازخ عند التقاء خطي التاريخ والفن.

             

             هكذا إذاً يعبر حذراً نص (الهجرة) من التاريخ، ويحاول أن يشارف الفن، ولكنه يحط باهتًا وضعيفاً بعيداً عن عتباته.

 

 

المصادر والمراجع

  • ابن كثير, أبو الفداء الحافظ بن كثير

   البداية والنهاية. اعتنى به د. عبد الحميد هنداوي ( بيروت, المكتبة العصرية. ط. الأولى سنة 1421هـ / 2001م)

_ ابن هشام, أبو محمد, عبد الملك

  السيرة النبوية تحقيق جمال ثابت ومحمد محمود وسيد إبراهيم( القاهرة, دار الحديث ط. الأولى 1416هـ / 1996م)

ـ أحمد ،  مهدي رزق الله

   السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: دراسة تحليلية ( الرياض, إصدارت مركز الملك فيصل للبحوث,ط, الأولى 1416هـ/ 1992م)

ـ أرسطو

كتاب أرسطو طاليس في الشعر. تحقيق د. شكري عياد(القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993م)

ـ ديتش ،  ديفد

  مناهج النقد بين النظرية والتطبيق. ترجمة محمد يوسف نجم (بيروت. دار صادر سنة 1967م)

ـ عطار, أحمد عبد الغفور

  قطرة من يراع( المطبعة المنيرية سنة 1375هـ / 1955م)

ـ مندور, محمد

 الفن التمثيلي( القاهرة, دار المعارف ط. الثالثة )                                                                                                                 ـ هيكل ، محمد حسين

حياة محمد (القاهرة ، دار المعارف ط. الحادية والعشرون 1997م)

 ـ الوهيبي , فاطمة

 مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي( الرياض, مطابع الصفحات الذهبية ط. الأولى سنة 1415هـ)

 


1 ـ أحمد عبد الغفور عطار, قطرة من يراع( المطبعة المنيرية 1375 هـ/ 1955 ), ص 128

1ـ أرسطو، كتاب أرسطو طاليس في الشعر. تحقيق د. شكري عياد (القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1993م)    ص 64

1ـ ديفد ديتش، مناهج النقد النظرية والتطبيق .ترجمة د.محمد يوسف نجم (بيروت .دار صادر سنة 1967م) ص68

2 ـ محمد مندور ، الفن التمثيلي (القاهرة ،دار المعارف ط . الثالثة ) ص72

3 ـ فاطمة الوهيبي ، مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي (الرياض،مطابع الصفحات الذهبية .ط الأولى1415هـ)

 ص19     

 

 

 

 

1 ـ المصدر السابق ص19

 

 1 - يبدو أن الكاتب حينما يتعامل مع قضايا فكرية أو دينية حساسة يلجأ إلى التوثيق؛ ينظر مثلاً مقالته عن الباطنية في كتابه قطرة من يراع ص 108 حيث ذيل المقالة بعدد من أمهات المصادر حول الموضوع.

 1ـ أحمد عبد الغفور عطار، قطرة من يراع ص 139

2 ـ المصدر السابق ص 141

1 ـ نسبة الشيخ إلى نجد قد تكون تبريرًا لعدم معرفة أهل مكة للوافد الغريب وقد أورد محققو كتاب السيرة النبوية لابن هشام في الهامش ما يلي: قال السهيلي في الروض الأنف:<< وإنما قال لهم إني من أهل نجد فيما ذكر عند بعض أهل السيرة لأنهم قالوا: لا يدخلن فيكم في المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل لهم في صورة شيخ نجدي" ينظر ابن هشام السيرة النبوية تحقيق جمال ثابت وآخران(القاهرة، دار الحديث، ط الأولى 1416هـ/ 1996م) الجزء الثاني ص 88

2ـ المصدر السابق ح2 / ص 87 – 88

1ـ ابن كثير ، البداية والنهاية ،اعتنى به د. عبدالحميد هنداوي (بيروت ،المكتبة العصرية :ط. الأولى 1421هـ/2001م) مجلد 2ص 450 ـ451

2 ـ محمد حسين هيكل ،حياة محمد (القاهرة ، دار المعارف ط.الحادية والعشرون سنة 1967م)ص177

1 ـ أحمد عبد الغفور، قطرة من يراع، الهجرة ص 142

2 ـ المصدر السابق ص 142

1 ـ المصدر السابق ص 142 ـ 143

1ـ ابن هشام، السيرة النبوية  ج2/89 ـ 90

2ـ أحمد عبد الغفور عطار، قطرة من يراع الهجرة 144

3ـ ابن كثير البداية والنهاية، مجلد 2 ص 451 ـ 452

4 ـ محمد حسين هيكل، حياة محمد ص 178

أحمد عبد الغفور عطار، قطرة من يراع ص 146

ابن هشام ،  السيرة النبوية ج2/92

ابن كثير  ،  البداية والنهاية مجلد 2ص 454

2ـ المصدر السابق مجلد 2ص 456

1 ـ ابن كثير، البداية والنهاية مجلد2 ص 458                                                                                 

2ـ أحمد عبدالغفور عطار ، قطرة من يراع ص 152

 

 1ـ ابن هشام ، السيرة النبوية ح2 / 96-97                                                                               

2 ـ ابن كثير ، البداية والنهاية المجلد الثاني 460 ـ461

3 ـ محمد حسين هيكل, حياة محمد ص 181

1ـ أحمد عبد الغفور عطار, قطرة من يراع 154

 2ـ  ابن كثير،  البداية والنهاية المجلد الثاني ص 461

1- أحمد عبد الغفور عطار, قطرة من يراع 155 ـ 156

2ـ ابن كثير , البداية والنهاية, المجلد الثاني ص 472                                                                              3ـ أحمد عبد الغفور عطار ، قطرة من يراع ص156

 

1ـ مهدي رزق الله أحمد  ،السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية :دراسة تحليلية (الرياض ، إصدارات مركز الملك فيصل للبحوث ط .  الأولى 1412هـ /1992م )ص285

1ـ ينظر فاطمة الوهيبـي ، مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي ص11

 1 ـ ينظر فاطمة الوهيبي, مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي , 11